فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحاصل ما أشرنا إليه أن ذلك من عموم المجاز، والأمر على احتمال أن يراد من ذاك الجمادات ظاهر، وزعم بعضهم أن السجود حقيقة مطلقًا وهو الوقوع على الأرض على قصد العبادة ويستدعي ذلك الحياة والعلم لتقصد العبادة، وليس بشيء كما لا يخفى، ثم إن قلنا على هذا الوجه: إن الواو حالية كما أشير إليه فالحالات مترادفتان، وتعدد الحال جائز عند الجمهور، ومن لم يجوز جعل الثانية بدل اشتمال أو بدل كل من كل كما فصله السمين، وإن قلنا: إنها عاطفة فلا تكون الحال مترادفة بل متعاطفة، وقال أبو البقاء: {سُجَّدًا} حال من الظلال {وَهُمْ داخرون} حال من الضمير في {سُجَّدًا} ويجوز أن يكون حالًا ثانية معطوفة اه، وفيه القول بالتداخل وهو محتمل على تقدير كون {سُجَّدًا} حالًا من ضمير {ظلاله} والوجه الأول هو المختار عند الزمخشري، ورجحه في الكشف فقال: إن انقياد الظل وذي الظل مطلوب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وظلالهم بالغدو والاصال} [الرعد: 15]. فجاعلهما حالًا من الضمير في {ظلاله} مقصر، وفيه تكميل حسن لما وصف الظلال بالسجود وصف أصحابها بالدخور الذي هو أبلغ لأنه انقياد قهري مع صفة المنقاد، ولم يجعل حالًا من الراجع إلى الموصول في {خَلَقَ الله} إذ المعنى على تصوير سجود الظل وذيه وتقارنهما في الوجود لا على مقارنة الخلق والدخور، والعامل في الحال الثاني {يتفيؤ} على ما قال ابن مالك في قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} [البقرة: 135]. اه، ومنه يعلم ما في إعراب أبي البقاء.
نعم أن في هذا الوجه بعدًا لفظيًا والأمر فيه هين، وأما جعل {وَهُمْ داخرون} {وانشق القمر وَإِن يَرَوْاْ} فمما لا يصح بحال كما لا يخفى.
هذا وذكر الإمام في اليمين والشمال قولين غير ما تقدم.
الأول: أن المراد بهما المشرق والمغرب تشبيهًا لهما بيمين الإنسان وشماله فإن الحركة اليومية آخذة من المشرق وهوى أقوى الجانبين فهو اليمين والجانب الآخر الشمال فالظلال في أول النهار تبتدىء من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدىء من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها.
والثاني: يمين البلد وشماله، وذلك أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل الكلي وهو كجل يز أو كحله على اختلاف الارصاد فإن في الصيف تحصل الشمس على يمين تلك البلدة وحينئذ تقع الإظلال على يسارها وفي الشتاء بالعكس، ولا يخفى ما في الثاني فإنه مختص بقطر مخصوص والكلام ظاهر في العموم، وقيل: المراد باليمين والشمال يمين مستقبل الجنوب وشماله، و{عَنْ} كما قال الحوفي متعلقة {بيتفيؤ} وقال أبو البقاء: متعلقة بمحذوف وقع حالًا، وقيل: هي اسم بمعنى جانب فتكون في موضع نصب على الظرفية، ولهم في توحيد {عَنِ اليمين} وجمع {الشمائل} وهو جمع غير قياسي كلام طويل.
فقيل: إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ المفرد كقوله تعالى: {جَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1]، و{خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]، وقيل: إذا فسرنا اليمين بالمشرق كان النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين واحدة، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الاظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع، وقيل: اليمين مفرد لفظًا لكنه جمع معنى فيطابق الشمائل من حيث المعنى، وقال الفراء: إنه يحتمل أن يكون مفردًا وجمعًا فإن كان مفردًا ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإن جان جمعًا ذهب إلى كلها لأن ما خلق الله لفظه واحد ومعناه الجمع، وقال الكرماني: يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف لأن الظل يفيء من الجهات كلها فبدأ باليمين لأن ابتداء التفيء منها أو تيمنًا بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين الشمال واليمين من التضاد، ونزل الخلف والقدام منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف، وهو قريب من الأول.
وتعقب بأن فيه جمع اللفظ باعتبار حقيقته ومجازه وفي صحته مقال، وقيل: المراد باليمين يمين الواقف مستقبل المشرق ويسمى الجنوب وبالشمال شماله فكأنه قيل: يتفيؤ ظلاله عن الجنوب إلى الشمال وعن الشمال إلى الجنوب ولما كان غالب المعمورة شمالي وظلالها كذلك جمع الشمال ولم يجمع اليمين، وهو كما ترى، ونقل أبو حيان عن أستاذه الحسن علي بن الصائغ أنه أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى مه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو في العشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان، هذا من جهة المعنى وأما منجهة اللفظ فجمع الثاني ليطابق {سُجَّدًا} المجاور له شمالًا كما أفرد الأول ليطابق ضمير {ظلاله} المجاور له يمينًا، ولا يخفى ما في التقديم والتأخير من حسن رعاية الأصل والفرع أيضًا، فحصل في الآية مطلقة اللفظ للمعنى وملاحظتهما معًا وتلك الغاية في الإعجاز، ويخطر لي وجه آخر في الأفراد والجمع مبني على أن المراد باليمين جهة المشرق وبالشمال جهة المغرب، وهو أنه لما كانت الجهة الأولى مطلع النور والجهة الثانية مغربه ومظهر الظلمة أفرد ما يدل على الجهة الأولى كما أفرد {النور} في كل القرآن، وجمع يدل على الجهة الثانية كما جمع الظلمة كذلك وإفراد النور وجمع الظلمة تقدم الكلام فيهما، وقد يقال: إن جمع الظلال مع إفراد ما قبله وما بعده لأن الظل ظلمة حاصلة من حجب الكثيف الشمس مثلًا عن أن يقع ضوؤها على ما يقابله فجمعت الظلال كما جمعت الظلمات، ولا يعكر على هذا أنه جمعت المشارق في القرآن كالمغارب إذ كثيرًا ما يرتكب أمر لنكتة في مقام ولا يرتكب لها في مقام آخر، وآخر أيضًا وهوأنه لما كان اليمين عبارة عن جهة المشرق وهو مبدأ الظل وحده مناسبته لتوحيد المبدأ الحقيقي وهو الله تعالى ولا كذلك جهة المغرب، ولايناسب رعاية نحو هذا في الشمال كما يرشدك إلى ذلك وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٍ ويعين على ملاحظة المبدئية نسبة الخلق إليه تعالى، وآخر أيضًا وهو أن الظل الجائي من جهة المشرق لا يتعلق به أمر شرعي والجائي من جهة المغرب يتعلق به ذلك، فإن صلاة الظهر يدخل وقتها بأول حدوثه من تلك الجهة بزوال الشمس عن وسط الماء، ووقت العصر بصيرورته مثل الشاخص أو مثليه بعد ظل الزوال إن كان كما في الآفاق المائلة، ووقت المغرب بشموله البسيطة بغروب الشمس، وما ألطف وقوع {سُجَّدًا} بعد {الشمائل} على هذا؛ وآخر أيضًا وهو أوفق بباب الإشارة وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى الفتاح، وبعد لمسلك الذهن اتساع فتأمل فلعل ما ذكرته لا يرضيك.
وقد بين الإمام أن اختلاف الظلال دليل على كونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره سبحانه، ثم قال: فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلافها معلل باختلاف الشمس؟ قلنا: قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركًا لذاته فلابد أن يكون تحركه من غيره ولابد من الاستناد بالآخرة إلى واجب الوجود جل شأنه فيرجع أمر اختلاف الظلال إليه تعالى على هذا التقدير.
وأنت تعلم أنه لا ينبغي أن يتردد في أن السبب الظاهري للظلال هو الشمس ونحوها وكثافة الشاخص، نعم في كون ذلك مستندًا إليه تعالى في الحقيقة ابتداء أو بالواسطة خلاف، ومذهب السلف غير خفي عليك فقد أشرنا إليه غير مرة فتذكره إن لم يكن على ذكر منك، ثم الظاهر أن المراد بالظلال الظلال المبسوطة وتسمى المستوية، ويجوز أن يراد بها ما يشمل الظلال المعكوسة فإنها أيضًا تتفيؤ عن اليمين والشمائل فاعرف ذلك ولا تغفل، وقرأ أبو عمرو وعيسى ويعقوب {تتفيؤ} بالتاء على التأنيث، وأمر التأنيث والتذكير في الفعل المسند لمثل الجمع المذكور ظاهر.
وقرأ عيسى {يَتَفَيَّأُ ظلاله} وهو جمع ظلة كحلة وحلل؛ قال صاحب اللوامح: الظلة بالضم الغيم وأما بالكسر فهو الفىء والأول جسم والثاني عرض، فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى، وأما في العامة فعلى الاستعارة اه، ويلوح منه القول بالقراءة بالرأي، ومن الناس من فر الظلال في قراءة العامة بالأشخاص لتكون على نحو قراءة عيسى، وأنشدوا لاستعمال الظلال في ذلك قول عبدة:
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية ** وفار للقوم باللحم المراجيل

فإنه إنما تنصب الأخبية لا الظل الذي هو الفيء، وقول الآخر:
يتبع أفياء الظلال عشية ** فإنه أراد أفياء الأشخاص

وتعقب ذلك الراغب بأنه لا حجة فيما ذكر فإن قوله: رفعنا ظل أخبية معناه رفعنا الأخبية فرفعنا بها ظلها فكأنه رفع الظل، وقوله: أفياء الظلال فالظلام فيه عام والفيء خاص والإضافة من إضافة الشيء إلى جنسه، وقال بعضهم: المراد من الظلة في قراءة عيسى الظل الذي يشبه الظلة، والمراد بها شيء كهيئة الصفة في الانتفاع به وقيل: الكلام في تلك القراءة على حذف مضاف أي ظلال ظلله، وتفسير الظلة بما هو كهيئة الصفة، والمتبادر من الظل حينئذ الظل المعكوس.
ثم إنه تعالى بعد أن ذكر ما ذكر أردفه بما يفيده تأكيدًا مع زيادة سجود ما لا ظل له فقال سبحانه: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} أو أنه سبحانه بعد ما بين سجود الظلال وذويها من الأجرام السفلية الثابتة في إحيازها ودخورها له سبحانه شرع في شأن سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أم لا؟ فقال عز من قائل ما قال، والمراد بالسجود على ما ذكره غير واحد الانقياد سواء كان انقيادًا لإرادته تعالى وتأثيره طبعًا أو انقيادًا لتكليفه وأمره طوعًا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض من غير جمع بين الحقيقة والمجاز ولكون الآية آية سجدة لابد من دلالتها على السجود المتعارف ولو ضمنا، والاسم الجليل متعلق بيسجد والتقديم لإفادة القصر وهو ينتظم القلب والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصر الافراد كما يؤذن به قوله تعالى: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51]. أي له تعالى وحده ينقاد ويخضع جميع ما في السموات وما في الأرض {مِن دَابَّةٍ} بيان لما فيهما بناء على أن الذبيب هو الحركة الجسمانية سواء كان في أرض أو سماء، والملائكة أجسام لطيفة غير مجردة وتقييد الذبيب بكونه على وجه الأرض لظهوره أو لأنه أصل معناه وهو عام هنا بقرينة المبين، وقوله سبحانه: {والملائكة} عطف على محل الدابة المبين به وهو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأن {مِنْ} البيانية لا تكون ظرفًا لغوًا وهو من عطف الخاص على العام إفادة لعظم شأن الملائكة عليهم السلام، وجوز أن يكون من عطف المباين بناء على أن يراد بما في السموات الجسمانية ويلتزم القول بتجرد الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون فيما في السموات لأن المجردات ليست في حيز وجهة وبعضهم استدل بالآية على تجرد الملائكة بناء على أن ما في السموات وما في الأرض بين أحدهما بالدابة والآخر بالملائكة والأصل في التقابل التغاير، والدابة المتحركة حركة جسمانية فلا يكون مقابلها من الأجسام لأن الجسم لابد فيه من حركة جسمانية، ولا يخفى أنه دليل اقناعي إذ يحتمل كونه تخصيصًا بعد تعميم كما سمعت آنفًا أو هو بيان لما في الأرض، والدابة اسم لما يدب على الأرض و{الملائكة} عطف على ما في السموات وهو تكرير له وتعيين إجلالًا وتعظيمًا، وذكر غير واحد أنه من عطف الخاص على العام لذلك أيضًا، وجوز أن يراد بما في السموات الخلق الذين يقال لهم الروح ويلتزم القول بأنهم غير الملائكة عليهم السلام فكيون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض، والمراد بالملائكة عليهم السلام ملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام الكاتبين ولايراد بالدابة ما يشملهم، و{مَا} إذا قلنا: إنها مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبر ابن الزبعري فاستعمالها هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب، وأما إن قلنا أن وضعها لأن تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي الذي لا يعرف أنه عاقل أو لا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر على ما قيل غير محتاج إلى تغليب، وفي أنوار التنزيل أن {مَا} استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا، وفي الكشاف أنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولًا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب اختيار ما على من، وحاصله على ما في الكشف أن من للعقلاء والتغليب مجاز فلو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي التعميم فجيء بما يعم وهو ما وأراد أن لا دليل في اللفظ، وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجواز تخصيصهم من البين بعد التعميم على أن اقتضاء المقام العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى.
وقيل بناء على أن ما مختصه بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء: إن الإتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم الله تعالى من الإتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم {وَهُمْ} أي الملائكة علو شأنهم {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادته تعالى شأنه والسجود له، وتقدير الضمير ليس للقصر، والسين ليست للطلب وقيل: له على معنى لا يطلبون ذلك فضلًا عن فعله والاتصاف به.
وإذا قلنا: إن صيغة المضارع لاستمرار التجددي فالمراد استمرار النفي.
والجملة إما حال من فاعل {يَسْجُدُ} مسندًا إلى الملائكة أو استئناف للأخبار عنهم بذلك، وإنما لم يجعل الضمير لما لاختصاصه بأولى العلم وليس المقام التغليب، وخالف في ذلك بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه: {يخافون رَبَّهُمْ} وممن صرح بعود الضمير فيه على {مَا} أبو سليمان الدمشقي، وقال أبو حيان: أنه الظاهر، وذهب ابن السائب ومقاتل إلى ما قلنا أي يخافون مالك أمرهم.
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} وممن صرح بعود الضمير فيه على {ما} [النحل: 49]. أبو سليمان الدمشقي، وقال أبو حيان: إنه الظاهر، وذهب ابن السائب ومقاتل إلى ما قلنا أي يخافون مالك أمرهم.
{مّن فَوْقِهِمْ} إما متعلق بيخافون وخوف ربهم كناية عن خوف عذابه أو الكلام على تقدير مضاف هو العذاب على ما هو الظاهر أو متعلق بمحذوف وقع حالًا من {رَّبُّهُمْ} أي كائنًا من فوقهم، ومعنى كونه سبحانه فوقهم قهره وغلبته لأن الفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى، ومذهب السلف قد أسلفناه لك وأظنه على طكر منك.
والجملة حال من الضمير في {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49]، وجوز أن تكون بيانًا لنفي الاستكبار وتقريرًا له لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته، واختاره ابن المنير وقال: إنه الوجه ليس إلا لئلا يتقيد الاستكبار وليدل على ثبوت هذه الصفة أيضًا على الإطلاق، ولابد أن يقال على تقدير الحالية: أنها حال غير منتقلة وقد جاءت في الفصيح بل في أفصحه على الصحيح، وفي اختيار عنوان الربوبية تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم.
{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل مبينًا للمفهول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه، واستدل بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء، أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر، وأما على الخوف فهوأظهر من أن يخفى، وأما على الرجاء فلاستلزام الخوف له على ما قيل، وقيل: إن اتصافهم بالرجاء لأن من خدم أكرم الأكرمين كان من الرجاء بمكان مكين، وزعم بعضهم أن خوفهم ليس إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب، ويرده قوله تعالى: {وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 28، 29]، ولا ينافي ذلك عصمتهم، وقال الإمام: الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال، وذكر أنه نقل عن ابن عباس واستدل له بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]، وفي القلب منه شيء، والحق أن الآية لا تصلح دليلًا لكون الملائكة أفضل من البشر.
واستدل بها فرقة على ذلك من أربعة أوجه ذكرها الإمام ولم يتعقبها بشيء لأنه ممن يقول بهذه الأفضلية، وموضع تحقيق ذلك كتب الكلام. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)}.
أنكر الله جل وعلا على الذين يعملون السيئات من الكفر والماصي، ومعذلك يأمنون عذاب الله ولا يخافون أخذه الأليم، وبطشه الشديد، وهو قادر على أن يخسف بهم الأرض، ويهلكهم بأنواع العذب. الخسف: بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل. كما فعل الله بقارون، قال الله تعالى فيه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81]. الآية، وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السماء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السماء} [الملك: 16-17]. الآية، وقوله: {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلًا} [الإسراء: 68]، وقوله: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99]، وقد قدمنا طرفًا من هذه في أول سورة الأعراف.
واختلف العلماء في إعراب السيئات في هذه الآية الكريمة. فقال بعض العلماء: نعت لمصدر محذوف. أي مكروا المكرات السيئات، أي القبيحات قبحًا شديدًا. كما ذكر الله عنهم في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]. الآية، وقال بعض العلماء: مفعول به ل {مكروا} على تضمين {مكروا} معنى فعلوا، وهذا أٌرب أوجه الإعراب عندي، وقيلك مفعول به ل {أمن} أي أأمن الماكرون السيئات: أي العقوبات الشديدة التي تسءهم عند نزولها بهم. ذكر الوجه الأول الزمخشري، والأخيرين ابن عطية، وذكر الجميع أبو حيان في البحر المحيط.
تنبيه:
كل ما جاء في القرآن من همزة استفهام بعدها واو العطف أو فاؤه. كقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحًا} [الزخرف: 5]، {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [سبأ: 9]، {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُم} [الجاثية: 31]. إلخ، فيه وجهان معروفان عند العلماء العربية: أحدهما- أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة ما بعدها على محذوف دل المقام عليه. كقولك مثلًا: أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحًا؟ أعمو فلم يروا إلى ما بين أيديهم؟! ألم تأتكم آياتي فلم تكن تتلى عليكم؟! وهكذا- وإلى هذا الوجه أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله:
وحذف متبوع بد هنا استبح ** وعَطفك الفعل عَلى الفعل يصح

ومحل الشّاهد في الشطر الأول دون الثاني.
الوجه الثاني: أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة للجملة المصدرة بهمزة الاستفهام على ما قبلها. إلا أن همزة الاستفهام تزحلقت عن محلها فتقدمت على الفاء والواو، وهي متأخرة عنهما في المعنى، وإ، ما تقدمت لفظًا عن محلها معنى لأن الاستفهام له صدرالكلام.
فبهذا تعلم: أن في قوله تعالى في هذه الآية التي هي قوله: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} الآية، الوجهين المذكورين. فعلى الأول: فالمعنى جهل الذين مكروا السيئات وعيد الله بالعقاب؟ أفأمن الذين مكروا السيئات إلخ، وعلى الثاني: فالمعنى فأأمن الذين كفروا السيئات. فالفاء عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام، والأول هو الأظهر، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} الآية.
تقدم بيان هذه الآية وأمثالها من الآيات في سورة الرعد. اهـ.