فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}.
لمّا ذكر عاقبة إضلالهم وصدّهم السائلين عن القرآن والإسلام في الآخرة أتبع بالتهديد بأن يقع لهم ما وقع فيه أمثالهم في الدّنيا من الخزي والعذاب مع التأييس من أن يبلغوا بصنعهم ذلك مبلغ مرادهم، وأنهم خائبون في صنعهم كما خاب من قبلهم الذين مكَروا برسلهم.
ولما كان جوابهم السائلين عن القرآن بقولهم هو {أساطير الأولين} [سورة النحل: 24]. مظهرينه بمظهر النصيحة والإرشاد وهم يريدون الاستبقاء على كفرهم، سمّي ذلك مكرًا بالمؤمنين، إذ المكر إلحاق الضرّ بالغير في صورة تمويهه بالنّصح والنّفع، فنُظّر فعلهم بمكر من قبلهم، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم مثل قوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم فرعون، قال تعالى في قوم صالح: {ومكروا مكرًا ومكرنا مكرًا} [سورة النحل: 50]. الآية، وقال: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} [سورة الأنعام: 123].
فالتعريف بالموصول في قوله تعالى: {الذين من قبلهم} مساوٍ للتعريف بلام الجنس.
ومعنى {أتى الله بنيانهم} استعارة بتشبيه القاصد للانتقام بالجائي نحو المنتقم منه، ومنه قوله تعالى: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} [سورة الحشر: 2].
وقوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} تمثيل لحالات استئصال الأمم، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول.
أي المبنى، وهو هنا مستعار للقوّة والعزّة والمنعة وعلوّ القدر.
وإطلاق البناء على مثل هذا وارد في فصيح الكلام.
قال عبدة بن الطبيب:
فما كان قيس هُلْكُه هُلْكَ واحد ** ولكنّه بنيان قوم تهدّما

وقالت سعدة أمّ الكميت بن معروف:
بنى لك معروفٌ بناء هدمته ** وللشرف العاديّ بانٍ وهادم

و{من القواعد} متعلق بـ {أتى}.
{ومِن} ابتدائيّة، ومجرورها هو مبْدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال، فهو في معنى هدمه.
و{القواعد} الأسس والأساطين التي تجعل عَمدًا للبناء يقام عليها السقف.
وهو تخييل أو ترشيح، إذ ليس في الكلام شيء يشبّه بالقواعد.
والخرور: السقوط والهويّ، ففعل خرّ مستعار لِزوال ما به المنعة نظير قوله تعالى: {يخرّبون بيوتهم بأيديهم} [سورة الحشر: 2].
{والسّقْف} حقيقته غطاء الفراغ الذي بين جدران البيت، يجعل على الجدران ويكون من حَجر ومن أعواد، وهو هنا مستعار لما استعير له البناء.
و{من فوقهم} تأكيد لجملة {فسخرّ عليهم السّقف}.
ومن مجموع هذه الاستعارات تتركّب الاستعارة التمثيليّة.
وهي تشبيه هيئة القوم الّذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العزّة بهيئة قوم أقاموا بنيانًا عظيمًا ذا دعائم وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده فخرّ سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعًا.
فهذا من أبدع التمثيليّة لأنها تنحلّ إلى عدّة استعارات.
وجملة {وأتاهم العذاب} عطف على جملة {فأتى الله بنيانهم من القواعد}.
وأل في {العذاب} للعهد فهي مفيدة مضمون قوله: {من فوقهم} مع زيادة قوله تعالى: {من حيث لا يشعرون}.
فباعتبار هذه الزيادة وردت معطوفة لحصول المغايرة وإلا فإن شأن الموكدة أن لا تعطف.
والمعنى أن العذاب المذكور حلّ بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فَجْأ أشدّ نكاية لما يصحبه من الرّعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجًا فإنّ النّفس تتلقّاه بصبر.
{ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ}.
عطف على {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة} [سورة النحل: 25]، لأن ذلك وعيد لهم وهذا تكملة له.
وضمير الجمع في قوله تعالى: {يخزيهم} عائد إلى ما عاد إليه الضمير المجرور باللام في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم} [سورة النحل: 24].
وذلك عائد إلى {الذين لا يؤمنون بالآخرة} [سورة النحل: 22].
و{ثمّ} للتّرتيب الرّتبي، فإنّ خزي الآخرة أعظم من استئصال نعيم الدّنيا.
والخِزي: الإهانة.
وقد تقدّم عند قوله تعالى: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدّنيا} في سورة البقرة (85).
وتقديم الظرف للاهتمام بيوم القيامة لأنّه يوم الأحوال الأبديّة فما فيه من العذاب مهول للسّامعين.
و{أين} للاستفهام عن المكان، وهو يقتضي العلم بوجود من يحلّ في المكان.
ولما كان المقام هنا مقام تهكّم كان الاستفهام عن المكان مستعملًا في التهكّم ليظهر لهم كالطماعية للبحث عن آلهتهم، وهم علموا أن لا وجود لهم ولا مكان لحلولهم.
وإضافة الشركاء إلى ضمير الجلالة زيادة في التوبيخ، لأنّ مظهر عظمة الله تعالى يومئذٍ للعيان ينافي أن يكون له شريك، فالمخاطبون عالمون حينئذٍ بتعذّر المشاركة.
والموصول من قوله تعالى: {الذين كنتم تشاقون فيهم} للتّنبيه على ضلالهم وخطئهم في ادعاء المشاركة مثل الذي في قول عبدة:
إنّ الّذينَ ترونهم إخْوَانَكم ** يشفي غليلَ صدورهم أن تصرعوا

والمشاقّة: المُشادة في الخصومة، كأنّها خصومة لا سبيل معها إلى الوفاق، إذ قد صار كلّ خصم في شِقّ غير شقّ الآخر.
وقرأ نافع: {تشقونِ} بكسر النون على حذف ياء المتكلّم، أي تعاندونني، وذلك بإنكارهم ما أمرهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وقرأ البقيّة {تَشاقّون} بفتح النون وحُذف المفعول للعلم، أي تعاندون من يدعوكم إلى التّوحيد.
و{في} للظرفيّة المجازيّة مع حذف مضاف، إذ المشاقّة لا تكون في الذوات بل في المعاني.
والتّقدير: في إلهيتهم أو في شأنهم.
جملة ابتدائية حكت قول أفاضل الخلائق حين يسمعون قول الله تعالى على لسان ملائكة العذاب: {أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم}.
وجيء بجملة {قال الذين أوتوا العلم} غير معطوفة لأنها واقعة موقع الجواب لقوله: {أين شركائي} للتّنبيه على أنّ الّذين أوتوا العلم ابتدروا الجواب لما وجم المشركون فلم يحيروا جوابا، فأجاب الّذين أوتوا العلم جوابًا جامعًا لنفي أن يكون الشركاء المزعومون مغنين عن الّذين أشركوا شيئًا، وأنّ الخزي والسوء أحاطا بالكافرين.
والتعبير بالماضي لتحقيق وقوع القول.
والّذين أوتوا العلم هم الذين آتاهم الله علم الحقائق من الرّسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنون، كقوله تعالى: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} [سورة الروم: 56]، أي يقولون في ذلك الموقف من جرّاء ما يشاهدوا من مُهيّأ العذاب للكافرين كلامًا يدلّ على حصر الخزي والضرّ يوم القيامة في الكون على الكافرين.
وهو قصر ادعائي لبلوغ المُعرف بلام الجنس حدّ النّهاية في جنسه حتّى كأنّ غيره من جنسه ليس من ذلك الجنس.
وتأكيد الجملة بحرف التوكيد وبصيغة القصر والإتيان بحرف الاستعلاء الدّال على تمكّن الخزي والسوء منهم يفيد معنى التّعجّب من هول ما أعدّ لهم.
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ}.
القرينة ظاهرة على أنّ قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} ليست من مقول الذين أوتوا العلم يوم القيامة، إذ لا مناسبة لأن يعرّف الكافرون يوم القيامة بأنهم الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنْفُسهم؛ فإن صيغة المضارع في قوله تعالى: {تتوفاهم الملائكة} قريبة من الصريح في أن هذا التوفّي محكيّ في حال حصوله وهم يوم القيامة مضت وفاتهم ولا فائدة أخرى في ذكر ذلك يومئذٍ، فالوجه أن يكون هذا كلامًا مستأنفًا.
وعن عكرمة: نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكّة ولم يهاجروا فأخرجهم قريش إلى بدْر كَرهًا فقُتلوا ببدر.
فالوجه أن {الذين تتوفاهم الملائكة} بدل من {الذين} في قوله تعالى: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة} [سورة النحل: 22]. أو صفة لهم، كما يومىء إليه وصفهم في آخر الآية بالمتكبّرين في قوله تعالى: {فلبئس مثوى المتكبرين}، فهم الّذين وصفوا فيما قبل بقوله تعالى: {وهم مستكبرون} [سورة النحل: 22]، وما بينهما اعتراض.
وإن أبيت ذلك لبعد ما بين المتبوع والتّابع فاجعل {الذين تتوفاهم الملائكة} خبرًا لمبتدإ محذوف.
والتقدير: هم الذين تتوفاهم الملائكة.
وحذف المسند إليه جار على الاستعمال في أمثاله من كلّ مسند إليه جرى فيما سلف من الكلام.
أخبر عنه وحدث عن شأنه، وهو ما يعرف عند السكاكي بالحذف المتّبع فيه الاستعمال.
ويقابل هذا قوله تعالى فيما يأتي: {الذين تتوفّاهم الملائكة طيبين} [سورة النحل: 32]. فإنه صفة {للذين اتقوا} [سورة النحل: 30]. فهذا نظيره.
والمقصود من هذه الصلة وصف حالة الذين يموتون على الشّرك؛ فبعد أن ذكر حال حلول العذاب بمن حلّ بهم الاستئصال وما يحلّ بهم يوم القيامة ذكرت حالة وفاتهم التي هي بين حالي الدّنيا والآخرة، وهي حال تعرض لجميعهم سواء منهم من أدركه الاستئصال ومن هلك قبل ذلك.
وأطبق من تصدّى لربطه بما قبله من المفسّرين، على جعل {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} الآية بَدلًا من {الكافرين} في قوله تعالى: {إن الخزى اليوم والسوء على الكافرين} [سورة النحل: 27]، أو صفة له.
وسكت عنه صاحب الكشاف {وهو سكوت مِن ذهب}.
وقال الخفاجي: وهو يصحّ فيه أن يكون مقولًا للقول وغير مندرج تحته.
وقال ابن عطيّة: ويحتمل أن يكون {الذين} مرتفعًا بالابتداء منقطعًا مما قبله وخبره في قوله: {فألقوا السلم} [سورة النحل: 28]. اهـ.
واقتران الفعل بتاء المضارعة التي للمؤنث في قراءة الجمهور باعتبار إسناده إلى الجماعة.
وقرأ حمزة وخلف: {يتوفّاهم} بالتحتية على الأصل.
وظلم النّفس: الشّرك.
والإلقاء: مستعار إلى الإظهار المقترن بمذلّة.
شبّه بإلقاء السّلاح على الأرض، ذلك أنّهم تركوا استكبارهم وإنكارهم وأسرعوا إلى الاعتراف والخضوع لما ذاقوا عذاب انتزاع أرواحهم.
والسَلَم بفتح السين وفتح اللاّم الاستسلام.
وتقدّم الإلقاء والسَلَم عند قوله تعالى: {وألقوا إليكم السّلم} في سورة النساء (90).
وتقدم الإلقاء الحقيقي عند قوله تعالى: {وألقى في الأرض رواسي} في أول هذه السورة (15).
ووصفهم بـ {ظالمي أنفسهم} يرمي إلى أن توفّي الملائكة إيّاهم ملابس لغلظة وتعذيب، قال تعالى: {ولو ترى إذ يتوفّى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} [سورة الأنفال: 50].
وجملة {ما كنا نعمل من سوء} مقول قول محذوف دلّ عليْه {ألقوا السلم}، لأن إلقاء السَلَم أوّل مظاهره القول الدّال على الخضوع.
يقولون ذلك للملائكة الّذين ينتزعون أرواحهم ليكفّوا عنهم تعذيب الانتزاع، وهم من اضطراب عقولهم يحسبون الملائكة إنما يجرّبونهم بالعذاب ليطّلعوا على دخيلة أمرهم، فيحسبون أنهم إن كذبوهم رَاج كذبهم على الملائكة فكفّوا عنهم العذاب، لذلك جحدوا أن يكونوا يعملون سوءًا من قبل.
ولذلك فجملة {بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون} جواب الملائكة لهم، ولذلك افتتحت بالحرف الّذي يبطل به النّفي وهو {بلى}.
وقد جعلوا علم الله بما كانوا يعملون كناية عن تكذيبهم في قولهم: {ما كنا نعمل من سوء}، وكناية على أنّهم ما عاملوهم بالعذاب إلاّ بأمر من الله تعالى العالم بهم.
وأسندوا العلم إلى الله دون أن يقولوا: إنّا نعلم ما كنتم تعملون، أدبًا مع الله وإشعارًا بأنهم ما علموا ذلك إلاّ بتعليم من الله تعالى.
وتفريع {فادخلوا أبواب جهنم} على إبطال نفيهم عمل السّوء ظاهر، لأنّ إثبات كونهم كانوا يعملون السّوء يقتضي استحقاقهم العذاب، وذلك عندما كشف لهم عن مقرّهم الأخير، كما جاء في الحديث: «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار».
ونظيره قوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفّى الّذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} [سورة الأنفال: 50].
وجملة {فلبئس مثوى المتكبرين} تذييل.
يحتمل أن يكون حكاية كلام الملائكة، والأظهر أنّه من كلام الله الحكاية لا من المحكيّ، ووصفهم بالمتكبّرين يرجّح ذلك، فإنّه لربط هذه الصفة بالموصوف في قوله تعالى: {قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} [سورة النحل: 22].
واللّام الدّاخلة على بئس لام القسم.
والمثوى.
المرجع.
من ثوى إذا رجع، أو المقام من ثوى إذا أقام.
وتقدّم في قوله تعالى: {قال النار مثواكم} في سورة الأنعام (128).
ولم يعبّر عن جهنّم بالدار كما عبّر عن الجنّة فيما يأتي بقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين} [سورة النحل: 30]. تحقيرًا لهم وأنّهم ليسوا في جهنّم بمنزلة أهل الدّار بل هم متراصّون في النار وهم في مثوى، أي محل ثواء. اهـ.