فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واختير ان ذلك لمباشرتهم أسباب العذاب الموجبة له المؤدية إليه فكأنهم يقصدون ايتاءه ويتصدون لوروده، ولا يخفى ما في التعبير بالرب وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطف به عليه الصلاة والسلام، وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى وجه ربط الآيات {قَالَ كذلك} أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب {فَعَلَ الذين} خلوا {مِن قَبْلِهِمُ} من الأمم {وَمَا عَبْدُ الله} إذ أصابهم جزاء فعلهم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالاستمرار على فعل القبائح المؤدى لذلك، قيل: وكان الظاهر أن يقال: {ولكن كانوا هم الظالمين} كما في سورة الزخرف (76) لكنه أوثر ما عليه النظم الكريم لإفادة أن غائلة ظلمهم آيلة إليهم وعاقبته مقصورة عليهم مع استلزام اقتصار ظلم كل أحد على نفسه من حيث الوقوع اقتصاره عليه من حيث الصدور.
{فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي أجزية أعمالهم السيئة على طريقة اطلاق اسم السبب على المسبب إيذانًا بفظاعته، وقيل: الكلام على حذف المضاف.
وتعقب بأنه يوهم أن لهم أعمالًا غير سيئة والتزم ومثل ذلك بنحو صلة الأرحام، ولا يخفى أن المعنى ليس على التخصيص، والداعي إلى ارتكاب أحد الأمرين أن الكلام بظاهره يدل على أن ما أصابهم سيئة، وليس بها.
وقد يستغني عن ارتكاب ذلك لما ذكر بأن ما يدل عليه الظاهر من باب المشاكلة كما في قوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40]. كما في الكشاف {وَحَاقَ بِهِم} أي أحاط بهم، وأصل معنى الحيق الإحاطة مطلقًا ثم خص في الاستعمال باحاطة الشر، فلا يقال: أحاطت به النعمة بل النقمة.
وهذا أبلغ وأفظع من أصابهم {مَّا كَانُوا بِهِ} أي من العذاب كام قيل على أن {ما} موصولة عبارة عن العذاب، وليس في الكلام حذف ولا ارتكاب مجاز على نحو ما مر آنفًا، وقيل: {مَا} مصدرية وضمير {بِهِ} للرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يذكر، والمراد أحاط بهم جزاء استهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم أو موصولة عامة للرسول عليه الصلاة والسلام وغيره وضمير {بِهِ} عائد عليها والمعنى على الجزاء أيضًا، ولا يخفى ما فيه، وإيامًا كان {فبه} متعلق بيستهزؤون قدم للقاصلة، هذا ثم ان قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ} [النحل: 33]. إلخ. على ما في الكشف رجوع إلى عد ما هم فيه من العناد والاستشراء في الفساد وأنهم لا يقلعون عن ذلك كأسلافهم الغابرين إلى يوم التناد، وما وقع من أحوال اضدادهم في البين كان لزيادة التحسير والتبكيت والتخسير، وفيه دلالة على أن الحجة قد تمت وأنه صلى الله عليه وسلم أدى ما عليه من البلاغ المبين، وقوله تعالى: {فَأَصَابَهُمْ} عطف على {فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النحل: 33]. مترتب إذ المعنى كذلك التكذيب والشرك فعل أسلافهم وأصابهم ما أصابهم، وفيه تحذير مما فعله هؤلاء وتذكير لقوله سبحانه: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل: 26]، ولا يخفى حسن الترتب على ذلك لأن التكذيب والشرك تسببًا لإصابة السيئات لمن قبلهم، وقوله سبحانه: {وَمَا ظَلَمَهُمْ الله} [النحل: 33]. اعتراض واقع حاق موقعه، وجعل ذلك راجعًا إلى المفهوم من قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ} [النحل: 33]. أي كذلك كان من قبلهم مكذبين لزمتهم الحجة منتظرين فاصابهم ما كانوا منتظرين سديد حسن إلا أن معتمد الكلام الأول وهو أقرب مأخذًا، ودلالة {فِعْلَ} عليه أظهر، فهذه فذلكة ضمنت محصل ما قابلوا به تلك النعم والبصائر وأدمج فيها تسليته صلى الله عليه وسلم والبشرى بقلب الدائرة على من تربص به وبأصحابه عليه الصلاة والسلام الدوائر وختمت بما يدل على أنهم انقطعوا فاحتجوا بآخر ما يحتج به المحجوج يتقلب عليه فلا يبصر إلا وهو مثلوج مشجوج وهو ما تضمنه قوله تعالى: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء} فهو من تتمة قوله سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ} [النحل: 33]. ألا ترى كيف ختم بنحوه آخر مجادلاتهم في سورة الأنعام في قوله سبحانه: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} [الأنعام: 148]، وكذلك في سورة الزخرف ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخزال الحجة {وَقَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا لأنزَلَ ملائكة} [فصلت: 14]، ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} [الأنعام: 149]، وفي إرشاد العقل السليم أن هذه الآية بيان لفن آخر من كفر أهل مكة فهم المراد بالموصول، والعدول عن الضمير إليه لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر، والمعنى لو شاء الله تعالى عدم عبادتنا لشيء غيره سبحانه كما تقول ما عبدنا ذلك {نَّحْنُ وَلا ءابَاؤنَا} الذين نهتدي بهم في دينا {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء} من السوائب والبحائر وغيرها فمن الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق وكذا الثالثة {وَنَحْنُ} لتأكيد ضمير {عَبْدَنَا} لا لتصحيح العطف لوجود الفاصل وإن كان محسنًا له، وتقدير مفعول {شَاء} عدم العبادة مما صرح به بعضهم، وكان الظاهر أن يضم إليه عدم التحريم.
واعترض تقدير ذلك بأن العدم لا يحتاج إلى المشيئة كما ينبىء عنه قوله صلى الله عليه وسلم: «ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن» حيث لم يقل عليه الصلاة والسلام ما شاء الله تعالى كان وما شاء عدم كونه لم يكن بل يكفي فيه عدم مشيئة الوجود، وهو معنى قولهم: علة العدم عدم علة الوجود، فالأولى أن يقدر المفعول وجوديًا كالتوحيد والتحليل وكامتثال ما جئت به والأمر في ذلك سهل.
وفي تخصيص الإشراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك كما قال بعض المحققين تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسًا، فإن حاصله إن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فلو أنه سبحانه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئًا ونحلل ما أحله ولا نحرم شيئًا مما حرمنا كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الإشراك وتحليل ما أحله وعدم تحريم شيء من ذلك وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئًا من ذلك بل شاء ما نحن عليه وتحقق أن ما تقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم ورد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه عز وجل: {كذلك} أي مثل ذلك الفعل الشنيع {فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم أي أشركوا بالله تعالى وحرموا من دونه ما حرموا وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق {فَهَلْ عَلَى الرسل} الذين أمروا بتبليغ رسالات الله تعالى وعزائم أمره ونهيه.
{إِلاَّ البلاغ المبين} أي ليست وظيفتهم إلا الابلاغ للرسالة الموضح طريق الحق والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى: {والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].
واما الجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاؤوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي يدور عليها فلك التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقية الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئة الله تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لابد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطررايين؛ والفاء على هذا للتعليل كانه قيل كذلك فعل اسلافهم وذلك باطل فان الرسل عليهم السلام ليس شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي لا تحقيق مضمونها قسرا والجاءر اه، وكأني بك لا تبريه من تكلف.
وهو متضمن للرد على الزمخشري فقد سلك في هذا المقام الغلو في المقال وعدل عن سنن الهدى إلى مهواة الضلال فذكر أن هؤلاء المشركين فعلوا ما فعلوا من القبائح ثم نسبوا فعلهم إلى الله تعالى وقالوا: {لَوْ شَاء الله} إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل اسلافهم فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوه على ربهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق وأن الله سبحانه لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال، ولعمري أنه فسر الآيات على وفق هواه وهي عليه لا له لو تدبر ما فيها وحواه، وقد رد عليه غير واحد من المحققين وأجله المدققين وبينوا أن الآية بمعزل عن أن تكون دليلًا لأهل الاعتزال كما أن الشرطية لا تنتج مطلوب أولئك الضلال، وقد تقدم نبذه من الكلام في ذلك ثم إن كون غرض المشركين من الشرطية تكذيب الرسل عليهم السلام هو أحد احتمالين في ذلك، قال المدقق في الكشف في نظير الآية: إن قولهم هذا إما لدعوى مشروعية ما هم عليه ردًا للرسل عليهم السلام أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارًا بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعًا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك، ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية، وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى.
والثاني على ما فيه حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضًا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارًا منهم والعلم تعلق كذلك ومثله في التحريم فهو يؤكد دفع العذر لا أنه يحققه، وذكر أن معنى {فهل على الرسل} أن الذي على الرسل أن يبلغوا ويبينوا معالم الهدى بالإرشاد إلى تمهيد قواعد النظر والإمداد بأدلة السمع والبصر ولا عليهم من مجادلة من يريد أن يدحض بباطله الحق الأبلج إذ بعد ذلك التبيين يتضح الحق للناظرين ولا تجدي نفعًا مجادلة المعاندين، وجوز أن يكون قولهم هذا منعًا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيهما أو إنكارًا لقبح ما أنكر عليهم من الشكر والتحريم محتجين بأن ذلك لو كان مستقبحًا لما شاء الله تعالى صدوره عنا أو لشاء خلافه ملجأ إليه، وأشير إلى جواب الشبهة الأولى بقوله سبحانه: {فَهَلْ عَلَى الرسل} إلى آخره كأنه قيل: إن فائدة البعثة البلاغ الموضح للحق فإن ما شاء الله تعالى وجوده أو عدمه لا يجب ولا يمتنع مطلقًا كما زعمتم بل قد يجب أو يمتنع بتوسط أسباب أخر قدرها سبحانه ومن ذلك البعثة فإنا تؤدي إلى هدى من شاء الله تعالى على سبيل التوسط. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}.
استئناف بياني ناشىء عن جملة {قد مكر الذين من قبلهم} [سورة الرعد: 42]. لأنّها تثير سؤال من يسأل عن إبّان حلول العذاب على هؤلاء كما حلّ بالّذين من قبلهم، فقيل: ما ينظرون إلا أحد أمرين هما مجيء الملائكة لقبض أرواحهم فيحقّ عليهم الوعيد المتقدم، أو أن يأتي أمرُ الله.
والمراد به الاستئصال المعرّض بالتهديد في قوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} [سورة النحل: 26].
والاستفهام إنكاري في معنى النّفي، ولذلك جاء بعده الاستثناء.
{وينظرون} هنا بمعنى الانتظار وهو النظِرة.
والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تذكيرًا بتحقيق الوعيد وعدم استبطائه وتعريضًا بالمشركين بالتحذير من اغترارهم بتأخّر الوعيد وحثًّا لهم على المبادرة بالإيمان.
وإسناد الانتظار المذكور إليهم جار على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيلهم منزلة من ينتظر أحد الأمرين، لأنّ حالهم من الإعراض عن الوعيد وعدم التفكّر في دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم مع ظهور تلك الدلائل وإفادتها التحقّق كحال من أيقن حلول أحد الأمرين به فهو يترقّب أحدهما، كما تقول لمن لا يأخذ حِذره من العدوّ: ما تترقّب إلاّ أن تقع أسيرًا.
ومنه قوله تعالى: {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} [سورة يونس: 102]، وقوله تعالى: {إن تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} [سورة القصص: 19].
وهذا قريب من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه وما هو بذلك.
وجملة {كذلك فعل الذين من قبلهم} تنظير بأحوال الأمم الماضية تحقيقًا للغرضين.
والإشارة إلى الانتظار المأخوذ من {ينظرون} المراد منه الإعراض والإبطاء، أي كإبطائهم فعل الذين من قبلهم، فيوشك أن يأخذهم العذاب بغتة كما أخذ الذين من قبلهم.
وهذا تحذير لهم وقد رفع الله عذاب الاستئصال عن أمّة محمد عليه الصلاة والسلام ببركته ولإرادته انتشار دينه.
و{الذين من قبلهم} هم المذكورن في قوله تعالى: {قد مكر الذين من قبلهم} [سورة الرعد: 42].
وجملة {وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} معترضة بين جملة {الذين من قبلهم} [سورة النحل: 33]، وجملة {فأصابهم سيئات ما عملوا}.
ووجه هذا الاعتراض أن التعرّض إلى ما فعله الذين من قبلهم يشير إلى ما كان من عاقبتهم وهو استئصالهم، فعُقب بقوله تعالى: {وما ظلمهم الله}، أي فيما أصابهم.
ولمّا كان هذا الاعتراض مشتملًا على أنهم ظلموا أنفسهم صار تفريع {فأصابهم سيئات ما عملوا} عليه أو على ما قبله.
وهو أسلوب من نظم الكلام عزيز.
وتقديرُ أصله: كذلك فعل الذين من قبلهم وظلموا أنفسهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله.
ففي تغيير الأسلوب المتعارف تشويق إلى الخبر، وتهويل له بأنه ظُلم أنفسهم، وأن الله لم يظلمهم، فيترقّب السامع خبرًا مفظعًا وهو {فأصابهم سيئات ما عملوا}.
وإصابة السيئات إما بتقدير مضاف، أي أصابهم جزاؤها، أو جعلت أعمالهم السيئة كأنها هي التي أصابتهم لأنها سبب ما أصابهم، فهو مجاز عقلي.
و{حاق} أحاط.
والحَيْق: الإحاطة.
ثم خصّ الاستعمالُ الحيقَ بإحاطة الشرّ.
وقد تقدّم الكلام على ذلك عند قوله تعالى: {فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} في أوائل سورة الأنعام (10).
و{ما} موصولة، ما صْدقها العذاب المتوعدون به.
والباء في {به} للسببية.
وهو ظرف مستقِرّ هو صفة لمفعول مطلق.
والتقدير: الذي يستهزئون استهزاء بسببه، أي بسبب تكذيبهم وقوعَه.
وهذا استعمال في مثله.
وقد تكرّر في القرآن، من ذلك ما في سورة الأحقاف، وليست الباء لتعدية فعل {يستهزءون} وقدّم المجرور على عامل موصوفه للرّعاية على الفاصلة.
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤنَا}.
عطف قصّة على قصّة لحكاية حال من أحوال شبهاتهم ومكابرتهم وباب من أبواب تكذيبهم.
وذلك أنّهم كانوا يحاولون إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يقول: إن الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون، وإنه القادر عليهم وعلى آلهتهم، وإنه لا يرضى بأن يعبد ما سواه، وإنه ينهاهم عن البحيرة والسائبة ونحوهما، فحسبوا أنهم خصموا النبي صلى الله عليه وسلم وحاجّوه فقالوا له: لو شاء الله أن لا نعبد أصنامًا لما أقدرنا على عبادتها، ولو شاء أن لا نحرّم ما حرّمنا من نحو البحيرة والسائبة لما أقرّنا على تحريم ذلك، وذلك قصد إفحام وتكذيب.
وهذا ردّه الله عليهم بتنظير أعمالهم بأعمال الأمم الذين أهلكهم الله فلو كان الله يرضى بما عملوه لما عاقبهم بالاستئصال، فكانت عاقبتهم نزول العذاب بقوله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم}، ثم بقطع المحاجّة بقوله تعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين}، أي وليس من شأن الرسل عليهم السلام المناظرة مع الأمّة.
وقال في سورة الأنعام (148) {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شيء كذلك كذّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} فسمّى قولهم هذا تكذيبًا كتكذيب الذين من قبلهم لأن المقصود منه التكذيب وتعضيد تكذيبهم بحجّة أساءوا الفهم فيها، فهم يحسبون أن الله يتولّى تحريك الناس لأعمالهم كما يُحرّك صاحب خيال الظلّ ومحرّك اللعب أشباحَه وتماثيله، وذلك جهل منهم بالفرق بين تكوين المخلوقات وبين ما يكسبونه بأنفسهم، وبالفرق بين أمر التكذيب وأمر التكليف، وتخليط بين الرضى والإرادة، ولولا هذا التخليط لكان قولهم إيمانًا.
والإشارة ب {كذلك} إلى الإشراك وتحريم أشياء من تلقاء أنفسهم، أي كفعل هؤلاء فَعَل الذين مِن قبلهم وهم المذكورون فيما تقدم بقوله تعالى: {قد مكر الذين من قبلهم} [سورة النحل: 26]، وبقوله: {كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله} [سورة النحل: 33].
والمقصود: أنهم فعلوا كفعلهم فكانت عاقبتهم ما علمتم، فلو كان فعلهم مرضيًا لله لما أهلكهم، فهلا استدلّوا بهلاكهم على أن الله غير راض بفعلهم، فإن دلالة الانتقام أظهر من دلالة الإملاء، لأن دلالة الانتقام وجودية ودلالة الإمهال عدمية.
وضمير {نحن} تأكيد للضمير المتّصل في {عبدنا}.
وحصل به تصحيح العطف على ضمير الرفع المتّصل.
وإعادة حرف النفي في قوله تعالى: {ولا آباؤنا} لتأكيد {ما} النافية.
وقد فُرع على ذلك قطع المحاجّة معهم وإعلامهم أن الرسل عليهم السلام ما عليهم إلا البلاغ ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فاحذروا أن تكون عاقبتكم عاقبة أقوام الرّسل السالفين.
وليس الرسل بمكلّفين بإكراه الناس على الإيمان حتى تسلكوا معهم التحكّك بهم والإغاظة لهم.
والبلاغ اسم مصدر الإبلاغ.
والمبين: الموضّح الصريح.
والاستفهام بـ {هل} إنكاري بمعنى النفي، ولذلك جاء الاستثناء عقبه.
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر إضافي لقلب اعتقاد المشركين من معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ للرسول غرضًا شخصيًا فيما يدعو إليه.
وأثبت الحكم لعموم الرسل عليهم السلام وإن كان المردود عليهم لم يخطر ببالهم أمر الرسل الأولين لتكون الجملة تذييلًا للمحاجّة، فتفيد ما هو أعمّ من المردود.
والكلام موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعليمًا وتسلية، ويتضمّن تعريضًا بإبلاغ المشركين. اهـ.