فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد}.
فيه قولان:
أحدهما: أنه هدم بنيانهم من قواعدها وهي الأساس.
الثاني: أنه مثل ضربه الله تعالى لاستئصالهم.
{فخرّ عليهم السقف من فوقهم} فيه وجهان:
أحدهما: فخرّ أعالي بيوتهم وهم تحتها، فلذلك قال: {من فوقهم} وإن كنا نعلم أن السقف عال إلا أنه لا يكون فوقهم إذ لم يكونوا تحته، قاله قتادة.
الثاني: يعني أن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم، قاله ابن عباس.
وفي الذين خر عليهم السقف من فوقهم ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه النمرود بن كنعان وقومه حين أراد صعود السماء وبنى الصرح. فهدمه الله تعالى عليه، قاله ابن عباس وزيد بن أسلم.
الثاني: أنه بختنصر وأصحابه، قاله بعض المفسرين.
الثالث: يعني المقتسمين الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الحجر، قاله الكلبي.
قوله عز وجل: {الَّذِين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}.
قال عكرمة: نزلت هذه الآية في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها، فقتلوا، فقال الله: {الذين تتوفاهم الملائكة} يعني بقبض أرواحهم. {ظالمي أنفسهم} في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة. {فألقوا السّلَمَ} يعني في خروجهم معهم وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه الصلح، قاله الأخفش.
الثاني: الاستسلام، قاله قطرب.
الثالث: الخضوع، قاله مقاتل. {ما كنا نعمل من سوء} يعني من كفر.
{بَلَى إن الله عليمٌ بما كنتم تعملون} يعني إن أعمالهم أعمال الكفار. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
قال ابن عباس وغيره من المفسرين: الإشارة ب {الذين من قبلهم} إلى نمرود الذي بنى صرحًا ليصعد فيه إلى السماء على زعمه، فلما أفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش، بعث الله عليه رمحًا فهدمته، وخر سقفه عليه وعلى أتباعه، وقيل: جبريل هدمه بجناحه وألقى أعلاه في البحر وانحقف من أسفله، وقالت فرقة أخرى: المراد ب {الذين من قبلهم} جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى، وقوله على هذا {فأتى الله بنيانهم من القواعد} إلى آخر الآية، تمثيل وتشبيه، أي حالهم بحال من فعل به هذا، وقالت فرقة: المراد بقوله: {فخر عليهم السقف من فوقهم} أي جاءهم العذاب من قبل السماء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ينحو إلى اللعن، ومعنى قوله: {من فوقهم} رفع الاحتمال في قوله: {فخر عليهم السقف} فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته، كما تقول: انفسد عليه متاعه، وقوله: {من فوقهم} ألزم أنهم كانوا تحته، وقوله: {فأتى} أي أتى أمر الله وسلطانه، وقرأ الجمهور: {بنيانهم}، وقرأت فرقة {بنيتهم}، وقرأ جعفر بن محمد: {بيتهم}، وقرأ الضحاك: {بيوتهم}، وقرأ الجمهور: {السقْف} بسكون القاف، وقرأت فرقة بضم القاف وهي لغة فيه، وقرأ الأعرج {السُّقُف} بضم السين والقاف، وقرأ مجاهد {السُّقْف} بضم السين وسكون القاف، وقوله: {ثم يوم القيامة} الآية، ذكر الله تعالى في هذه الآية المتقدمة حال هؤلاء الماكرين في الدنيا، ثم ذكر في هذه حالهم في الآخرة وقوله: {يخزيهم} لفظ يعم جميع المكاره التي تنزل بهم، وذلك كله راجع إلى إدخالهم النار، وهذا نظير قوله: {ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته} [آل عمران: 19]، وقوله: {أين شركائي} توبيخ لهم وأضافهم إلى نفسه في مخاطبة الكفار أي على زعمكم ودعواكم، قال أبو علي: وهذا كما قال الله تعالى حكاية {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49]، وكما قال: {يا أيها الساحر ادع لنا ربك} [الزخرف: 49].
قال القاضي أبو محمد: والإضافات تترتب معقولة وملفوظًا بأَرَق سبب، وهذا كثير في كلامهم، ومنه قول الشاعر:
إذا قلت قدني قال تالله حلفة ** لتغني عني ذا إنائك أجمعا

فأضاف الإناء إلى حابسه، وقرأ البزي عن ابن كثير: {شركاي} بقصر الشركاء، وقرأت فرقة {شركاءي} بالمد وياء ساكنة، و{تشاقون} معناه تحاربون وتحارجون، أي تكون في شق والحق في شق، وقرأ الجمهور: {تشاقونَ} بفتح النون، وقرأ نافع وحده بكسر النون، ورويت عن الحسن بخلاف وضعف هذه القراءة أبو حاتم، وقد تقدم القول في مثله في الحجر في {تبشرون} [الحجر: 54]، وقرأت فرقة {تشاقونّي} بشد النون وياء بعدها، و{الذين أوتوا العلم} هم الملائكة فيما قال بعض المفسرين، وقال يحيى بن سلام: هم المؤمنون وهذا الخطاب منهم يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: والصواب أن يعم جميع من آتاه الله علم ذلك من جميع من حضر الموقف من ملك أو إنسي، وغير ذلك، وباقي الآية بين.
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}.
{الذين} نعت للكافرين في قول أكثر المتأولين، ويحتمل أن يكون {الذين} مرتفعًا بالابتداء منقطعًا مما قبله، وخبره في قوله: {فألقوا السلم} فزيدت الفاء في الخبر، وقد يجيء مثل هذا، و{الملائكة} يريد القابضين لأرواحهم، وقوله: {ظالمي أنفسهم} حال، و{السلم} هنا الاستسلام، أي رموا بأيديهم وقالوا {ما كنا نعمل من سوء} فحذف قالوا لدلالة الظاهر عليه، قال الحسن: هي مواطن بمرة يقرون على أنفسهم كما قال: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} [الأنعام: 13]، ومرة يجحدون كهذه الآية، ويحتمل قولهم: {ما كنا نعمل من سوء} وجهين، أحدهما أنهم كذبوا وقصدوا الكذب اعتصامًا منهم به، على نحو قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 2]، والآخر أنهم أخبروا عن أنفسهم بذلك على ظنهم أنهم لم يكونوا يعملون سوءًا، فأخبروا عن ظنهم بأنفسهم، وهو كذب في نفسه، و{عليم بما كنتم تعملون} وعيد وتهديد، وظاهر الآية أنها عامة في جميع الكفار، وإلقاؤهم السلم ضد مشافهتهم قبل، وقال عكرمة: نزلت في قوم من أهل مكة آمنوا بقلوبهم ولم يهاجروا فأخرجهم كفار مكة مكرهين إلى بدر، فقتلوا هنالك فنزلت فيهم هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وإنما اشتبهت عليه بالآية الأخرى التي نزلت في أولئك باتفاق من العلماء، وعلى هذا القول يحسن قطع {الذين} ورفعه بالابتداء فتأمله والقانون أن {بلى} تجيء بعد النفي ونعم تجيء بعد الإيجاب، وقد تجيء بعد التقرير، كقوله أليس كذا ونحوه، ولا تجيء بعد نفي سوى التقرير، وقرأ الجمهور: {تتوفاهم} بالتاء فوق، وقرأ حمزة: {يتوفاهم} بالياء وهي قراءة الأعمش، قال أبو زيد: أدغم أبو عمرو بن العلاء السلم {ما}، وقوله: {فادخلوا} من كلام الذي يقول {بلى}، و{أبواب جهنم} مفضية إلى طبقاتها التي هي بعض على بعض، و{الأبواب} كذلك باب على باب، و{خالدين} حال، واللام في قوله: {فلبئس} لام التأكيد.
قال القاضي أبو محمد: وذكر سيبويه، رحمه الله، وهو إجماع النحويين قال: ما علمت أن لام التأكيد لا تدخل على الفعل الماضي وإنما تدخل عليه لام القسم لكن دخلت على {بئس} لما لم تتصرف أشبهت الأسماء وبعدت عن حال الفعل من جهة أنها لا تدخل على زمان، و{المثوى} موضع الإقامة، ونعم وبئس إنما تدخلان على معرف بالألف واللام أو مضاف إلى معرف بذلك، والمذموم هنا محذوف، تقديره بئس المثوى {مثوى المتكبرين}، و{المتكبر} هنا هو الذي أفضى به كبره إلى الكفر. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} أي سبقهم بالكفر أقوام مع الرسل المتقدّمين فكانت العاقبة الجميلة للرسل.
{فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} قال ابن عباس وزيد بن أسلم وغيرهما: إنه النُّمْروذ بن كَنْعَان وقومه، أرادوا صعود السماء وقتال أهله؛ فبَنُوا الصرح ليصعَدوا منه بعد أن صنع بالنسور ما صنع، فخرّ.
كما تقدّم بيانه في آخر سورة إبراهيم.
ومعنى {فَأتَى اللَّهُ بنيانَهُم} أي أتى أمرُه البنيان، إمّا زلزلة أو ريحًا فخرّبته.
قال ابن عباس ووهب: كان طول الصَّرْح في السماء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة الاف.
وقال كعب ومقاتل: كان طوله فرسخين، فهبّت ريح فألقت رأسه في البحر وخرّ عليهم الباقي.
ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع يومئذ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانًا، فلذلك سُمّيَ بابل، وما كان لسان قبل ذلك إلا السُّرْيانية.
وقد تقدّم هذا المعنى في البقرة.
وقرأ ابن هُرْمز وابن مُحَيْصن {السُّقُف} بضم السين والقاف جميعًا.
وضم مجاهد السين وأسكن القاف تخفيفًا؛ كما تقدّم في {وبالنجم} في الوجهين.
والأشبه أن يكون جمع سقف.
والقواعد: أصول البناء، وإذا اختلت القواعد سقط البناء.
وقوله: {مِن فَوْقِهِمْ} قال ابن الأعرابي: وَكّد ليعلمَك أنهم كانوا حالِّين تحته.
والعرب تقول: خرّ علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه.
فجاء بقوله: {مِن فوقِهِم} ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب فقال: {من فوقهم} أي عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا.
وقيل: إن المراد بالسقف السماء؛ أي إن العذاب أتاهم من السماء التي هي فوقهم؛ قاله ابن عباس.
وقيل: إن قوله: {فأتى اللَّهُ بنيانَهم من القواعِدِ} تمثيل، والمعنى: أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه.
وقيل: المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه.
وقيل: المعنى أبطل مكرهم وتدبيرهم فهلكوا كما هلك من نزل عليه السقف من فوقه.
وعلى هذا اختُلف في الذين خرّ عليهم السقف؛ فقال ابن عباس وابن زيد ما تقدّم.
وقيل: إنه بُخْتَنَصّر وأصحابه؛ قاله بعض المفسرين.
وقيل: المراد المقتسمون الذين ذكرهم الله في سورة الحجر؛ قاله الكلبيّ.
وعلى هذا التأويل يخرج وجه التمثيل، والله أعلم.
{وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي من حيث ظَنوا أنهم في أمان.
وقال ابن عباس: يعني البعوضة التي أهلك الله بها نمروذًا.
قوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ} أي يفضحهم بالعذاب ويذلهم به ويهينهم.
{وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} أي بزعمكم وفي دعواكم، أي الآلهة التي عبدتم دوني، وهو سؤال توبيخ.
{الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أي تعادون أنبيائي بسببهم، فليدفعوا عنكم هذا العذاب.
وقرأ ابن كثير: {شُرَكَايَ} بياء مفتوحة من غير همز، والباقون بالهمز.
نافع: {تُشَاقُّونِ} بكسر النون على الإضافة، أي تعادونني فيهم.
وفتحها الباقون.
{قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} قال ابن عباس: أي الملائكة.
وقيل المؤمنون.
{إِنَّ الخزي اليوم} أي الهوان والذل يوم القيامة.
{والسواء} أي العذاب.
{عَلَى الكافرين}.
قوله تعالى: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}.
هذا من صفة الكافرين.
و{ظَالمِي أَنْفُسِهِم} نصب على الحال؛ أي وهم ظالمون أنفسهم إذ أوردوها موارد الهلاك.
{فَأَلْقَوُاْ السلم} أي الاستسلام.
أي أقرّوا لله بالربوبية وانقادوا عند الموت وقالوا: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} أي من شرك.
فقالت لهم الملائكة: {بلى} قد كنتم تعملون الأسواء.
{إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال عكرمة: نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فأخرجتهم قريش إلى بدر كرها فقُتِلوا بها؛ فقال: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة} بقبض أرواحهم.
{ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} في مقامهم بمكة وتركهم الهجرة.
{فَأَلْقَوُاْ السلم} يعني في خروجهم معهم.
وفيه ثلاثة أوجه: أحدها أنه الصلح؛ قاله الأخفش.
الثاني الاستسلام؛ قاله قُطْرُب.
الثالث الخضوع؛ قاله مقاتل.
{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} يعني من كفر.
{بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني أن أعمالكم أعمال الكفار.
وقيل: إن بعض المسلمين لما رأوا قلة المؤمنين رجعوا إلى المشركين؛ فنزلت فيهم.
وعلى القول الأول فلا يخرج كافر ولا منافق من الدنيا حتى ينقاد ويستسلِم، ويخضع ويذل، ولا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان؛ كما قال: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85]، وقد تقدّم هذا المعنى.
وتقدّم في الأنفال إن الكفار يتوفّون بالضرب والهوان، وكذلك في الأنعام.
وقد ذكرناه في كتاب التذكرة.
قوله تعالى: {فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} أي يقال لهم ذلك عند الموت.
وقيل: هو بشارة لهم بعذاب القبر؛ إذ هو باب من أبواب جهنم للكافرين.
وقيل: لا تصل أهل الدركة الثانية إليها مثلًا إلا بدخول الدركة الأولى ثم الثانية والثالثة هكذا.
وقيل: لكل دركة باب مفرد، فالبعض يدخلون من باب والبعض يدخلون من باب آخر.
فالله أعلم.
{خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها.
{فَلَبِئْسَ مَثْوَى} أي مقام {المتكبرين} الذين تكبّروا عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى، وقد بيّنهم بقوله الحق: {إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]. اهـ.