فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)} بعد أن ذُكرت مساويهم ومكائدهم وبعد تهديدهم بعذاب يوم البعث تصريحًا وبعذاب الدنيا تعريضًا، فُرع على ذلك تهديدهم الصريح بعذاب الدنيا بطريق استفهام التعجيب من استرسالهم في المعاندة غير مقدّرين أن يقع ما يهدّدهم به الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يقلعون عن تدبير المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم فكانت حالهم في استرسالهم كحال من هم آمنون بأس الله.
فالاستفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالتوبيخ.
و{الذين مكروا} هم المشركون.
والمكر تقدم في قوله تعالى: {قد مكر الذين من قبلهم} في هذه السورة.
وقوله تعالى: {السيئات} صفة لمصدر {مكروا} محذوفًا يقدّر مناسبًا لتأنيث صفته.
فالتقدير: مكروا المكرات السيئات، كما وصف المكر بالسيِّىء في قوله تعالى: {ولا يحيق المكر السيّىء إلا بأهله} [سورة فاطر: 43].
والتأنيث في مثل هذا يقصد منه الدلالة على معنى الخصلة أو الفَعْلة، كالغدرة للغدر.
ويجوز أن يضمن {مكروا} معنى اقترفوا فانتصب {السيئات} على المفعولية به.
ويجوز أن يكون منصوبًا على نزع الخافض وهو باء الجرّ التي معناها الآلة.
والخسف: زلزال شديد تنشقّ به الأرض فتحدث بانشقاقها هوّة عظيمة تسقط فيها الديار والناس، ثم تنغلق الأرض على ما دخل فيها.
وقد أصاب ذلك أهلَ بابل، ومكانهم يسمّى خسف بابل.
وأصاب قومَ لوط إذ جعل الله عاليها سافلها.
وبلادهم مخسوفة اليوم في بُحيرة لوط من فلسطين.
وخسف من باب ضرب.
ويستعمل قاصرًا ومتعدّيًا.
يقال: خسفت الأرضُ، ويقال: خسف الله الأرض، قال تعالى: {فخسفنا به وبداره الأرض} [سورة القصص: 81]، ولا يتعدّى إلى ما زاد على المفعول إلا بحرف التعدية، والأكثر أن يعدّى بالباء كما هنا وقوله تعالى: {فخسفنا به وبداره الأرض}، أي جعلناها خاسفة به، فالباء للتعديّة، كما يقال: ذهب به.
و{العذاب} يعمّ كل ما فيه تأليم يستمرّ زمنًا، فلذلك عطف على الخسف.
وإتيان العذاب إليهم: إصابته إياهم.
شبّه ذلك بالإتيان.
و{من حيث لا يشعرون} من مكان لا يترقّبون أن يأتيهم منه ضرّ.
فمعنى {من حيث لا يشعرون} أنه يأتيهم بغتة لا يستطيعون دفعه، لأنهم لبأسهم ومنعتهم لا يبغتهم ما يحذرونه إذ قد أعدّوا له عدّته، فكانَ الآتي من حيث لا يشعرون عذابًا غير معهود.
فوقع قوله: {من حيث لا يشعرون} كناية عن عذاب لا يطيقون دفعه بحسب اللزوم العرفي، وإلا فقد جاء العذاب عادًا من مكان يشعرون به، قال تعالى: {فلما رأوه عارضًا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا} [سورة الأحقاف: 24].
وحلّ بقوم نوح عذاب الطوفان وهم ينظرون، وكذلك عذاب الغَرَق لفرعون وقومه.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}.
الأخذ مستعار للإهلاك قال تعالى: {فأخذهم أخذة رابية} [سورة الحاقة: 10].
وتقدّم عند قوله: {أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} في سورة الأنعام (44).
والتّقلّب: السعي في شؤون الحياة من متاجرة ومعاملة وسفر ومحادثة ومزاحمة.
وأصله: الحركة إقبالًا وإدبارًا، والمعنى: أن يهلكهم الله وهم شاعرون بمجيء العذاب.
وهذا قسيم قوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون} [سورة النحل: 45].
وفي معناه قوله تعالى: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحًى وهم يلعبون} [سورة الأعراف: 98]، وتفريع {فما هم بمعجزين} اعتراض، أي لا يمنعهم من أخذه إيّاهم تقلّبهم شيء إذ لا يعجزه اجتماعهم وتعاونهم.
و{في} للظرفية المجازية، أي الملابسة، وهي حال من الضمير المنصوب في {يأخذهم}.
والتخوّف في اللغة يأتي مصدر تخوّف القاصر بمعنى خاف ومصدر تخوّف المتعدّي بمعنى تنقّص، وهذا الثاني لغة هذيل، وهي من اللغات الفصيحة التي جاء بها القرآن.
فللآية معنيان: إما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة توقّع نزول العذاب بأن يريهم مقدماته مثل الرعد قبل الصّواعق، وإما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة تنقّص من قبل أن يتنقّصهم قبل الأخذ بأن يكثر فيهم الموتان والفقر والقحط.
وحرف {على} مستعمل في التمكّن على كلا المعنيين، ومحل المجرور حال من ضمير النصب في {يأخذهم} وهو كقولهم: أخذه على غرّة.
روى الزمخشري وابن عطية يزيد أحدهما على الآخر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خفي عليه معنى التخوّف في هذه الآية وأراد أن يكتب إلى الأمصار، وأنه سأل الناس وهو على المنبر: ما تقولون فيها؟ فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا.
التخوّف: التنقّص.
قال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا:
تخوّف الرحل منها تامكا قردا ** كما تخوّف عودَ النبعة السفن

فقال عمر رضي الله عنه: أيها الناس عليكم بديوانكم لا يضلّ، قالوا وما ديواننا؟ قال شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم.
وتفرّع {فإن ربكم لرؤوف رحيم} على الجمل الماضية تفريع العلّة على المعلّل.
وحرف {إن} هنا مفيد للتعليل ومغن عن فاء التفريع كما بيّنه عبد القاهر، فهي مؤكدة لما أفادته الفاء.
والتّعليل هنا لما فهم من مجموع المذكورات في الآية من أنه تعالى قادر على تعجيل هلاكهم وأنه أمهلهم حتى نسوا بأس الله فصاروا كالآمنين منه بحيث يستفهم عنهم: أهم آمنون من ذلك أم لا.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)}.
بعد أن نهضت براهين انفراده تعالى بالخلق بما ذكر من تعداد مخلوقاته العظيمة جاء الانتقال إلى دلالة من حال الأجسام التي على الأرض كلّها مشعرةٍ بخضوعها لله تعالى خضوعًا مقارنًا لوجودها وتقلّبها آنًا فَآنًا علم بذلك من علمه وجهله من جهله.
وأنبأ عنه لسان الحال بالنسبة لِما لا علم له، وهو ما خلق الله عليه النظام الأرضي خلقًا ينطق لسان حاله بالعبودية لله تعالى، وذلك في أشدّ الأعراض مُلازمةً للذوات، ومطابَقَةً لأشكالها وهو الظلّ.
وقد مضى تفصيل هذا الاستدلال عند قوله تعالى: {وظلالهم بالغدوّ والآصال} في سورة الرعد (15).
فالجملة معطوفة على الجُمل التي قبلها عطف القصّة على القصّة.
والاستفهام إنكاري، أي قد رأوا، والرؤية بصرية.
وقرأ الجمهور: {أولم يروا} بتحتية.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف: {أولم تروا} بالمثناة الفوقية على الخطاب على طريقة الالتفات.
و{من شيء} بيانٌ للإبهام الذي في {ما} الموصولة، وإنما كان بيانًا باعتبار ما جرى عليه من الوصف بجملة {يتفيؤا ظلاله} الآية.
والتفيُّؤُ: تفعّل من فاء الظلّ فيئًا، أي عاد بعد أن أزالَه ضوءُ الشمس.
لعلّ أصلهُ من فاء إذا رجع بعد مغادرة المكان، وتفيؤ الظلال تنقّلها من جهات بعد شروق الشمس وبعد زوالها.
وتقدم ذكر الظلال عند قوله: {وظلالهم بالغدو والآصال} في سورة الرعد (15).
وقوله: {عن اليمين والشمائل}، أي عن جهات اليمين وجهات الشمائل مقصود به إيضاح الحالة العجيبة للظلّ إذ يكون عن يمين الشخص مرّة وعن شماله أخرى، أي إذا استقبل جهة ما ثم استدبرها.
وليس المراد خصوص اليمين والشمال بل كذلك الأمام والخَلْف، فاختصر الكلام.
وأفرد اليمين، لأن المراد به جنس الجهة كما يقال المَشرق.
وجمع {الشمائل} مرادًا به تعدّد جنس جهة الشمال بتعدّد أصحابها، كما قال: {فلا أقسم برب المشارق} [سورة المعارج: 40].
فالمخالفة بالإفراد والجمع تفنّن.
ومجيء فعل {يتفيؤا} بتحتية في أوله على صيغة الإفراد جرى على أحد وجهين في الفعل إذا كان فاعله جمعا غير جمع تصحيح، وبذلك قرأ الجمهور.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب {تتفيأ} بفوقيتين على الوجه الآخر.
وأفرد الضمير المضاف إليه {ظلال} مراعاةً للفظ {شيء} وإن كان في المعنى متعدّدًا، وباعتبار المعنى أضيف إليه الجمع.
و{سجدًا} حال من ضمير {ظلاله} العائد إلى {من شيء} فهو قيد للتفيّؤ، أي أن ذلك التفيّؤ يقارنه السجود مقارنة الحصول ضمنه.
وقد مضى بيان ذلك عند قوله تعالى: {وظلالهم بالغدوّ والآصال} في سورة الرعد.
وجملة {وهم داخرون} في موضع الحال من الضمير في {ظلاله} لأنه في معنى الجمع لرجوعه {ما خلق الله من شيء}.
وجُمع بصيغة الجمع الخاصة بالعقلاء تغليبًا لأن في جملة الخلائق العقلاء وهم الجنس الأهمّ.
والدّاخر: الخاضع الذّليل، أي داخرون لعظمة الله تعالى.
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}.
لما ذُكر في الآية السابقة السجود القسري ذُكر بعده هنا سجود آخر بعضه اختيار وفي بعضه شبه اختيار.
وتقديم المجرور على فعله مؤذن بالحصْر، أي سجد لله لا لغيره ما في السماوات وما في الأرض، وهو تعريض بالمشركين إذ يسجدون للأصنام.
وأوثرت {ما} الموصولة دون {من} تغليبًا لكثرة غير العقلاء.
و{من دابة} بيان ل {ما في الأرض}، إذ الدابة ما يدبّ على الأرض غير الإنسان.
ومعنى سجود الدواب لله أن الله جعل في تفكيرها الإلهامي التذاذها بوجودها وبما هي فيه من المرح والأكل والشرب، وتطلب الدفع عن نفسها من المتغلّب ومن العوارض بالمدافعة أو بالتوقّي، ونحو ذلك من الملائمات.
فحالها بذلك كحال شاكر تتيسر تلك الملائمات لها، وإنما تيسيرها لها ممن فطرها.
وقد تصحب أحوال تنعّمها حركاتٌ تشبه إيماء الشاكر المقارب للسجود، ولعلّ من حركاتها ما لا يشعر به الناس لخفائه وجهلهم بأوقاته، وإطلاقُ السجود على هذا مجاز.
ويشمل {ما في السموات} مخلوقاتتٍ غير الملائكة، مثل الأرواح، أو يراد بالسماوات الأجواء فيراد بما فيها الطيُور والفراش.
وفي ذكر أشرف المخلوقات وأقلّها تعريض بذمّ من نزل من البشر عن مرتبة الدواب في كفران الخالق، وبمدح من شابَه من البشر حال الملائكة.
وفي جعل الدوابّ والملائكة معمولين ل {يسجد} استعمال للفظ في حقيقته ومجازه.
ووصف الملائكة بأنهم {لا يستكبرون} تعريض ببعد المشركين عن أوج تلك المرتبة الملكية.
والجملة حال من {الملائكة}.
وجملة {يخافون ربهم} بيان لجملة {وهم لا يستكبرون}.
والفوقية في قوله: {من فوقهم} فوقية تصرف ومِلك وشرف كقوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} [سورة الأنعام: 18]، وقوله: {وإنا فوقهم قاهرون} [سورة الأعراف: 127].
وقوله تعالى: {ويفعلون ما يؤمرون}، أي يطيعون ولا تصدر منهم مخالفة.
وهنا موضع سجود للقارىء بالاتّفاق.
وحكمته هنا إظهار المؤمن أنه من الفريق الممدوح بأنه مشابه للملائكة في السجود لله تعالى. اهـ.