فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقول تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11].
ومنهم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10-11].
إذن: فهناك ملائكة لها علاقة بِنَا، وهم الذين أمرهم الحق سبحانه أن يسجدوا لآدم حينما خلقه الله، وصوَّره بيده، ونفخ فيه من رُوحه.، وكأن الله سبحانه يقول لهم: هذا هو الإنسان الذي ستكونون في خدمته، فالسجود له بأمر الله إعلانٌ بأنهم يحفظونه من أمر الله، ويكتبون له كذا، ويعملون له كذا، ويُدبِّرون له الأمور.. إلخ.
أما الملائكة الذين لا علاقة لهم بالإنسان، ولا يدرون به، ولا يعرفون عنه شيئًا، هؤلاء المعْنِيون في قوله سبحانه لإبليس: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75].
أي: أستكبرتَ أنْ تسجدَ؟ أم كنتَ من الصِّنْف الملَكي العالي؟.. هذا الصنف من الملائكة ليس لهم علاقة بالإنسان، وكُلُّ مهمتهم التسبيح والذكْر، وهم المعنيون بقوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].
كلُّ شيء إذن في الوجود خاضع لمرادات الحق سبحانه منه، إلا ما استثنى الله فيه الإنسان بالاختيار، فالله سبحانه لم يقهر أحدًا، لا الإنسان ولا الكون الذي يعيش فيه، فقد عرض الله سبحانه الأمانة على السموات والأرض والجبال، فأبيْنَ أن يحملنها وأشفقْنَ منها.، وكأنها قالت: لا نريد أن نكون مختارين، بل نريد أن نكون مُسخَّرين، ولا دَخْلَ لنا في موضوع الأمانة والتكليف!!
لماذا إذن يأبى الكون بسمائه وأرضه تحمُّل هذه المسئولية؟
نقول: لأن هناك فَرْقًا بين تقبُّل الشيء وقت تحمُّله، والقدرة على الشيء وقت أدائه.. هناك فَرْق.. عندنا تحمُّل وعندنا أداء.، وقد سبق أنْ ضربنا مثلًا لتحمُّل الأمانة وقُلْنا: هَبْ أن إنسانًا أراد أن يُودع عندك مبلغًا من المال مخافة تبديده لتحفظه له لحين الحاجة إليه، وأنت في هذا الوقت قادر على التحمل وتنوي أداء أمانته إليه عند طلبها وذمَّتك قوية، ونيتك صادقة.
وهذا وقت تحمُّل الأمانة، فإذا ما جاء وقت الأداء، فربما تضطرك الظروف إلى إنفاق هذا المال، أو يعرض لك عارضٌ يمنعك من الأداء أو تتغيّر ذمتك.
إذن: وقت الأداء شيء آخر.
لذلك، فالذي يريد أنْ يُبريء ذمته لا يضمن وقت الأداء ويمتنع عن تحمُّل الأمانة ويقول لنفسه: لا، إن كنت أضمن نفسي وقت التحمل فلا أضمن نفسي وقت الأداء.
هذا مثال لما حدثَ من السماء والأرض والجبال حينما رفضت تحمُّل الأمانة، ذلك لأنها تُقدّر مسئوليتها وثقلها وعدم ضمان القيام بحقها، لذلك رفضت تحمُّلها من بداية الأمر.
وكذلك يجب أن يكون الإنسان عاقلًا عند تحمُّل الأمانات؛ ولذلك يقول تعالى: {وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
ما الذي جهله الإنسان؟ جهل تقدير حالة وقت أداء الأمانة، فظلم نفسه، ولو أنه خرج من باب الجمال كما يقولون لَقالَ: يا ربِّ اجعلني مثل السماء والأرض والجبال، وما تُجريه عليَّ، فأنا طَوْع أمرك.
ولذلك، فمن عباد الله مَنْ قَبِل الاختيار وتحمَّل التكليف، ولكنه خرج عن اختياره ومراده لمراد ربِّه وخالقه، فقال: يا رب أنت خلقْتَ فينا اختيارًا، ونحن به قادرون أن نفعل أو لا نفعل، ولكنَّا تنازلنا عن اختيارنا لاختيارك، وعن مرادنا لمرادك، ونحن طَوْع أمرك.. هؤلاء هم عباد الله الذين استحقوا هذه النسبة إليه سبحانه وتعالى.
إذن: هناك فَرْق بين مَنْ يفعل اختيارًا مع قدرته على ألاَّ يفعل، وبين مَنْ يفعل بالقهر والتسخير.. فالأول مع أنه قادر ألاَّ يفعل، فقد غلَّب مُراد ربِّه في التكليف على مراد نفسه في الاختيار. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا}.
أي: يدعو إلى الخير {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ في هذه الدنيا حَسَنَةٌ} أي: للذين وحّدوا في هذه الدنيا، لهم الحسنة في الآخرة أي: الجنة {وَلَدَارُ الآخرة} يعني: الجنة {خَيْرٌ} أي: أفضل من الدنيا {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} يعني: المطيعين.
قال مقاتل في قوله: {قَالُواْ خَيْرًا} أي: قالوا للوافد إنه يأمر بالخير، وينهى عن الشر {قَالُواْ خَيْرًا} ثم قطع الكلام.
يقول الله تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} أي: أحسنوا العمل في هذه الدنيا، لهم حسنة في الآخرة أي: في الجنة {وَلَدَارُ الآخرة} خير يعني: الجنة أفضل من ثواب المشركين الذين يحملون أوزارهم.
ويقال: هذه كلها حكاية كلام المؤمنين، إلى قوله: {المتقين} قرأ عاصم في رواية أبي بكر: {تُسِرُّونَ} بالتاء على معنى المخاطبة.
{سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ} بالياء على معنى المغايبة.
وروي عن حفص: الثلاث كلها بالياء على معنى المغايبة.
وقرأ الباقون: بالتاء على معنى المخاطبة.
ثم وصف دار المتقين فقال: {جنات عَدْنٍ} يعني: الدار التي هي للمتقين جنات عدن {يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ} أي: يحبون، ويتمنون {كَذَلِكَ يَجْزِى الله المتقين} أي: هكذا يثبت الله المتقين الشرك.
قوله: {الذين تتوفاهم الملائكة} أي: ملك الموت {طَيّبِينَ} يقول: زاكين، طاهرين من الشرك، والذنوب، {يَقُولُونَ} أي: يقول لهم خزنة الجنة في الآخرة {سلام عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا.
ويقال: هذا مقدم ومؤخر.
أي: جنات عدن يدخلونها.
ثم قال: {الذين تتوفاهم الملائكة} قرأ حمزة: {الذين} بالياء بلفظ التذكير.
والباقون: بالتاء بلفظ التأنيث، لأن الفعل إذا كان قبل الاسم جاز التذكير والتأنيث.
قوله: {أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ} يقول: ما ينظرون وهم أهل مكة {إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} أي: ملك الموت يقبض أرواحهم {أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ} أي: عذاب ربك يوم بدر، ويقال: يوم القيامة {كَذَلِكَ فَعَلَ} أي: كذلك كذب {الذين مِن قَبْلِهِمْ} رسلهم، كما كذبك قومك، فأهلكهم الله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} يعني: بإهلاكه إياهم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بتكذيبهم رسلهم.
قرأ حمزة والكسائي: {إلا أن يأتيهم} بالياء بلفظ التذكير، والباقون بلفظ التأنيث، لأن الفعل مقدم.
{فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي: جزاء ما عملوا {وَحَاقَ بِهِم} أي: نزل بهم {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} من العذاب أنه غير نازل بهم.
قوله: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ} أي: أهل مكة {لَوْ شَاء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء} قالوا ذلك على وجه الاستهزاء.
يعني: إن الله قد شاء لنا ذلك الذي {نَحْنُ} فيه {وَلاَ ىَابَاؤنَا} ولكن شاء لنا ولآبائنا {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء} ولا آباؤنا، ولكن شاء لنا من تحريم البحيرة، والسائبة، وأمرنا به.
ولو لم يشأ، ما حرمنا من دونه من شيء.
قال الله تعالى: {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يقول: هكذا كذب الذين من قبلهم من الأمم {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ} أي: ليس عليهم إلا تبليغ الرسالة {المبين} أي: بينّوا لهم ما أمروا به.
قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ} أي: في كل جماعة {رَسُولًا} كما بعثناك إلى أهل مكة {أَنِ اعبدوا الله} أي: وحدوا الله، وأطيعوه {واجتنبوا الطاغوت} أي: اتركوا عبادة الطاغوت، وهو الشيطان، والكاهن، والصنم، {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله} لدينه، وهم الذين أجابوا الرسل للإيمان {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ} يعني: وجبت {عَلَيْهِ الضلالة} فلم يجب الرسل إلى الإيمان {فَسِيرُواْ في الأرض} يقول سافروا في الأرض {فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} يقول: اعتبروا كيف كان آخر أمر المكذبين.
فلما نزلت هذه الآية، قرأها صلى الله عليه وسلم عليهم فلم يؤمنوا، فنزل قوله: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} يعني: على إيمانهم {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} يقول: من يضلل الله، وعلم أنه أهل لذلك، وقدر عليه ذلك.
قال مقاتل: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ في طغيانهم يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186]. قرأ أهل الكوفة، حمزة، وعاصم، والكسائي، {لاَّ يَهِدِّى} بنصب الياء، وكسر الدال، أي لا يهدي من يضلله الله.
وقرأ الباقون: {لاَّ يَهِدِّى} بضم الياء، ونصب الدال، على معنى فعل ما لم يسم فاعله، ولم يختلفوا في {يُضِلَّ} أنه بضم الياء، وكسر الضاد.
وقال إبراهيم بن الحكم: سألت أبي عن قوله تعالى: {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} فقال: قال عكرمة.
قال ابن عباس: من يضلله الله لا يهدى {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} أي: من مانعين من نزول العذاب.
قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم} وكل ما حلف بالله، فهو جهد اليمين لأنهم كانوا يحلفون بالأصنام بآبائهم، ويسمون اليمين بالله جهد باليمين، وكانوا ينكرون البعث بعد الموت، وحلفوا بالله حين قالوا: {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} فكذبهم الله تعالى في مقالتهم، فقال: {بلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا} أوجبه على نفسه ليبعثهم بعد الموت.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يصدقون بالبعث بعد الموت.
قوله: {لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من الدين يوم القيامة يعني: يبعثهم، ليبين لهم أن ما وعدهم حقّ {وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ} يعني: ليستبين لهم عندما خرجوا من قبورهم {أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين} في الدنيا.
قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء} يعني: إن بعثهم على الله يسير {إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة: {فَيَكُونُ} بضم النون.
وقرأ الباقون: بالنصب.
قوله: {والذين هاجروا في الله} أي: هاجروا من مكة إلى المدينة في طاعة الله {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي: عذبوا {لَنُبَوّئَنَّهُمْ في الدنيا حَسَنَة} أي: لننزلنهم بالمدينة، ولنعطينهم الغنيمة فهذا الثواب في الدنيا {وَلاَجْرُ الآخرة} أي: الجنة {أَكْبَرَ} أي: أفضل {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: يصدقون بالثواب.
ثم نعتهم فقال: {الذين صَبَرُواْ} على العذاب {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: يثقون به، ولا يثقون بغيره، منهم بلال بن حمامة، وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان، وخباب بن الأرت؛ قال مقاتل: نزلت الآية في هؤلاء الأربعة.
عذبوا على الإيمان بمكة.
وقال في رواية الكلبي: نزلت في ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسرهم أهل مكة، وذكر هؤلاء الأربعة، واثنين آخرين، عابس وجبير مولى لقريش.
فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام.
فأما صهيب فابتاع نفسه بماله، ورجع إلى المدينة وأما سائر أصحابه، فقالوا بعض ما أرادوا ثم هاجروا إلى المدينة بعد ذلك.
ثم قال قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ} كما أوحي إليك، وذلك أن مشركي قريش لما بلغهم النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى، أنكروا ذلك، وقالوا: لن يبعث الله رجلًا إلينا، ولو أراد الله أن يبعث إلينا رسولًا، لبعث إلينا من الملائكة الذين عنده، فنزل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} إلى الأمم الماضية {إِلاَّ رِجَالًا} مثلك {نُّوحِى إِلَيْهِمْ} كما نوحي إليك قرأ عاصم في رواية حفص: {نُوحِى} بالنون وقرأ الباقون: بالياء.
ثم قال: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} أي: أهل التوراة والإنجيل {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بالبينات والزبر} وفي الآية تقديم وتأخير.
أي: وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالًا نوحي إليهم بالبينات، والزبر.
وروى أسباط عن السدي قال: البينات: الحلال، والحرام.
والزبر: كتب الأنبياء.
وقال الكلبي: البينات أي: بالآيات الحلال، والحرام، والأمر، والنهي، ما كانوا يأتون به قومهم منها، وهو كتاب النبوة.
ويقال: البينات التي كانت تأتي بها الأنبياء، مثل عصا موسى وناقة صالح.
وقال مقاتل: {والزبر} يعني: حديث الكتب.
ثم قال: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} يعني: القرآن {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ} لتقرأ للناس {مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} أي: ما أمروا به في الكتاب {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} يتفكروا فيه، ليؤمنوا به.
ثم خوّفهم فقال: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} أي: أشركوا بالله {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} يعني: أن تغور الأرض بهم، حتى يدخلوا فيها إلى الأرض السفلى {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: من حيث لا يعلمون بهلاكهم.
قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ} أي: في ذهابهم، ومجيئهم في تجارتهم {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} أي: على تنقص.
ويقال: يأخذ قرية بالعذاب، ويترك أخرى قريبةً منها، فيخوفها بمثل ذلك.
وهذا قول مقاتل: وروي عن بعض التابعين أن عمر سأل جلساءه عن قوله: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} فقالوا: ما نرى إلا عند بعض ما يرون من الآيات يخوفهم، فقال عمر: ما أراه إلاَّ عندما يتنقصون من معاصي الله، فخرج رجل فلقي أعرابيًا، فقال: يا فلان ما فعل دينك؟ قال: تخيلته أي: تنقصته.
فرجع إليه فأخبره بذلك.
ثم قال تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} أي: لا يعجل عليهم بالعقوبة.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} قرأ حمزة والكسائي: {أَوَلَمْ تَرَوْاْ} بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون: بالياء على معنى المغايبة يعني: أولم يعتبروا {إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء} عند طلوع الشمس وعند غروبها {يَتَفَيَّأُ ظلاله} يعني: يدور ظله {عَنِ اليمين والشمآئل} قال القتبي: أصل الفيء الرجوع.
وتفيؤ الظلال: رجوعها من جانب إلى جانب {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون} أي: صاغرون، وهم مطيعون.
وأصل السجود التطأطؤ، والميل.
يقال: سجد البعير إذا تطأطأ، وسجدت النخلة إذا مالت.
ثم قد يستعار السجود، ويوضع موضع الاستسلام، والطاعة، ودوران الظل، من جانب إلى جانب.
هو سجوده لأنه مستسلم، منقاد، مطيع.
فذلك قوله: {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون} قرأ أبو عمرو: {تَتَفَيَّأُ} بالتاء بلفظ التأنيث، والباقون: بالياء، لأن تأنيثه ليس بحقيقي، ولأن الفعل مقدم، فيجوز التذكير والتأنيث.
ثم قال تعالى: {داخرون وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} أي: يستسلم {مَا فِي السموات} من الملائكة، والشمس، والقمر، والنجوم، {وَمَا في الأرض مِن دَآبَّةٍ} يعني: يسجد لله جميع ما في الأرض من دابة {والملئكة} يعني: وما على الأرض من الملائكة.
ويقال: فيه تقديم وتأخير، ومعناه: ما في السموات من الملائكة، وما في الأرض من دابة.
ويقال: معناه يسجد له جميع ما في السموات، وما في الأرض، من دابة والملائكة.
يعني: الدواب، والملائكة، والذين هم في السموات والأرض.
ثم قال: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي: لا يتعظمون عن السجود لله تعالى: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} أي: يخافون الله تعالى.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ لله تَعَالَى مَلائِكَةً فِي السَّمَاء السَّابِعَةِ سُجّدًا مُذْ خَلَقَهُمُ الله تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَةِ الله تَعَالَى، فَإِذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ فَقَالُوا: ما عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ» فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} أي: يخافون خوفًا، معظمين، مبجلين.
ويقال: خوفم بالقهر، والغلبة، والسلطان.
ويقال: معناه يخافون ربهم الذي على العرش، كما وصف نفسه بعلوه، وقدرته، والطريق الأول أوضح كقوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]. أي: لا يعصون الله تعالى طرفة عين.
قرأ أبو عمرو: {يتفيؤا} بالتاء بلفظ التأنيث.
وقرأ الباقون: بالياء لأن تأنيثه مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث. اهـ.