فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحى إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بالبينات والزبر}.
كانت الآيات السابقة جارية على حكاية تكذيب المشركين نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وإنكارهم أنه مرسل من عند الله وأن القرآن وحي الله إليه، ابتداء من قوله تعالى: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} [سورة النحل: 24]، وردّ مزاعمهم الباطلة بالأدلّة القارعة لهم متخلّلًا بما أدمج في أثنائه من معان أخرى تتعلّق بذلك، فعاد هنا إلى إبطال شبهتهم في إنكار نبوءته من أنه بشر لا يليق بأن يكون سفيرًا بين الله والناس، إبطالًا بقياس التّمثيل بالرّسل الأسبقين الذين لا تنكر قريش رسالتهم مثل نوح وإبراهيم عليهما السلام.
وهذا ينظر إلى قوله في أول السورة {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده} [سورة النحل: 1].
وقد غيّر أسلوب نظم الكلام هنا بتوجيه الخطاب إلى النبي بعد أن كان جاريًا على أسلوب الغيبة ابتداء من قوله تعالى: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} [سورة النحل: 22]، وقوله تعالى: {وقال الذين أشركوا} [سورة النحل: 35]. الآية، تأنيسًا للنبيء عليه الصلاة والسلام لأن فيما مضى من الكلام آنفًا حكاية تكذيبهم إيّاه تصريحًا وتعريضًا، فأقبل الله على الرسول بالخطاب لما في هذا الكلام من تنويه منزلته بأنه في منزلة الرسل الأولين عليهم الصلاة والسلام.
وفي هذا الخطاب تعريض بالمشركين، ولذلك التفت إلى خطابهم بقوله تعالى: {فسألوا أهل الذكر}.
وصيغة القصر لقلب اعتقاد المشركين وقولهم: {أبعث الله بشرًا رسولًا} [سورة الإسراء: 94]، فقصر الإرسال على التعلّق برجال موصوفين بأنهم يوحى إليهم.
ثم أشهد على المشركين بشواهد الأمم الماضية وأقبل عليهم بالخطاب توبيخًا لهم لأن التوبيخ يناسبه الخطاب لكونه أوقع في نفس الموبّخ، فاحتجّ عليهم بقوله: {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} إلخ..
فهذا احتجاج بأهل الأديان السابقين أهل الكتُب اليهود والنصارى والصابئة.
و{الذّكر} كتاب الشريعة.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر} في أول سورة الحِجر (6).
وفي قوله تعالى: {إن كنتم لا تعلمون} إيماء إلى أنهم يعلمون ذلك ولكنهم قصدوا المكابرة والتمويه لتضليل الدهماء، فلذلك جيء في الشرط بحرف {إن} التي ترد في الشرط المظنون عدم وجوده.
وجملة {فسألوا أهل الذكر} معترضة بين جملة {وما أرسلنا} وبين قوله تعالى: {بالبينات والزبر}.
والجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الجملة مفرّعًا على ما قبله، وقد جعلها في الكشاف معترضة على اعتبار وجوه ذكرها في متعلّق قوله تعالى: {بالبينات}.
ونقل عنه في سورة الإنسان (29) عند قوله تعالى: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتّخذ إلى ربه سبيلا} أنه لا تقترن الجملة المعترضة بالفاء.
وتردد صاحب الكشاف في صحة ذلك عنه لمخالفته كلامه في آية سورة النحل.
وقوله: {بالبينات} متعلّق بمستقر صفةً أو حالًا من {رجالًا}.
وفي تعلّقه وجوه أخر ذكرها في الكشاف، والباء للمصاحبة، أي مصحوبين بالبينات والزبر، فالبينات دلائل الصّدق من معجزات أو أدلّة عقلية.
وقد اجتمع ذلك في القرآن وافترق بين الرسل الأوّلين كما تفرّق منه كثير لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
و{الزُّبُر} جمع زبور وهو مشتقّ من الزبرْ أي الكتابة، ففعول بمعنى مفعول.
{والزبر} الكتب التي كتب فيها ما أوحي إلى الرسل مثل صحف إبراهيم والتوراة وما كتبه الحواريون من الوحي إلى عيسى عليه السلام وإن لم يكتبه عيسى.
ولعل عطف {الزبر} على {بالبينات} عطف تقسيم بقصد التوزيع، أي بعضهم مصحوب بالبينات وبعضهم بالأمرين لأنه قد تجيء رسل بدون كتب، مثل حنظلة بن صفوان رسول أهل الرّسّ وخالد بن سنان رسول عبس.
ولم يذكر الله لنوح عليه السلام كتابًا.
وقد تجعل {الزّبر} خاصة بالكتب الوجيزة التي ليست فيها شريعة واسعة مثل صحف إبراهيم وزبور داود عليهما السلام والإنجيل كما فسّروها به في سورة فاطر.
لما اتّضحت الحجّة بشواهد التاريخ الذي لا ينكر ذُكرت النتيجة المقصودة، وهو أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو ذكر وليس أساطير الأوّلين.
والذكر الكلام الذي شأنه أن يُذكر، أي يُتلى ويكرّر.
وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر} في سورة الحِجر (6).
أي ما كنتَ بدعًا من الرّسل فقد أوحينا إليك الذكر.
والذكر: ما أنزل ليقرأه الناس ويتلونه تكرارًا ليتذكروا ما اشتمل عليه.
وتقديم المتعلّق المجرور على المفعول للاهتمام بضمير المخاطب.
وفي الاقتصار على إنزال الذكر عقب قوله: {بالبينات والزبر} إيماء إلى أن الكتاب المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم هو بيّنةٌ وزبور معًا، أي هو معجزة وكتاب شرع.
وذلك من مزايا القرآن التي لم يشاركه فيها كتاب آخر، ولا معجزةٌ أخرى، وقد قال الله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربّه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مُبين أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمةً وذكرى لقوم يؤمنون} سورة العنكبوت (50، 51).
وفي الحديث: أن النبي قال: ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مِثْلُه آمَنَ عليه البشر وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة.
والتبيين: إيضاح المعنى.
والتعريف في الناس للعموم.
والإظهار في قوله تعالى: {ما نزل إليهم} يقتضي أن ما صدق الموصول غير الذكر المتقدم، إذ لو كان إيّاه لكان مقتضى الظاهر أن يقال لتبيّنه: للناس.
ولذا فالأحسن أن يكون المراد بما نزل إليهم الشرائع التي أرسل الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم فجعل القرآن جامعًا لها ومبينًا لها ببليغ نظمه ووفرة معانيه، فيكون في معنى قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} [سورة النحل: 89].
وإسناد التبيين إلى النبي عليه الصلاة والسلام باعتبار أنه المبلّغ للناس هذا البيانَ.
واللّام على هذا الوجه لذكر العِلّة الأصلية في إنزال القرآن.
وفسر {ما نزل إليهم} بأنه عين الذكر المنزّل، أي أنزلنا إليك الذكر لتبينّه للناس، فيكون إظهارًا في مقام الإضمار لإفادة أن إنزال الذكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم هو إنزاله إلى الناس كقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه ذكركم} [سورة الأنبياء: 10].
وإنّما أتي بلفظه مرتين للإيماء إلى التّفاوت بين الإنزالين: فإنزاله إلى النبي مباشرةً، وإنزاله إلى إبلاغه إليهم.
فالمراد بالتبيين على هذا تبيين ما في القرآن من المعاني، وتكون اللّام لتعليل بعض الحِكم الحافّة بإنزال القرآن فإنها كثيرة، فمنها أن يبيّنه النبي فتحصل فوائد العلم والبيان، كقوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للناس} [سورة آل عمران: 187].
وليس في هذه الآية دليل لمسائل تخصيص القرآن بالسنّة، وبيان مجمل القرآن بالسنّة، وترجيح دليل السنّة المتواترة على دليل الكتاب عند التعارض المفروضات في أصول الفقه إذ كل من الكتاب والسنّة هو من تبيين النبي إذ هو واسطته.
عطف {لعلهم يتفكرون} حكمة أخرى من حِكَم إنزال القرآن، وهي تهيئة تفكّر الناس فيه وتأمّلهم فيما يقرّبهم إلى رضى الله تعالى.
فعلى الوجه الأول في تفسير {لتبين للناس} يكون المراد أن يتفكّروا بأنفسهم في معاني القرآن وفهم فوائده، وعلى الوجه الثاني أن يتفكّروا في بيانك ويعوه بأفهامهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}.
وقد اعترض المعاندون من الكفار على كون الرسول بشرًا، وقالوا: إذا أراد الله أن يرسل رسولًا فينبغي أن يكون مَلَكًا فقالوا: {وَلَوْ شَاء الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} [المؤمنون: 24].
وكأنهم استقلُّوا الرسالة عن طريق بشر؛ وهذا أيضًا من غباء الكفر وحماقة الكافرين؛ لأن الرسول حين يُبلّغ رسالة الله تقع على عاتقه مسئوليتان: مسئولية البلاغ بالعلم، ومسئولية التطبيق بالعمل ونموذجية السلوك.. فيأمر بالصلاة ويُصلِّي، وبالزكاة ويُزكِّي، وبالصبر ويصبر، فليس البلاغ بالقول فقط، لا بل بالسلوك العمليّ النموذجيّ.
ولذلك كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القرآن».
وكان قرآنًا يمشي على الأرض، والمعنى: كان تطبيقًا كاملًا للمنهج الذي جاء به من الحق تبارك وتعالى.
ويقول تعالى في حقِّه صلى الله عليه وسلم: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
فكيف نتصور أن يكون الرسول مَلَكًا؟ وكيف يقوم بهذه الرسالة بين البشر؟ قد يؤدي الملك مهمة البلاغ، ولكن كيف يُؤدِّي مهمة القدوة والتطبيق العملي النموذجي؟ كيف ونحن نعلم أن الملائكة خَلْق جُبِلوا على طاعة الله: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
ومن أين تأتيه منافذ الشهرة وهو لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل؟
فلو جاء مَلَك برسالة السماء، وأراد أن ينهى قومه عن إحدى المعاصي، ماذا نتوقع؟ نتوقع أن يقول قائلهم: لا.. لا أستطيع ذلك، فأنت ملَك ذو طبيعة علوية تستطيع ترْك هذا الفعل، أما أنا فلا أستطيع.
إذن: طبيعة الأُسْوة تقتضي أن يكون الرسول بشرًا، حتى إذا ما أمر كان هو أول المؤتمرين، وإذا ما نهى كان هو أول المنتهين.
ومن هنا كان من امتنان الله على العرب، ومن فضله عليهم أنْ بعثَ فيهم رسولًا من أنفسهم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128].
فهو أولًا من أنفسكم، وهذه تعطيه المباشرة، ثم هو بشر، ومن العرب وليس من أمة أعجمية.. بل من بيئتكم، ومن نفس بلدكم مكة ومن قريش؛ ذلك لتكونوا على علم كامل بتاريخه وأخلاقه وسلوكه، تعرفون حركاته وسكناته، وقد كنتم تعترفون له بالصدق والأمانة، وتأتمنونه على كل غَال ونفيس لديكم لعلمكم بأمانته، فكيف تكفرون به الآن وتتهمونه بالكذب؟!
لذلك رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى في آية أخرى فقال: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94].
فالذي صَدَّكم عن الإيمان به كَوْنه بشرًا!!
ثم نأخذ على هؤلاء مأخذًا آخر؛ لأنهم تنازلوا عن دعواهم هذه بأنْ يأتيَ الرسول من الملائكة وقالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فهذا تردُّد عجيب من الكفار، وعدم ثبات على رأي.