فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجملة في موضع الحال نظير ما تقدم، وزعم أن لهم متعلق بتجري أي تجري من تحتها الأنهار لنفعهم {وفيها ما يشاؤون} مبتدأ وخبر في موضع الحال لا يخفى حاله عند ذوي التمييز {كذلك} مثل ذلك الجزاء إلا وفي {يَجْزِى الله المتقين} أي جنسهم فيشمل كل من يقتي من الشرك والمعاصي وقيل من الشرك ويدخل فيه المتقون المذكورون دخولًا أوليًا ويكون فيه بعث لغيرهم على التقوى أو المذكورين فيكون فيه تحسير للكفرة، قيل: وهذه الجملة تؤيد كون قوله سبحانه: {للذين أحسنوا} [النحل: 30]. عدة فإن جعل ذلك جزاء لهم ينظر إلى الوعد به من الله تعالى وإذا كان مقول القول لا يكون من كلامه تعالى حتى يكون وعدًا منه سبحانه، وقيل: إنها تؤيد كون {جنات} خبر مبتدأ محذوف لا مخصوصًا بالمدح لأنه إذا كان مخصوصًا بالمدح يكون كالصريح في أن {جنات عدن} جزاء للمتقين فيكون {كذلك} الخ تأكيدًا بخلاف ما إذا كان خبر مبتدأ محذوف فإنه لم يعلم صريحًا أن جنات عدن جزاء للمتقين وفيه نظر وكذا في سابقه إلا أن في التعبير بالتأبيد ما يهون الأمر.
{الذين تتوفاهم الملائكة} نعت للمتقين وجوز قطعه، وقوله سبحانه: {طَيّبِينَ} حال من ضميرهم، ومعناه على ما روي عن أبي معاذ طاهرين من دنس الشرك وهو المناسب لجعله في مقابلة {ظالمي أنفسهم} [النحل: 28]. في وصف الكفرة بناء على أن المراد بالظلم أعظم أنواعه وهو الشرك لكن قيل عليه: إن ذكر الطهارة عن الشرك وحده لا فائدة فيه بعد وصفهم بالتقوى.
وأجيب بأن فائدة ذلك الإشارة إلى أن الطهارة عن الشرك هي الأصل الأصيل.
وفي إرشاد العقل السليم بعد تفسير الظلم بالكفر وتفسير طيبين بطاهرين عن دنس الظلم وجعله حالًا قال: وفائدته الايذان بأن ملاك الأمر في التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم، ففيه حث للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله.
وقال مجاهد: المراد بطيبين زاكية أقوالهم وأفعالهم، وهو مراد من قال: طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وإلى هذا ذهب الراغب حيث قال: الطيب من الإنسان من تعرى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال وتحلي بالعلم والإيمان ومجاسن الأعمال وإياهم قصد بقوله سبحانه: {الذين تتوفاهم الملائكة طَيّبِينَ}.
وانتصر لذلك بأن وصفهم بأنهم متقون موعودون بالجنة في مقابلة الأعمال يقتضي ما ذكر، وحملوا الظلم فيما مر على ما يعم الكفر والمعاصي لأن ذلك مجاب بقولهم: {ما كنا نعمل من سوء} [النحل: 28]. فلا تفوت المناسبة في جعل هذا مقابلًا لذاك لكن في الاستدلال بما ذكر في الجواب على إرادة العام ما لا يخفى، والكثير على تفسير الطيب بالطاهر عن قاذورات الذنوب مطابق الذي لا خبث فيه، وقيل: المعنى فرحين ببشارة الملائكة عليهم السلام إياهم أو بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس، فالمراد بالطيب طيب النفس وطيبها عبارة عن القبول مع انشراح الصدر {يَقُولُونَ} حال من الملائكة، وجوز أن يكون {الذين} مبتدأ خبره هذه الجملة أي قائلين أو قائلون لهم: {سلام عَلَيْكُمُ} لا يحيقكم بعد مكروه.
قال القرطبي: وروى نحوه البيهقي عن محمد بن كعب القرظي إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت عليه السلام فقال: السلام عليك يا ولي الله إن الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة {ادخلوا الجنة} التي أعدها الله تعالى لكم ووعدكم إياها وكأنها إنما لم توصف لشهرة أمرها.
وفي إرشاد العقل السليم اللام للعهد أي {جنات عَدْنٍ} [النحل: 31]. إلخ، ولذلك جردت عن النعت وهو كما ترى، والمراد دخولهم فيها بعد البعث بناء على أن المتبارد الدخول بالأرواح والأبدان والمقصود من الأمر بذلك قبل مجيء وقته البشارة بالجنة على أتم وجه ويجوز أن يراد الدخول حين التوفي بناء على حمل الدخول على الدخول بالأرواح كما يشير إليه خبر: «القبر روضة من رياض الجنة» وكون البشار بذلك دون البشارة بدخول الجنة على المعنى الأول لا يمنع عن ذلك على أن لقائل أن يقول: إن البشارة بدخول الجنة بالأرواح متضمنة للبشارة بدخولها بالأرواح والأبدان عند وقته؛ وكون هذا القول كسابقه عند قبض الأرواح هو المروي عن ابن مسعود وجماعة من المفسرين، وقال مقاتل والحسن: إن ذلك يوم القيامة، والمراد من التوفي وفاة الحشر أعني تسليم أجسادهم وإيصالها إلى موقف الحشر من توفى الشيء إذا أخذه وافيًا، وجوز حمل التوفيس على المعنى المتعارف مع كون القول يوم القيامة إما بجعل {الذين تتوفاهم الملائكة} [النحل: 28]. يقولون مبتدأ وخبرًا أو بجعل يقولون حالًا مقدرة من الملائكة {والذين} على حاله أولا وحال ذلك لا يخفى {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة بالذي كنتم تعملونه من ذلك، والباء للسببية العادية، وهي فيما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل الجنة أحدكم بعمله» الحديث للسببية الحقيقية فلا تعارض بين الآية والحديث وبعضهم جعل الباء للمقابلة دفعًا للتعارض. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا}.
ذكرجل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين إذا سئلا عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنزل عليه خيرًا. اي رحمة وهدى وبركة لمن اتبعه وآمن به، ويفهم من صفة أهل هذا الجواب بكونهم متقين- أن غير المتقين يجيبون جوابًا غير هذا، وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في قوله عن غير المتقين وهم الكفار: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} [النحل: 24]. كما تقدم.
قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أحسن عمله في هذه الدار التي هي الدنيا كان له عند الله الجزاء الحسن في الآخرة، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [يونس: 26]. الآية، والحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله: {وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [النجم: 31]، وقوله: {هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60]، وقوله: {مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [النمل: 89]، وقوله فيه هذه الآية {حسنة} اي مجازاة حسنة بالجنة ونعيمها، والآيات في مثل ذلك كثيرة.
قوله تعالى: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن دار الآخرو خير من دار الدنيا، وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله: {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ} [القصص: 80]. الآية، وقوله: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]، وقوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 16-17]، وقوله: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4]، وقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب قُلْ اؤنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله والله بَصِيرٌ بالعباد} [آل عمران: 14-15]. الآية، وقوله: {خير} صيغة تفضيل، حذفت همزتها لكثرة الاستعمال تخفيفًا، وإليه أشار ابن مالك في الكافية بقوله:
وغالبًا أغناهم خير وشر ** عن قولهم أخير منه وأشر

وإنما لتلك الدار: الدار الآخرة. لأنها هي آخر المنازل، فلا انتقال عنها ألبتة إلى دار أخرى.
والإنسان قبل الوصول إليها ينتقل من محل إلى محل. فأول ابتدائه من التراب، ثم انتقل من أصل التراب إلى أصل النطفة، ثم إلى العلقة، قم إلى المضغة، ثم إلى العظام، ثم كسا اله العظام لحمًا، وأنشأها خلقًا آخر، وأخرجه للعالم في هذه الدار، ثم ينتقل إلى القبر، ثم إلى المحشر، ثم يتفرقون {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} [الزلزلة: 6]. فسالك ذات اليمين إلى النار، وسالك ذات الشمال إلى النار {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخرة فأولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ}.
[الروم: 14-16].
فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار- فعند ذلك تلقى عصا التسيار، ويذبح الموت، ويقال: يأهل الجنة خلود فلا موت! ويأهل النار خلود فلا موت! ويبقى ذلك دائمًا لا انقطاع له ولا تحول عنه إلى محل آخر.
فهذا معنى وصفها بالآخرة. كما أوضحه جل وعلا بقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَامًا فَكَسَوْنَا العظام لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12-16].
تنبيه:
أضاف جل وعلا في هذه الآية الكريمة الدار إلى الآخرة، مع أن الدار هي الدار الآخرة بدليل قوله: {وَلَدَارُ الآخرة} الآية، بتعريف الدار ونعتها بالآخرة في غير هذا الموضع، وعلى مقتضى قول ابن مالك في الخلاصة:
ولا يضاف اسم لما به اتحد ** معنى وأول موهما إذا ورد

فإن لفظ {الدار} يؤول بمسمى الآخرة، وقد بينا في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة فاطر في الكلام على قوله: {ومكر السيء} أن الذي يظهر لنا أن إضافة الشيء إلى نفسه بلفظين مختلفين- أسلوب من أساليب اللغة العربية. لتنزيل التغاير في اللفظ منزلة التغاير في المعنى، وبينا كثرته في القرآن، وفي كلام العرب، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين}.
مدح الله جل وعلا دار المتقين التي هي الجنة في هذه الاية الكريمة. لأن {نعم} فعل جامد لإنشار المدح، وكرر الثناء عليها في آيات كثيرة. لأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. كما قال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]. الآية، وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًا.
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين يدخلون يوم القيامة جنات عدن، والعدم في لغة العرب: الإقامة. فمعنى جنات عدن: جنات إقامة في النعيم، لا يرحلون عنها، ولا يتحولون.
وبين في آيات كثيرة: أنهم مقيمون في الجنة على الدوام، كما أشار له هنا بلفظة {عدن}، كقوله: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108]، وقوله: {الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ} [فاطر: 35]. الآية، والمقامة: الإقامة، وقد تقرر في التصريف: أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف فالمصدر الميمي منه، واسم الزمان، واسم المكان كلها بصيغة اسم المفعول، وقوله: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51]. على قراءة نافع وابن عامر بضم الميم من الإقامة، وقوله: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 2-3]. إلى غير ذلك من الآيات.
وزقوله في هذه الآية الكريمة: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [النحل: 31].
بين أنواع تلك الأنهار في قوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} [محمد صلى الله عليه وسلم: 15].- إلى قوله- {مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد صلى الله عليه وسلم: 15]، وقوله هنا: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤونَ} أوضحه في مواضع آخر. كقوله: {لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]، وقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]، وقوله: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خَالِدِينَ كَانَ على رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولًا} [الفرقان: 16]، وقوله: {لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء المحسنين} [الزمر: 34]، وقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31]. {نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 32]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية: {كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين} [النحل: 31].
يدل على ان تقوى الله هو السبب الذي به تنال الجنة.
وقد أوضح تعالى هذا المهنى في مواضع أخر. كقوله: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} [مريم: 63]، وقوله: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقوله: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذارايات: 15]، وقوله: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور: 17]. إلى غير ذلك من الآيات.
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين الذين كانوا يمتثولن أوامر رهم، ويجتنبون نواهيه تتوفاهم الملائكة: أي يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين: أي طاهرين من الشرك والمعاصي- على أصح التفسيرات- ويبشرونهم بالجنة، ويسلمون عليهم.
وبين هذا المعنى أيضًا في غير هذا الموضع. كقوله: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، وقوله: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، وقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 23-24]، والبشارة عند الموت، وعند دخول الجنة من باب واحد. لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة، ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ويقولون لهم سلام عليكم ادخلوا الجنة- أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة، ولم تسلم عليهم، ولم تبشرهم.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر. كقوله: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السلم} [النحل: 28]. الآية، وقوله: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ} [النساء: 97].- إلى قوله- {وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]، وقوله: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: {تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28]، وقوله: {تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ} قرأهما عامة القراء غير حمزة: {تتوفاهم} بتاءين فوقيتين، وقرأ حمزة: {يتوفاهم} بالياء في الموضعين.
تنبيه:
أسند هنا جل وعلا التوفي لملائكة في قوله: {تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة} وأسنده في السجدة لملك الموت في قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11]، وأسنده في الزمر إلى نفسه جل وعلا في قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42]. الآية، وقد بينا في كتابنا {دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب} في سورة السجدة: أنه لا معارضة بين الآيات المذكورة. فإسناده التوفي لنفسه، لانه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى، كما قال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلًا} [آل عمران: 145]، وأسنده لملك الموت، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وأسنده إلى الملائكة لأن لملك الموت أعوانًا من الملائكة ينزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت، كما قاله بعض العلماء، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}.