فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا} أي المؤمنين، وُصفوا بالتقوى إشعارًا بأن ما صدر عنهم من الجواب ناشىءٌ عن التقوى {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} سلكوا في الجواب مسلك السؤالِ من غير تلعثم ولا تغييرٍ في الصورة، والمعنى أي أنزل خيرًا فإنه جوابٌ مطابق للسؤال ولسبك الواقع في نفس الأمر مضمونًا، وأما الكفرةُ فإنهم خذلهم الله تعالى كما غيروا الجوابَ عن نهج الحق الواقعِ الذي ليس له من دافع غيّروا صورتَه وعدَلوا بها عن سَنن السؤال حيث رفعوا الأساطير رَومًا لما مر من إنكار النزول. رُوي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي عليه السلام، فإذا جاء الوافد كفّه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا: إن لم تلْقَه كان خيرًا لك، فيقول: أنا شرُّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمرَ محمد وأراه فيلقى أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فيخبرونه بحقيقة الحالِ فهم الذين قالوا خيرًا {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} أي أعمالَهم أو فعلوا الإحسانَ {فِى هذه} الدار {الدنيا حَسَنَةٌ} أي مثوبةٌ حسنةٌ مكافأة فيها {وَلَدَارُ الآخرة} أي مثوبتُهم فيها {خَيْرٌ} مما أوتوا في الدنيا من المثوبة أو خيرٌ على الإطلاق فيجوز إسنادُ الخيرية إلى نفس دارِ الآخرة {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} أي دار الآخرة، حذف لدلالة ما سبق عليه وهذا كلام مبتدأ مدَح الله تعالى به المتقين وعدّ جوابَهم المَحْكيَّ من جملة إحسانِهم ووعدهم بذلك ثوابي الدنيا والآخرة فلا محل له من الإعراب، أو بدلٌ من خيرًا أو تفسير له أي أنزل خيرًا هو هذا الكلامُ الجامعُ، قالوه ترغيبًا للسائل.
{جنات عَدْنٍ} خبرُ مبتدإٍ محذوف أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي لهم جنات، ويجوز أن يكون هو المخصوصَ بالمدح {يَدْخُلُونَهَا} صفةٌ لجناتُ على تقدير تنكيرِ عدنٍ وكذلك {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أو كلاهما حال على تقدير عَلَميته {لَّهُمْ فِيهَا} في تلك الجنات {مَا يَشَاءونَ} الظرفُ الأول خبرٌ لما والثاني حالٌ منه والعاملُ ما في الأول، أو متعلق به أي حاصلٌ لهم فيها ما يشاءون من أنواع المشتَهيات، وتقديمُه للاحتراز عن توهم تعلّقِه بالمشيئة أو لما مر مرارًا من أن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ يوجب ترقبَ النفسِ إليه فيتمكن عند ورودِه عليها فضلَ تمكن {كذلك} مثلَ ذلك الجزاء الأوفى {يَجْزِى الله المتقين} اللام للجنس أي كلَّ من يتقي من الشِرْك والمعاصي ويدخُل فيه المتقون المذكورون دخولًا أوليًا، ويكون فيه بعثٌ لغيرهم على التقوى أو للعهد فيكون فيه تحسيرٌ للكفرة.
{الذين تتوفاهم الملائكة} نعت للمتقين وقوله تعالى: {طَيّبِينَ} أي طاهرين عن دنس الظلمِ لأنفسهم حال من الضمير، وفائدتُه الإيذانُ بأن مَلاكَ الأمر في التقوى هو الطهارةُ عما ذكر إلى وقت توفيهم ففيه حثٌّ للمؤمنين على الاستمرار على ذلك، ولغيرهم على تحصيله، وقيل: فرحين طيِّبي النفوسِ ببشارة الملائكة إياهم بالجنة أو طيبين بقبض أرواحِهم لتوجه نفوسِهم بالكلية إلى جناب القُدس {يَقُولُونَ} حالٌ من الملائكة أو قائلين لهم: {سلام عَلَيْكُمُ} قال القُرَظِيّ رحمه الله: إذا استُدْعيَت نفسُ المؤمن جاءه ملكُ الموت عليه السلام، فقال: السلام عليك يا وليَّ الله، الله تعالى يقرأ عليك السلام، وبشّره بالجنة.
{ادخلوا الجنة} اللام للعهد أي جناتِ عدن إلخ، ولذلك جُرّدت عن النعت، والمرادُ دخولُهم لها في وقته فإن ذلك بشارةٌ عظيمة وإن تراخى المبشَّرُ به لا دخولُ القبر الذي هو روضةٌ من رياضها إذ ليس في البِشارة به ما في البشارة بدخول نفسِ الجنة {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بسبب ثباتِكم على التقوى والطاعة أو بالذي كنتم تعملونه من ذلك، وقيل: المرادُ بالتوفّي التوفي للحشر، لأن الأمر بالدخول حينئذ يتحقق. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا} أي المؤمنين، وصفوا بذلك اشعارًا بأن ما صدر عنهم من الجواب ناشىءمن التقوى.
{مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} أي أنزل خيرًا {فَمَاذَا} اسم واحد مركب للاسفهام بمعنى أي شيء محله النصب {بأنزل} و{الله خَيْرًا} مفعول لفعل محذوف، وفي اختيار ذلك دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة حيث عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو {أساطير الاولين} وليس من الإنزال في شيء.
نعم قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {خَيْرٌ} بالرفع فما اسم استفهام و{ذَا} اسم موصول بمعنى الذي أي أي شيء الذي أنزله ربكم، و{خَيْرٌ شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا} منصوبًا على المفعولية كما مر ورفع {خَيْرٌ} على الخبرية لمبتدأ جائز إلا أنه خلاف الأول، وفي الكشف أنه يظهر من الوقوف على مراد صاحب الكشاف في هذا المقام إن فائدة النصب مع أن الرفع أقوى دفع الالتباس ليكون نصًّا في المطلوب كما أوثر النصب في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شيء خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. لذلك، وينحل مراده من ذلك بالرجوع إلى ما نقلناه عنه سابقًا والتأمل فيه فتأمل فإنه دقيق.
هذا ولم نجد في السائل هنا خلافًا كما في السائل فيما تقدم، والذي رأيناه في كثير مما وقفنا عليه من التفاسير أن السائل الوفد الذي كان سائلًا أو لا في بعض الأقوال المحكية هناك، وذكر أنه السائل في الموضعين كثير منهم ابن أبي حاتم، فقد أخرج عن السدى قال اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسًا من أشرافكم المعدودين المعروفة انسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافد لقومه ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بهم قالوا له: يا فلان ابن فلان فيعرفه بنسبه ويقول: أنا أخبرك عن محمد صلى الله عليه وسلم هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أساطير الاولين} [النحل: 24]. فإذا كان الوافد ممن عزم الله تعالى له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وانظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون: خيرًا إلخ، نعم يجوز عقلا أن يكون السائل بعضهم لبعض ليقوى ما عنده بجوابه أو لنحو ذلك كالاستلذاذ بسماع الجواب وكثيرًا ما يسأل المحب عما يعلمه من أحوال محبوبه استلذاذًا بمدامة ذكره وتشنيفا لسمعه بسني دره:
الا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ** ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر

بل يجوز أيضًا أن يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة {فِى هذه} الدار {الدنيا حَسَنَةٌ} مثوبة حسنة جزاء إحسانهم، والجار والمجرور متعلق بما بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا، والمراد بها على ما روي عن الضحاك النصر والفتح، وقيل: المدح والثناء منه تعالى، وقال الإمام: يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات والمشاهدات والالطاف كقوله تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17]، وقيل: متعلق بما قبله، وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير مثله متعلقًا بما بعد أولا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة لاحسانهم في الدنيا في الآخرة، واقتصر بعضهم على هذا الاحتمال، والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا، واختير كونه متعلقًا بما بعد لأنه الأوفق بقوله سبحانه: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} والكلام كما يشعر به كلام غبر واحد على حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب.
وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية والزجاج وابن الأنباري وغيرهم، وهذا كلام مبتدأ عدة منه تعالى الذين اتقوا على قولهم، وهو في الوعد هاهنا نظير {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ} [النحل: 25]. في الوعيد فيما مر، وجوز أن يكون {خَيْرًا} مفعول {قَالُواْ} وعمل فيه لأنه في معنى الجملة كمقال قصيده أو صفة مصدر أي قولًا خيرًا، وهذه الجملة بدل منه فمحلها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من الأعراب، وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} إلخ. إلا أن الله سبحانه سماه خيرًا ثم حكاه كما تقول: قال فلان جميلًا من قصدنا وجب حقه علينا، وعلى ما ذكر لا يكون دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث شهادة الله تعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما الكشف مفعول {أَنَزلَ} ويكون تسميته خيرًا من الله تعالى كما قوله سبحانه: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9]. ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى فهم معناه؛ وأما قولهم: {للذين أحسنوا} أي قالوا أنزل هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى، وزعم بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوبًا بأنزل لأن هذا القول ليس منزلًا من الله تعالى، وفيه تفوت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشىء من قلة التدبر.
وفي البحر الظاهر أن {لِلَّذِينَ} إلخ. مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله تعالى في الوحي، وظاهره أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضًا، ولعل اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب للسائل، والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه الوجه.
{جنات عَدْنٍ} خبر مبتدأ محذوف كما اختاره الزجاج وابن الأنباري أي هي جنات، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي لهم جنات أو هو المخصوص بالمدح {يَدْخُلُونَهَا} نعت لجنات عند الحوفي بناء على أن {عَدْنٍ} نكرة وكذلك {تَجْري منْ تَحْتَها الأنْهَارُ} وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم.
وجوزوا أن يكون وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم.
وجوزوا أن يكون {جنات} مبتدأ وجملة {يدخلونها} خبره وجملة تجري الخ حال، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن {جنات} بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها، قال أبو حيان: وهذه القراءة تقوى كون {جنات} مرفوعًا مبتدأ والجملة بعده خبره، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {ولنعمة دار المتقين} [النحل: 30]. بتاء مضمومة ودار مخفوضة فيكون {نعمة} مبتدأ مضافًا إلى دار وجنات خبره.
وقرأ إسمعيل بن جعفر عن نافع: {يدخلونها} بالياء على الغيبة والفعل مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر، وشيبة {لَّهُمْ فِيهَا} أي في تلك الجنات {مَا يَشَاءونَ} الظرف الأول خبر لما والثاني حال منه، والعامل ما في الأول من معنى الحصول والاستقرار أو متعلق به لذلك أي حاصل لهم فيها ما يشاؤون من أنواع المشتهيات وتقديمه للاحتراز عن توهم تعلقه بالمشيئة أو لما مر غير مرة من أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده فضل تمكن.
وذكر بعضهم أن تقديم فيها للحصر وما للعموم بقرينة المقام فيفيد أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة فتأمله.