فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لمّا افتتحت صفة سيّئات الكافرين وعواقبها بأنّهم إذا قيل لهم {ماذا أنزل ربكم} [سورة النحل: 24]. قالوا: {أساطير الأولين} [سورة النحل: 24]، جاءت هنا مقابلة حالهم بحال حسنات المؤمنين وحسن عواقبها، فافتتح ذلك بمقابل ما افتتحت به قصّة الكافرين، فجاء التنظير بين القصّتين في أبدع نظم.
وهذه الجملة معطوفة على الجمل التي قبلها، وهي معترضة في خلال أحوال المشركين استطرادًا.
ولم تقترن هذه الجملة بأداة الشرط كما قرنت مقابلتها بها {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم}، لأن قولهم: {أساطير الأولين} لما كان كذبا اختلقوه كان مظنة أن يقلع عنه قائلهُ وأن يرعوي إلى الحقّ وأن لا يجمع عليه القائلون، قرن بأداة الشرط المقتضية تكرّر ذلك للدّلالة على إصْرارهم على الكفر، بخلاف ما هنا فإن الصّدق مظنّة استمرار قائله عليه فليْس بحاجة إلى التّنبيه على تكرّره منه.
والذين اتّقوا: هم المؤمنون لأن الإيمان تقوى الله وخشية غضبه.
والمراد بهم المؤمنون المعهودون في مكّة، فالموصول للعهد.
والمعنى أنّ المؤمنين سئُلوا عن القرآن، ومن جاء به، فأرشدوا السائلين ولم يتردّدوا في الكشف عن حقيقة القرآن بأوجز بيان وأجمعه، وهو كلمة {خيرًا} المنصوبة، فإن لفظها شامل لكلّ خير في الدّنيا وكلّ خير في الآخرة، ونصبَها دال على أنّهم جعلوها معمولة ل {أنزل} الواقع في سؤال السائلين، فدل النّصب على أنّهم مصدّقون بأنّ القرآن منزل من عند الله، وهذا وجه المخالفة بين الرفع في جواب المشركين حين قيل لهم: {ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} [سورة النحل: 24]. بالرّفع وبين النصب في كلام المؤمنين حين قيل لهم: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا} بالنّصب.
وقد تقدم ذلك آنفًا عند قوله تعالى: {قالوا أساطير الأولين}.
مستأنفة ابتدائية، وهي كلامٌ من الله تعالى مثل نظيرها في آية {قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة} في سورة الزمر (10)، وليست من حكاية قول الذين اتّقوا.
والّذين أحسنوا: هم المتقون فهو من الإظهار في مقام الإضمار توصّلا بالإتيان بالموصول إلى الإيماء إلى وجه بناء الخبر، أي جزاؤهم حسنة لأنهم أحسنوا.
وقوله تعالى: {في هذه الدنيا جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ كَذَلِكَ يَجْزِى الله المتقين} يجوز أن يتعلق بفعل {أحسنوا}.
ويجوز أن يكون ظرفًا مستقرًّا حالًا من {حسنة}.
وانظر ما يأتي في نظر هذه الآية من سورة الزمر من نكتة هذا التوسيط.
ومعنى {ولدار الآخرة خير} أنّها خير لهم من الدّنيا فإذا كانت لهم في الدنيا حسنة فلهم في الآخرة أحسن، فكما كان للّذين كفروا عذاب الدّنيا وعذاب جهنّم كان للّذين اتّقوا خيرُ الدّنيا وخير الآخرة.
فهذا مقابل قوله تعالى في حقّ المشركين: {ليحملوا أوزارهم كاملة} [سورة النحل: 25]، وقوله تعالى: {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} [سورة النحل: 26].
وحسنة الدّنيا هي الحياة الطيّبة وما فتح الله لهم من زهرة الدنيا مع نعمة الإيمان.
وخير الآخرة هو النّعيم الدّائم، قال تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيّبة ولنجزيّنهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [سورة النحل: 97].
وقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين جنات عدن يدخلونها} مقابل قوله تعالى في ضدّهم: {فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين} [سورة النحل: 29].
وقد تقدّم آنفًا وجه تسمية جهنّم مثوى والجنّة دارًا.
و{نِعم} فعل مدح غير متصرّف، ومرفوعُهُ فاعل دالّ على جنس الممدوح، ويذكر بعده مرفوع آخر يسمّى المخصوص بالمدح، وهو مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوفُ المبتدإ.
فإذا تقدّم ما يدلّ على المخصوص بالمدح لم يذكر بعد ذلك كما هنا، فإنّ تقدم {ولدار الآخرة} دلّ على أنّ المخصوص بالمدح هو دار الآخرة.
والمعنى: ولنعم دار المتّقين دار الآخرة.
وارتفع {جنات عدن} على أنّه خبر لمبتدإ محذوف مما حذف فيه المسند إليه جريًا على الاستعمال في مسند إليه جرى كلام عليْه من قبلُ، كما تقدم في قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} [سورة النحل: 28].
والتقدير: هي جنات عدن، أي دار المتّقين جنات عدن.
وجملة {يدخلونها} حال من {المتقين}.
والمقصود من ذكره استحضار تلك الحالة البديعة حالة دخولهم لدار الخير والحسنى والجنّات.
وجملة {لهم فيها ما يشاءون} حال من ضمير الرفع في {يدخلونها}.
ومضمونها مكمل لما في جملة {يدخلونها} من استحضار الحالة البديعة.
وجملة {كذلك يجزي الله المتقين} مستأنفة، والإتيان باسم الإشارة لتمييز الجزاء والتّنويه به.
وجعل الجزاء لتمييزه وكماله بحيث يشبّه به جزاء المتّقين.
والتّقدير: يجزي الله المتّقين جزاء كذلك الجزاء الذي علمتموه.
وهو تذييل لأنّ التعريف في {المتقين} للعموم.
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)}.
مقابل قوله في أضدادهم {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}، فما قيل في مقابله يقال فيه.
وقرأ الجمهور: {تتوفاهم} بفوقيّتين، مثل نظيره.
وقرأه حمزة وخلَف بتحتية أولى كذلك.
والطيّب: بزنة فَيْعل، مثل قَيم وميّت، وهو مبالغة في الاتّصاف بالطيب وهو حسن الرائحة.
ويطلق على محاسن الأخلاق وكمال النّفس على وجه المجاز المشهور فتوصف به المحسوسات كقوله تعالى: {حلالًا طيبًا} [سورة البقرة: 168]، والمعاني والنفسيات كقوله تعالى: {سلام عليكم طبتم} [سورة الزمر: 73].
وقولهم: طبت نفسًا.
ومنه قوله تعالى: {والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربه} [سورة الأعراف: 58].
وفي الحديث: «إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّبًا» أي مَالًا طيبًا حلالًا.
فقوله تعالى: {هنا طيبين} يجمع كل هذه المعاني، أي تتوفّاهم الملائكة منزّهين من الشرك مطمئنيّ النفوس.
وهذا مقابل قوله في أضدادهم {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} [سورة النحل: 28].
وجملة {يقولون سلام عليكم} حال من {الملائكة} وهي حال مقارنة ل {تتوفاهم}، أي يتوفّونهم مسلّمين عليهم، وهو سلام تأنيس وإكرام حين مجيئهم ليتوفّوهم، لأن فعل {تتوفاهم} يبتدىء من وقت حلول الملائكة إلى أن تنتزع الأرواح وهي حصّة قصيرة.
وقولهم: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} هو مقابل قولهم لأضدادهم {إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم} [سورة النحل: 28، 29].
والقول في الأمر بالدخول للجنّة حين التوفّي كالقول في ضدّه المتقدم آنفًا.
وهو هنا نعيم المكاشفة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا}.
وقد سبق أنْ تحدثنا عن قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} [النحل: 24].
فهذه مشاهدة ولقطات تُبيّن الموقف الذي انتهى بأنْ أقروا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.
وهذه الآياتُ نزلتْ في جماعة كانوا داخلين مكة.، وعلى أبوابها التي يأتي منها أهل البوادي، وقد قسَّم الكافرون أنفسهم على مداخل مكة ليصدوا الداخلين إليها عن سماع خبر أهل الإيمان بالنبي الجديد.
وكان أهل الإيمان من المسلمين يتحيَّنون الفرصة ويخرجون على مشارف مكة بحجة رَعْي الغنم مثلًا ليقابلوا هؤلاء السائلين ليخبروهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم وخبر دعوته.
مما يدلُّ على أن الذي يسأل عن شيء لا يكتفي بأول عابر يسأله، بل يُجدِّد السؤال ليقف على المتناقضات.. فحين سألوا الكافرين قالوا: {قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} [النحل: 24].
فلم يكتفوا بذلك، بل سألوا أهل الإيمان فكان جوابهم: {قَالُواْ خَيْرًا} [النحل: 30].
هذا لنفهم أن الإنسانَ إذا صادف شيئًا له وجهتان متضادتان فلا يكتفي بوجهة واحدة، بل يجب أن يستمع للثانية، ثم بعد ذلك للعقل أن يختار بين البدائل.
إذن: حينما سأل الداخلون مكة أهل الكفر: {مَّاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} [النحل: 24].
وحينما سألوا أهلَ الإيمان والتقوى: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} [النحل: 30].
ونلاحظ هنا في {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا} [النحل: 30].
أن الحق سبحانه لم يوضح لنا مَنْ هم، ولم يُبيّن هُويَّتهم، وهذا يدلُّنا على أنهم كانوا غير قادرين على المواجهة، ويُدارون أنفسهم لأنهم ما زالوا ضِعَافًا لا يقدرون على المواجهة.
وقد تكرر هذا الموقف موقف السؤال إلى أنْ تصل إلى الوجهة الصواب حينما عَتَب الحق تبارك وتعالى على نبي من أنبيائه هو سيدنا داود عليه السلام في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنا إلى سَوَاء الصراط إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 21-23].
فماذا قال داود عليه السلام؟ {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} [ص: 24].
وواضحٌ في حكم داود عليه السلام تأثُّره بقوله: {له تسع وتسعون} ولنفرض أنه لم يكُنْ عنده شيء، ألم يظلم أخاه بأخْذ نعجته؟! إذن: تأثر داود بدعوى الخصم، وأدخل فيه حيثية أخرى، وهذا خطأ إجرائي في عَرْض القضية؛ لأن {تسع وتسعون} هذه لا دَخْل لها في القضية.. بل هي لاستمالة القاضي وللتأثير على عواطفه ومنافذه، ولبيان أن الخَصْم غني ومع ذلك فهو طماع ظالم.
وسرعان ما اكتشف داود عليه السلام خطأه في هذه الحكومة، وأنها كانت فتنة واختبارًا من الله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24].
أي: اختبرناه كي نُعلِّمه الدرس تطبيقًا.. أيحكم بالحق ويُراعي جميع نواحي القضية أم لا؟
وانظر هنا إلى فطنة النبوة، فسرعان ما عرف داود ما وقع فيه واعترف به، واستغفر ربّه وخَرَّ له راكعًا مُنيبًا.
وقال تعالى: {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24].
إذن: الشاهد هنا أنه كان على داود عليه السلام أن يستمع إلى الجانب الآخر والطرف الثاني في الخصومة قبل الحكم فيها.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} [النحل: 30].
ما هو الخير؟ الخير كُلُّ ما تستطيبه النفس بكل مَلكَاتها.. لكن الاستطابة قد تكون موقوتة بزمن، ثم تُورث حَسْرة وندامة.. إذن: هذا ليس خيرًا؛ لأنه لا خيرَ في خير بعده النارُ، وكذلك لا شَرَّ في شر بعده الجنة.
إذن: يجب أن نعرف أن الخير يظل خُيْرًا دائمًا في الدنيا، وكذلك في الآخرة، فلو أخذنا مثلًا متعاطي المخدرات نجده يأخذ متعة وقتية ونشوة زائفة سرعان ما تزول، ثم سرعان ما ينقلب هذا الخير في نظره إلى شر عاجل في الدنيا وآجل في الآخرة.
إذن: انظر إلى عمر الخير في نفسك وكيفيته وعاقبته.، وهذا هو الخير في قوله تعالى: {قَالُواْ خَيْرًا} [النحل: 30].
إذن: هو خير تستطيبه النفس، ويظل خيرًا في الدنيا، ويترتب عليه خير في الآخرة، أو هو موصول بخير الآخرة.. ثم فسَّره الحق تبارك وتعالى في قوله سبحانه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} [النحل: 30].
ونفهم من هذه الآية أنه على المؤمن ألاَّ يترك الدنيا وأسبابها، فربما أخذها منك الكافر وتغلَّب عليك بها، أو يفتنك في دينك بسببها، فمَنْ يعبد الله أَوْلى بسرِّه في الوجود، وأسرارُ الله في الوجود هي للمؤمنين، ولا ينبغي لهم أن يتركوا الأخذ بأسباب الدنيا للكافرين.
اجتهد أنت أيها المؤمن في أسباب الدنيا حتى تأمنَ الفتنة من الكافرين في دُنْياك.، ولا يخفي ما نحن فيه الآن من حاجتنا لغيرنا، مما أعطاهم الفرصة ليسيطروا على سياساتنا ومقدراتنا.
لذلك يقول سبحانه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} [النحل: 30].
أي: يأخذون حسناتهم، وتكون لهم اليَدُ العليا بما اجتهدوا، وبما عَمِلوا في دنياهم، وبذلك ينفع الإنسانُ نفسه وينفع غيره، وكلما اتسعت دائرة النفع منك للناس كانت يدك هي العليا، وكان ثوابك وخَيْرك موصولًا بخير الآخرة.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة».
ومن هذه الآية أيضًا يتضح لنا جانب آخر، هو ثمرة من ثمرات الإحسان في الدنيا وهي الأمن.
. فمَنْ عاش في الدنيا مستقيمًا لم يقترف ما يُعَاقب عليه تجدْه آمنًا مطمئنًا، حتى إذا داهمه شر أو مكروه تجده آمنا لا يخاف، لأنه لم يرتكب شيئًا يدعو للخوف.
خُذْ مثلًا اللص تراه دائمًا مُتوجِّسًا خائفًا، تدور عَيْنه يمينًا وشمالًا، فإذا رأى شرطيًا هلع وترقَّب وراح يقول في نفسه: لعله يقصدني.. أما المستقيم فهو آمن مطمئن.
ومن ثمرات هذا الإحسان وهذه الاستقامة في الدنيا أن يعيش الإنسان على قَدْر إمكاناته ولا يُرهق نفسه بما لا يقدر عليه، وقديمًا قالوا لأحدهم: قد غلا اللحم، فقال: أَرْخِصوه، قالوا: وكيف لنا ذلك؟ قال: ازهدوا فيه.
وقد نظم ذلك الشاعرُ فقال:
وَإِذَا غَلاَ شَيءٌ عَلَيَّ تركْتُه ** فيكونُ أرخصَ ما يكونُ إِذَا غَلاَ

ولا تَقُلْ: النفس توَّاقة إليه راغبة فيه، فهي كما قال الشاعر:
وَالنفْسُ رَاغِبةٌ إِذَا رغَّبْتَها ** وَإِذَا تُرَدّ إلى قَلِيل تَقْنَعُ

وفي حياتنا العملية، قد يعود الإنسان من عمله ولمَّا ينضج الطعام، ولم تُعَد المائدة وهو جائع، فيأكل أيَّ شيء موجود وتنتهي المشكلة، ويقوم هذا محل هذا، وتقنعُ النفسُ بما نالتْه.
ولكي يعيش الإنسان على قَدْر إمكاناته لابد له أنْ يوازن بين دَخْله ونفقاته، فمَنْ كان عنده عُسْر في دَخْله، أو ضاقت عليه منافذ الرزق لابد له من عُسْر في مصروفه، ولابد له أنْ يُضيِّق على النفس شهواتها، وبذلك يعيش مستورًا ميسورًا، راضي النفس، قرير العين.
والبعض في مثل هذه المواقف يلجأ إلى الاستقراض للإنفاق على شهوات نفسه، وربما اقترض ما يتمتع به شهرًا، ويعيش في ذلة دَهْرًا؛ لذا من الحكمة إذن قبل أن تسأل الناس القرض سَلْ نفسك أولًا، واطلب منها أن تصبر عليك، وأن تُنظرك إلى ساعة اليُسْر، ولا تُلجئك إلى مذلَّة السؤال.، وقبل أن تلوم مَنْ منعك لُمْ نفسك التي تأبَّتْ عليك أولًا.