فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجوز أبو البقاء أن يكون {الذين} منصوب بفعل محذوف يفسره المذكور، والأول متعين عند أبي حيان قال: وفيه دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبرًا للمبتدأ خلافًا لثعلب، والذي ذهب إليه بعض المحققين أن الخبر في مثل ذلك إنما هو جملة الجواب المؤكدة بالقسم وهي إخبارية لا إنشائية، واعترض على أبي البقاء في الوجه الثاني بأنه لا يجوز النصب بالفعل المحذوف إلا حيث يجوز للمذكور أن يعمل في ذلك المنصوب حتى يصح أن يكون مفسرًا وما هنا ليس كذلك فإنه لا يجوز زيدًا لأضربن فلا يجوز زيدًا لأضربنه، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وقيل: بمحذوف وقع حالًا من {حَسَنَةٌ} هذا.
ونقل عن ابن عباس أن الآية نزلت في صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال: ربح البيع يا صهيب؛ وقال عمر رضي الله تعالى عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، والجمهور على ما روي عن قتادة بل قال ابن عطية: إنه الصحيح، ولم نجد لهذا الخبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سندًا يعول عليه.
وذكر العلامة الشيخ بهاء الدين السبكي في شرح التلخيص كغيره من المحدثين مثل الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحيم العراقي وولده الفقيه الحافظ أبي زرعة وغيرهما فيما نسب لعمر رضي الله تعالى عنه فيه من قوله: نعم العبد صهيب إلى آخره أنا لم نجده في شيء من كتب الحديث بعد الفحص الشديد، وهذا يوقع شبهة قوية في صحة ذلك.
نعم في الدر المنثور، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هؤلاء الذين هاجروا: هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ظلمهم ثم قال: وظلمهم الشرك، لكن يقتضي هذا بظاهره أنه رضي الله تعالى عنه كان يقرأ: {ظَلَمُواْ} بالبناء للفاعل.
وأورد على الخبرين أنه قيل: إن السورة مكية إلا ثلاث آيات في آخرها فإنها مدنية، ويلتزم إذا صح الخبر الذهاب إلى أن فيها مدنيًا غير ذلك، أو القول بأن المراد من المكي ما نزل في حق أهل مكة، أو أن هذه الآية لم تنزل بالمدينة وأن المكي ما نزل بغيرها، أو القول بأن ذلك من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، والكل كما ترى، ولا يرد على القول الأول الذي عليه الجمهور أنه مخالف للقول المشهور في السورة لأن هجرة الحبشة كانت قبل هجرة المدينة فلا مانع من كون الآية مكية بالمعنى المشهور عليه، لكن قيل: إن قتادة القائل بما تقدم قائل بأن هذه الآية إلى آخر السورة مدنية وهو آب عما ذكر، ومن هنا حمل بعضهم ما نقل عنه سابقًا على أن نزولها كان بين الهجرتين بالمدينة، ولا يمكن الجمع بين هذه الأقوال أصلًا، والذي ينبغي أن يعول عليه أن السورة مكية إلا آيات ليست هذه منها بل هي مكية نزلت بين الهجرتين فيمن ذكره الجمهور، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وقال بعضهم: إن الذين هاجروا عام في المهاجرين كائنًا من كان فيشمل أولهم وآخرهم وكان هذا من قائله اعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما هو المقرر عندهم وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله رضي الله تعالى عنه ونعيم بن ميسرة والربيع بن خيثم: {لنثوينهم} بالثاء المثلثة من أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه.
قال في البحر: وانتصاب {حَسَنَةٌ} على تقدير اثواءة حسنة أو على نزع الخافض أي في حسنة أي دار حسنة أو منزلة حسنة ولا مانع على ما قيل من اعتبار تضمين الفعل معنى نعطيهم كما أشير إليه أو لا.
واستدل بالآية على أحد الأقوال على شرف المدينة وشرف إخلاص العمل لله تعالى: {وَلاَجْرُ الآخرة} أي أجر أعمالهم المذكورة في الدار الآخرة {أَكْبَرَ} مما يعجل لهم في الدنيا.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له: خذ بارك الله تعالى لك هذا ما وعدك الله تعالى في الدنيا وما أخر لك في الآخرة أفضل ثم يقرأ هذه الآية، وقيل: المراد أكبر من أن يعلمه أحد قبل مشاهدته، ولا يخفى ما في مخالفة أسلوب هذا الوعد لما قبله من المبالغة {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} الضمير للكفرة الظالمين أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين، وقيل: هو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في الاجتهاد ولما تألموا لما أصابهم من المهاجرة وشدائدها ولازدادوا سرورًا.
وفي المعالم لا يجوز ذلك لأن المهاجرين يعلمونه ودفع بأن المراد علم المشاهدة وليس الخبر كالمعاينة أو المراد العلم التفصيلي.
وجوز أن يكون الضمير للمتخلفين عن الهجرة يعني لو علم المتخلفون عن الهجرة ما للمهاجرين من الكرامة لوافقوهم.
{الذين صَبَرُواْ} على ما نالهم من الظلم ولم يرجعوا القهقرى وعلى مفارقة الوطن وهو حرم الله سبحانه المحبوب لكل مؤمن فضلًا عمن كان مسقط رأسه وعلى احتمال الغربة بين أناس أجانب في النسب لم يألفهم وعلى غير ذلك، ومحل الموصول النصب بتقدير أعني أو الرفع بتقدير هم ويجوز أن يكون تابعًا للذين هاجروا بدلًا أو بيانًا أو نعتًا {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} منقطعين إليه معرضين عمن سواه مفوضين إليه الأمر كله كما يفيده حذف متعلق التوكل، وقيل: تقديم الجار والمجرور المؤذن بالحصر وكونه لرعاية الفواصل غير متعين، وصيغة الاستقبال إما للاستمرار أو لاستحضار تلك الصورة البديعة، والجملة إما معطوفة على الصلة أو حال من ضمير {صبروا}. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لا يتعاصى على قدرته شيء، وإذ يقول للشيء {كن} فيكون بلا تأخير، وذلك أن الكفار لما {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 83]، ورد الله عليهم كذبهم بقوله: {بلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [النحل: 83]. بين أنه قادر على كل شيء، وأنه كلما قال لشيء {كن} كان.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله في الرد على من قال: {يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
وبين أنه لا يحتاج أن يكرر قوله: {كن} بل إذا قال للشيء {كن} مرة واحدة، كان في أسرع من لمح البصر- في قوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} [القمر: 50]، ونظيره قوله: {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} [النحل: 77]، وقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. الآية، وقال: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، إلى غير ذلك من الآيات.
وعبر تعالى عن المراد فبل وقوعه باسم الشيء. لأن تحقق وقوعه كالوقوع بالفعل. فلاتنافي الآية إطلاق الشيء على خصوص الموجود دون المعدوم. لأنه لما سبق في علم الله أنه يوجد ذلك الشيء، وانه يقول له كن فيكون- كان تحقق وقوعه بمنزلة وقوعه. أو لأنه أطلق عليه اسم الشيء باعتبار وجوده المتوقع، كتسمية العصير خمرًا في قوله: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36].- نظرًا إلى ما يؤول إليه في ثاني حال، وقرأ هذا الحرف ابن عامر والكسائي: {فيكون} بفتح النون منصوبًا بالعطف على قوله: {أن نقول}، قيل: منصوب بأن المضمرة بعد الفاء في جواب الأمر، وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يكون، ولقد أجاد من قال:
إذا ما اراد الله أمرًا فإنما ** يقول له كن قوله فيكون

واللام في قوله: {لشيء} وقوله: {له} للتبليغ. قاله أبو حيان. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}.
هذه الجملة متّصلة بجملة {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [سورة النحل: 38]. لبيان أنّ جهلهم بمَدى قدرة الله تعالى هو الذي جرّأهم على إنكار البعث واستحالته عندهم، فهي بيان للجملة التي قبلها ولذلك فُصلت، ووقعتْ جملة {ليبين لهم الذين يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا} [سورة النحل: 39]. إلى آخرها اعتراضًا بين البيان والمبيّن.
والمعنى أنه لا يتوقف تكوين شيء إذا أراده الله إلا على أن تتعلّق قدرته بتكوينه.
وليس إحياء الأموات إلا من جملة الأشياء، وما البعث إلا تكوين، فما بَعْث الأموات إلا من جملة تكوين الموجودات، فلا يخرج عن قدرته.
وأفادت {إنّما} قصرًا هو قصر وقوع التّكوين على صدور الأمر به، وهو قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين تعذّر إحياء الموتى ظنًّا منهم أنّه لا يحصل إلا إذا سلمت الأجساد من الفساد كما تقدم آنفًا، فأريد بـ {قولنا لشيء} تكوينُنا شيئًا، أي تعلّق القدرة بخلق شيء.
وأريد بقوله: {إذا أردناه} إذا تعلّقت به الإرادة الإلهية تعلّقًا تنجيزيًا، فإذا كان سبب التكوين ليس زائدًا على قول {كن} فقد بطل تعذّر إحياء الموتى.
ولذلك كان هذا قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين.
والشيء: أطلق هنا على المعدوم باعتبار إرادة وجوده، فهو من إطلاق اسم ما يؤول إليه، أو المرادُ بالشيء مطلق الحقيقة المعلومة وإن كانت معدومة، وإطلاق الشيء على المعدوم مستعمل.
و{أن نقول له كن} خبر عن {قولنا}.
والمراد بقول {كن} توجّه القدرة إلى إيجاد المقدور.
عُبر عن ذلك التوجّه بالقول بالكلام كما عبّر عنه بالأمر في قوله: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [سورة يس: 82]، وشبّه الشيء الممكن حصوله بشخص مأمور، وشبّه انفعال الممكن لأمْرِ التكوين بامتثال المأمور لأمر الآمر.
وكلّ ذلك تقريب للناس بما يعقلون، وليس هو خطابًا للمعدوم ولا أن للمعدوم سمعًا يعقل به الكلام فيمتثل للآمر.
و{كَان} تامة.
وقرأ الجمهور: {فيكون} بالرفع أي فهو يكون، عطفًا على الخبر وهو جملة {أن نقول}.
وقرأ ابن عامر والكسائي بالنصب عطفًا على {نقول}، أي أن نقول له كُن وأن يكون.
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}.
لما ثبتت حكمة البعث بأنها تبيين الذي اختلف فيه الناس من هدى وضلالة، ومن ذلك أن يتبين أن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين يعلم منه أنّه بتبيين بالبعث أن الذين آمنوا كانوا صادقين بدلالة المضادة وأنهم مثابون ومكرمون.
فلما علم ذلك من السياق وقع التصريح به في هذه الآية.
وأدمج مع ذلك وعدهم بحسن العاقبة في الدنيا مقابلة وعيد الكافرين بسوء العاقبة فيها الواقع بالتعّريض في قوله تعالى: {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} [سورة النحل: 36].
فالجملة معطوفة على جملة {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} [سورة النحل: 39].
والمهاجر: متاركة الدّيار لغرض ما.
و{في} مستعملة في التّعليل، أي لأجل الله.
والكلام على تقدير مضاف يظهر من السّياق.
تقديره: هاجروا لأجل مرضاة الله.
وإسناد فعل {ظلموا} إلى المجهول لظهور الفاعل من السّياق وهو المشركون.
والظلم يشمل أصناف الاعتداء من الأذى والتعذيب.
والتبوئة: الإسكان.
وأطلقت هنا على الجزاء بالحسنى على المهاجرة بطريق المضادّة للمهاجرة، لأن المهاجرة الخروج من الدّيار فيضادّها الإسكان.
وفي الجمع بين {هاجروا} و{لنبوئنهم} محسّن الطباق.
والمعنى: لنجازينّهم جزاء حسنًا.
فعبر عن الجزاء بالتّبوئة لأنه جزاء على ترك المباءة.
و{حسنة} صفة لمصدر محذوف جار على {نبوئنهم}، أي تبوئة حسنة.
وهذا الجزاء يجبر كل ما اشتملت عليه المهاجرة من الأضرار التي لقيها المهاجرون من مفارقة ديارهم وأهليهم وأموالهم، وما لاقَوُه من الأذى الذي ألجأهم إلى المهاجرة من تعذيب واستهزاء ومَذلّة وفتنة، فالحسنة تشتمل على تعويضهم ديارًا خيرًا من ديارهم، ووطنًا خيرًا من وطنهم، وهو المدينة، وأموالًا خيرًا من أموالهم، وهي ما نالوه من المغانم ومن الخراج.
روي أن عُمر رضي الله عنه كان إذا أعطى رجلًا من المهاجرين عطاء قال له: هذا ما وعدك ربّك في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أكبر؛ وغلبة لأعدائهم في الفتوح وأهمّها فتح مكّة، وأمنًا في حياتهم بما نالوه من السلطان، قال تعالى: {وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا} [سورة النور: 55].
وسبب النزول الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين لا محالة، أو الذين هاجروا إلى المدينة الهجرة الأولى قبل هجرة النبي وبقية أصحابه رضي الله عنهم مثل مصعب بن عمير وأصحابه إن كانت هذه الآية نازلة بعد الهجرة الأولى إلى المدينة.
وكلا الاحتمالين لا ينافي كون السورة مكّية.
ولا يقتضي تخصيص أولئك بهذا الوعد.
ثم أعقب هذا الوعد بالوعد العظيم المقصود وهو قوله: {ولأجر الآخرة أكبر}.
ومعنى {أكبر} أنّه أهمّ وأنفع.
وإضافته إلى {الآخرة} على معنى {في}، أي الأمر الذي في الآخرة.
وجملة {لو كانوا يعلمون} معترضة، وهي استئناف بياني ناشىء عن جملة الوعد كلّها، لأن ذلك الوعد العظيم بخير الدنيا والآخرة يثير في نفوس السامعين أن يسألوا كيف لم يقتدِ بهم من بقوا على الكفر فتقع جملة {لو كانوا يعلمون} بيانًا لما استبهم على السّائِل.
والتقدير: لو كانوا يعلمون ذلك لاقتدوا بهم ولكنّهم لا يعلمون.
فضمير {يعلمون} عائد إلى {الذين كفروا} [سورة النحل: 39].
ويجوز أن يكون السؤال المثار هو: كيف يحْزن المهاجرون على ما تركوه من ديارهم وأموالهم وأهليهم، فيكون: المعنى لو كان المهاجرون يعلمون ما أعدّ لهم عِلم مشاهدة لما حزِنوا على مفارقة ديارهم ولكانت هجرتهم عن شوق إلى ما يلاقونه بعد هجرتهم، لأن تأثير العلم الحسّي على المزاج الإنساني أقوى من العلم العقلي لعدم احتياج العلم الحسّي إلى استعمال نظر واستدلال، ولعدم اشتمال العلم العقلي على تفاصيل الكيفيات التي تحبّها النفوس وترتمي إليها الشهوات، كما أشار إليه قوله تعالى: {قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [سورة البقرة: 260].
فليس المراد بقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} لو كانوا يعتقدون ويؤمنون، لأن ذلك حاصل لا يناسب موقع {لو} الامتناعية.
فضمير {يعلمون} على هذا {للذين هاجروا}.
وفي هذا الوجه تتناسق الضمائر.
و{الذين صبروا} صفة {للذين هاجروا}.
والصبر: تحمّل المشاقّ.
والتّوكّل: الاعتماد.
وتقدم الصبر عند قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} أوائل سورة البقرة (45).
والتوكل عند قوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} في سورة آل عمران (159).
والتعبير في جانب الصبر بالمضي وفي جانب التوكّل بالمضارع إيماء إلى أن صبرهم قد آذن بالانقضاء لانقضاء أسبابه، وأن الله قد جعل لهم فرجًا بالهجرة الواقعة والهجرة المترقّبة.
فهذا بشارة لهم.
وأنّ التوكّل ديدنهم لأنهم يستقبلون أعمالًا جليلة تتمّ لهم بالتوكّل على الله في أمورهم فهم يكرّرونه.
وفي هذا بشارة بضمان النجاح.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [سورة الزمر: 10].
وتقديم المجرور في قوله تعالى: {وعلى ربهم يتوكلون} للقصر، أي لا يتوكّلون إلاّ على ربّهم دون التوكّل على سادة المشركين وولائهم. اهـ.