فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}.
خسف المكان يخسف خسوفًا ذهب، وخسفه الله يريد أذهبه في الأرض به.
{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءُوف رحيم} نزلت في مشركي مكة أنكروا نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: الله أعظم أن يكون رسوله بشرًا، فهلا بعث إلينا ملكًا؟ وتقدّم تفسير هذه الجملة في آخر يوسف، والمعنى: نوحي إليهم على ألسنة الملائكة.
وقرأ الجمهور: {يوحى} بالياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة: بالياء وكسرها وعبد الله، والسلمي، وطلحة، وحفص: بالنون وكسرها.
وأهل الذكر: اليهود، والنصارى، قاله: ابن عباس، ومجاهد، والحسن.
وعن مجاهد أيضًا: اليهود.
والذكر: التوراة لقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} وعن عبد الله بن سلام، وسلمان.
وقال الأعمش، وابن عيينة: من أسلم من اليهود والنصارى.
وقال الزجاج: عام فيمن يعزى إليه علم.
وقال أبو جعفر وابن زيد: أهل القرآن.
ويضعف هذا القول وقول من قال: من أسلم من الفريقين، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين، لأنهم مكذبون لهم.
قال ابن عطية: والأظهر أنهم اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه الآية النازلة، إنما يخبرون من الرسل عن البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم، ولا يتهمون بشهادة لهم لنا، لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو كسر حجتهم ومذهبهم، لا أنا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه.
وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألونهم ويسدون إليهم انتهى.
والأجود أن يتعلق قوله: {بالبينات} بمضمر يدل عليه ما قبله كأنه قيل: ثم أرسلوا؟ قال: أرسلناهم بالبينات والزبر، فيكون على كلامين، وقاله: الزمخشري وابن عطية وغيرهما.
وقد يتعلق بقوله: {وما أرسلنا} وهذا فيه وجهان: أحدهما: أنّ النية فيه التقديم قبل أداة الاستثناء، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالًا حتى لا يكون ما بعد إلا معمولين متأخرين لفظًا ورتبة، داخلين تحت الحصر لما قبلها، وهذا حكاه ابن عطية عن فرقة.
والوجه الثاني: أنْ لا ينوي به التقديم، بل وقعا بعد إلا في نية الحصر، وهذا قاله الحوفي والزمخشري، وبدأ به قال: تتعلق بما أرسلنا داخلًا تحت حكم الاستثناء مع رجالًا أي: وما أرسلنا إلا رجالًا بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيدًا بالسوط، لأن أصله ضربت زيدًا بالسوط انتهى.
وقال أبو البقاء: وفيه ضعف، لأنّ ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذا تم الكلام على إلا وما يليها، إلا أنه قد جاء في الشعر.
قال الشاعر:
ليتهم عذبوا بالنار جارهم ** ولا يعذب إلا الله بالنار

انتهى.
وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، لأنهم لا يجيزون أن يقع بعد إلا، إلا مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعًا، وما ظن من غير الثلاثة معمولًا لما قبل إلاّ قدر له عامل.
وأجاز الكسائي أن تقع معمولًا لما قبلها منصوب نحو: ما ضرب إلا زيد عمرًا، ومخفوض نحو: ما مرّ إلا زيد بعمرو، ومرفوع نحو: ما ضرب إلا زيدًا عمرو.
ووافقه ابن الأنباري في الموفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال.
فالقول الذي قاله الحوفي والزمخشري يتمشى على مذهب الكسائي والأخفش، ودلائل هذه المذاهب مذكورة في علم النحو.
وأجاز الزمخشري أن يكون صفة لرجال أي: رجالًا ملتبسين بالبينات فيتعلق بمحذوف، وهذا وجه سائغ، لأنه في موضع صفة لما بعد: إلا، فوصف رجالًا بيوحى إليهم، وبذلك العامل في بالبينات كما تقول: ما أكرمت إلا رجلًا مسلمًا ملتبسًا بالخير.
وأجاز أيضًا أن يتعلق بيوحى إليهم، وأن يتعلق بلا يعلمون.
قال: على أنّ الشرط في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير: إن كنت علمت لك فاعطني حقي، وقوله: {فاسألوا أهل الذكر} اعتراض على الوجوه المتقدمة يعني: من التي ذكر غير الوجه الأخير.
وأنزلنا إليك الذكر: هو القرآن، وقيل له ذكر لأنه موعظة وتبيه للغافلين.
وقيل: الذكر العلم ما نزل إليهم من المشكل والمتشابه، لأن النص والظاهر لا يحتاجان إلى بيان.
وقال الزمخشري: مما أمروا به ونهوا عنه، ووعدوا وأوعدوا.
وقال ابن عطية: لتبين بسردك بنص القرآن ما نزل إليهم.
ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل، فيدخل في هذا ما تبينه السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد انتهى.
ولعلهم يتفكرون أي: وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا. اهـ.

.قال الثعالبى:

قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ} هذه الآيةُ ردٌّ على كفَّار قريش الذين استبعدوا أنْ يبعث اللَّه بشرًا رسولًا، ثم قال تعالى: {فاسئلوا}، أي: قلْ لهم: {فاسئلوا}، و{أَهْلَ الذكر}؛ هنا: أحبارِ اليهودِ والنصارَى؛ قاله ابن عباس وغيره، وهو أظهر الأقوال، وهم في هذه النازِلَةِ خاصَّة إِنما يخبرون بأنَّ الرسُلَ من البَشَر، وأخبارُهم حجَّة على هؤلاء، وقدْ أرسلَتْ قريشٌ إِلى يهودِ يَثْرِبَ يسألونهم ويُسْنِدُون إِليهم.
وقوله: {بالبينات} متعلِّق بفعلٍ مضمرٍ، تقديره: أرسلناهم بالبيِّنات، وقالتْ فرقة: الباء متعلِّقة ب {أَرْسَلْنَا} في أول الآية، والتقدير على هذا: وما أرسلنا من قبلك بالبيِّنات والزُّبُرِ إِلاَّ رجالًا، ففي الآية تقديمٌ وتأخير، و{الزبر} الكُتُبُ المزبورة.
وقوله سبحانه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية.
ت: وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، فبيَّن عن اللَّهِ، وأوْضَح، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكَلِم، فأعرب عن دين اللَّهِ، وأفصح، ولنذكُر الآن طَرَفًا من حِكَمِهِ، وفصيحِ كلامِهِ بحذف أسانيده، قال عِياضٌ في شِفَاهُ: وأما كلامُهُ صلى الله عليه وسلم المعتادُ، وفصاحَتُه المعلومةُ، وجوامُع كَلِمِهِ، وحِكَمُه المأثورةُ، فمنها ما لا يُوَازَى فصاحةً، ولا يبارَى بلاغةً؛ كقوله: «المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»، وقوله: «النَّاسُ كَأَسْنَانِ المِشْطِ»، و«المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»، و«لاَ خَيْرِ فِي صُحْبَةِ مَنْ لاَ يَرَى لَكَ مَا تَرَى لَهُ»، و«النَّاسُ مَعَادِنٌ»، و«مَا هَلَكَ امرء عَرَفَ قَدْرَهُ»، و«المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ»، و«هو بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَكَلَّم» و«رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ خَيْرًا فَغَنِمَ، أَوْ سَكَتَ عَنْ شَرٍّ فَسَلِمَ»، وقوله: «أَسْلِمْ تَسْلَمْ»، و«أَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ»، و«إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا المُوطَّؤُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ»، وقوله: «لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِمَا لاَ يَعْنِيهِ، وَيَبْخَلُ بِمَا لاَ يُغْنِيهِ»، وقوله: «ذُو الوَجْهَيْنِ لاَ يَكُونُ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا» وَنَهْيُهُ عَنْ قِيلٍ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ، وَعُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ، وقوله: «اتق اللَّهَ حَيْثُ كُنْتَ، وَأَتْبِع السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِق النَّاسَ بِخُلُقٍ حسنٍ»؛ و«خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَاطُها»، وقوله: «أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَّا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَّا»، وقوله: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَة»، وقولِهِ في بَعْضِ دعائه: «اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي، وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي، وَتُلِمُّ بِهَا شَعْثِي، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي، وتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رَشَدِي، وَتُرَدُّ بِهَا أُلْفَتِي، وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ، اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ الفَوْزَ فِي القَضَاء، وَنُزُلَ الشُّهَدَاء، وَعَيْشَ السُّعَدَاء، وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاء»، إِلى غَيْرِ ذلكَ مِنْ بيانِهِ، وحُسْنِ كلامه ممَّا روتْهُ الكافَّة عن الكافَّة مما لا يُقَاسُ به غيره، وحاز فيه سبقًا لا يُقْدَرُ قَدْرُهُ؛ كقوله: «السَّعَيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، والشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ»؛ في أخواتها مما يدرك الناظِرُ العَجَبَ في مضمَّنها، ويذهَبُ به الفكْرُ في أداني حِكَمِها، وقال صلى الله عليه وسلم: «بَيْدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ» فجمع اللَّه له بذلك قُوَّة عارضَةِ الباديةِ وجزالَتَهَا، وَنَصَاعَةَ ألفاظِ الحاضِرَةِ وَرَوْنَقَ كلامِهَا، إِلى التأييد الإلهي الذي مَدَدُهُ الوَحْي، الذي لا يحيطُ بعلمه بَشَرِيّ. انتهى، وبالجملة فليس بَعْدَ بيان اللَّه ورسُولِهِ بيانٌ لمن عَمَّر اللَّهُ قلْبَه بالإِيمان. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ}.
وقرئ بالياء مبنيًا للمفعول وهو ردٌّ لقريش حين قالوا: الله أجلُّ من أن يكون له رسولٌ من البشر، كما هو مبنى قولِهم: {لَوْ شَاء الله مَا عَبَدْنَا} إلخ.، أي جرت السنةُ الإلهية حسبما اقتضتْه الحكمةُ بأن لا يَبعَثَ للدعوة العامة إلا بشرًا يوحي إليهم بواسطة الملَك أوامرَه ونواهيَه ليبلّغوها الناس، ولما كان المقصودُ من الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيهَ الكفار على مضمونه صُرف الخطاب إليهم فقيل: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} أي أهلَ الكتاب أو علماء الأخبار أو كلَّ من يُذكرُ بعلم وتحقيقٍ ليعلّموكم ذلك {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} حُذف جوابُه لدِلالة ما قبله عليه، وفيه دَلالةٌ على أنه لم يُرسِلْ للدعوة العامة ملَكًا، وقوله تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا} معناه رسلًا إلى الملائكة أو إلى الرسل، ولا امرأةً ولا صبيًا، ولا ينافيه نبوةُ عيسى عليه الصلاة والسلام وهو في المهْد لأنها أعمُّ من الرسالة، وإشارةٌ إلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يُعلم.
{بالبينات والزبر} بالمعجزات والكتبِ، والباء متعلقةٌ بمقدر وقع جوابًا عن سؤال من قال: بمَ أُرسلوا؟ فقيل: أرسلوا بالبينات والزبر، أو بما أرسلنا داخلًا تحت الاستثناء مع رجالًا عند من يجوّزه، أي ما أرسلنا إلا رجالًا بالبينات كقولك: ما ضربت إلا زيدًا بالسوط، أو على نية التقديمِ قبل أداة الاستثناء أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالًا عند من يجوّز تأخرَ صلةِ ما قبل إلا إلى ما بعده، أو ما وقع صفةً للمستثنى أي إلا رجالًا ملتبسين بالبينات أو بنوحي على المفعولية أو الحالية من القائم مقامَ فاعل يوحى وهو إليهم على أن قوله تعالى: {فاسألوا} اعتراضٌ أو بقوله: {لاَ تَعْلَمُونَ} على أن الشرطَ للتبكيت كقول الأجير: إن كنت عمِلْتُ لك فأعطِني حقي.
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} أي القرآنَ، وإنما سُمّي به لأنه تذكيرٌ وتنبيهٌ للغافلين {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ} كافةً ويدخل فيهم أهلُ مكة دخولًا أوليًا {مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} في ذلك الذكرِ من الأحكام والشرائعِ وغير ذلك من أحوال القرونِ المهلَكة بأفانين العذابِ حسب أعمالِهم الموجبةِ لذلك على وجه التفصيلِ بيانًا شافيًا، كما ينبىء عنه صيغةُ التفعيل في الفعلين لاسيما بعد ورودِ الثاني أو لا على صيغة الإفعالِ، ولِما أن التبيينَ أعمُّ من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه دخل تحته القياسُ على الإطلاق سواء كان في الأحكام الشرعية أو غيرِها، ولعل قوله عز وجل: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} إشارةٌ إلى ذلك أي إرادةَ أن يتأملوا فيتنبّهوا للحقائق وما فيه من العبر، ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ}.
رد لقريش حيث أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله تعالى أعظم أن يكون رسوله بشرًا هلا بعث إلينا ملكًا أي جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا نبعث للدعوة العامة إلا بشرًا نوحي إليهم بواسطة الملك في الأغلب الأوامر والنواهي ليبلغوها، ويحترز بالدعوة العامة عن بعث الملك للأنبياء عليهم السلام للتبليغ أو لغيرهم كبعثه لمريم للبشارة، وبالأغلب بعض أقسام الوحي مما لم يكن بواسطة الملك كما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51]، وقرأ الجمهور: {يُوحِى} بالياء وفتح الحاء.
وفرقة بالياء وكسرها؛ وعبد الله والسلمي وطلحة وحفص بالنون وكسرها.
وفي ذلك من تعظيم أمر الوحي ما لا يخفى.
ولما كان المقصود من الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه الكفار على مضمونه صرف الخطاب إليهم فقيل: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى قاله ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم، وتسمية الكتاب تعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن مجاهد تخصيصه بالتوراة لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزبور مِن بَعْدِ الذكر} [الأنبياء: 105]. فأهله اليهود.
قال في البحر والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب لأنهم الذين لا يتهمون عند أهل مكة في إخبارهم بأن الرسل عليهم السلام كانوا رجالًا فإخبارهم بذلك حجة عليهم، والمراد كسر حجتهم وإلزامهم وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج فيه إلى إخبار هؤلاء، وقد أرسل المشركون بعد نزولها إلى أهل يثرب يسألونهم عن ذلك، وقال الأعمش وابن عيينة وابن جبير: المراد من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما وغيرهما.
ويضعفه أن قول من أسلم لا حجة فيه على الكفار ومنه يعلم ضعف ما قال أبو جعفر وابن زيد من أن المراد من الذكر القرآن لأن الله تعالى سماه ذكرًا في مواضع منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا، وأهل الذكر على هذا المسلمون مطلقًا، وخصهم بعض الإمامية بالأئمة أهل البيت احتجاجًا بما رواه جابر ومحمد بن مسلم منهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه قال: نحن أهل الذكر، وبعضهم فسر الذكر بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {ذِكْرًا رَسُولًا} على قول، ويقال على مقتضى ما في البحر: كيف يقنع كفار أهل مكة بخبر أهل البيت في ذلك وليسوا بأصدق من رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم وهو عليه الصلاة والسلام المشهور فيما بينهم بالأمين، ولعل ما رواه ابن مردويه منا موافقًا بظاهره لمن زعمه ذلك البعض من الإمامية عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليصلي ويصوم ويحج ويعتمر وإنه لمنافق قيل: يا رسول الله بماذا دخل عليه النفاق؟ قال: يطعن على إمامه وإمامه من قال الله تعالى في كتابه: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} إلى آخره» مما لا يصح، وأنا أقول يجوز أن يراد من أهل الذكر أهل القرآن وإن قال أبو حيان ما قال وستعلم وجهه قريبًا إن شاء الله تعالى المنان.
وقال الرماني والزجاج والأزهري: المراد بأهل الذكر علماء أخبار الأمم السالفة كائنًا من كان فالذكر بمعنى الحفظ كأنه قيل: اسألوا المطلعين على أخبار الأمم يعلموكم بذلك {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} وجواب {إن} إما محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فاسألوا، وأما نفس ما قبله بناء على جواز تقدم الجواب على الشرط.
واستدل بالآية على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا صبيًا لا ينافيه نبوة عيسى عليه السلام في المهد فإن النبوة أعم من الرسالة؛ ولا يقتضي صحة القول بنبوة مريم أيضًا لأن غايته نفي رسالة المرأة، ولا يلزم من ذلك إثبات نبوتها، وذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحح ذلك ابن السيد، ولا ينافي ما دلت عليه الآية من نفي إرسال الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلًا} [فاطر: 1]. لأن المراد جاعلهم رسلًا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم السلام لا للدعوة العامة وهو المدعي كما علمت فالرسول إما بالمعنى المصطلح أو بالمعنى اللغوي، وقال الجبائي: إن الملائكة عليهم السلام لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم السلام إلا ممثلين بصور الرجال ورد بما روي أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين، وهو وارد على الحصر المقتضى للعموم فلا يرد عليه أنه لا دلالة فيما روي على رؤية من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام على صورته مع أنه إذا ثبت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام فلا مانع من ثبوته لغيره قاله الشهاب، وذكر أنه نقل الإمام عن القاضي أن مراد الجبائي أنهم لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بحضرة أممهم إلا وهم على صور الرجال كما روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحضر من أصحابه في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وفي صورة أعرابي لم يعرفوه.
واستدل بها أيضًا على وجوب المراجعة للعلماء فيما لا يعلم.
وفي الإكليل للجلال السيوطي أنه استدل بها على جواز تقليد العامي في الفروع وانظر التقييد بالفروع فإن الظاهر العموم لاسيما إذا قلنا إن المسألة المأمورين بالمراجعة فيها والسؤال عنها من الأصول، ويؤيد ذلك ما نقل عن الجلال المحلي أنه يلزم غير المجتهد عاميًا كان أو غيره التقليد للمجتهد لقوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} والصحيح أنه لا فرق بين المسائل الاعتقادية وغيرها وبين أن يكون المجتهد حيًا أو ميتًا. اهـ.
وصحح هو وغيره امتناع التقليد على المجتهد مطلقًا سواء كان له قاطع أو لا وسواء كان مجتهدًا بالفعل أو له أهلية الاجتهاد، ومقتضى كلامهم أنه لا فرق بين تقليد أحد أئمة المذاهب الأربع وتقليد غيره من المجتهدين.