فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وقيل للذين اتَّقَوا ماذا أنزل ربكم}.
روى أبو صالح عن ابن عباس أنّ مشركي قريش بعثوا ستة عشر رجلًا إِلى عِقاب مكة أيام الحج على طريق الناس، ففرَّقوهم على كل عَقَبَةٍ أربعة رجال، ليصدُّوا الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالوا لهم: مَنْ أتاكم من الناس يسألُكم عن محمد فلْيقُلْ بعضُكم: شاعِرٌ، وبَعْضُكم: كاهِنٌ، وبَعْضُكم: مجنون، وألاَّ ترَوْه ولا يراكم خَيْرٌ لكم، فإذا انتَهوا إِلينا، صدَّقانكم، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إِلى كل أربعة منهم أربعةً من المسلمين، فيهم عبد الله بن مسعود، فأُمِرُوا أن يكذِّبوهم، فكان الناس إِذا مرُّوا على المشركين، فقالوا ما قالوا، ردّ عليهم المسلمون، وقالوا: كذبوا، بل يدعو إِلى الحق، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إِلى الخير، فيقولون: وما هذا الخير الذي يدعوا إِليه؟ فيقولون: {للذين أُحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ}.
قوله تعالى: {قالوا خيرًا} أي: أنزل خيرًا، ثم فسر ذلك الخير فقال: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا} قالوا: لا إِله إِلا الله، وأحسنوا العمل {حسنةً} أي: كرامة من الله تعالى في الآخرة، وهي الجنة، وقيل: {للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} في الدنيا وهي مارزقهم من خيرها وطاعته فيها، {ولدار الآخرة} يعني: الجنة {خير} من الدنيا.
وفي قوله تعالى: {ولنعم دار المتقين} قولان:
أحدهما: أنها الجنة، قاله الجمهور.
قال ابن الأنباري: في الكلام محذوف، تقديره: ولنعم دار المتقين الآخرةُ، غير أنه لما ذُكرت أولًا، عرف معناها آخرًا، ويجوز أن يكون المعنى: ولنعم دار المتقين جناتُ عَدْنٍ.
والثاني: أنها الدنيا.
قال الحسن: ولنعم دار المتقين الدنيا، لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة.
قوله تعالى: {جنات عَدْنٍ} قد شرحناه في [براءة: 72].
قوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة} وقرأ حمزة: {يتوفاهم} بياء مع الإِمالة.
وفي معنى {طَيِّبينَ} خمسة أقوال:
أحدها: مؤمنين.
والثاني: طاهرين من الشرك.
والثالث: زاكية أفعالهم وأقوالهم.
والرابع: طيبةٌ وفاتُهم، سَهْلٌ خروجُ أرواحهم.
والخامسة: طيبة أنفسهم بالموت، ثقة بالثواب.
قوله تعالى: {يقولون} يعني الملائكة {سلام عليكم}.
وفي أي وقت يكون هذا السلام؟ فيه قولان:
أحدهما: عند الموت.
قال البراء بن عازب: يسلِّم عليه ملك الموت إِذا دخل عليه.
وقال القرظي: ويقول له: الله عز وجل يقرأ عليك السلام، ويبشره بالجنة.
والثاني: عند دخول الجنة.
قال مقاتل: هذا قول خزنة الجنة لهم في الآخرة يقولون: سلام عليكم.
قوله تعالى: {هل ينظرون إِلاَّ أن تأتيهم الملائكة} وقرأ حمزة، والكسائي: {يأتيهم} بالياء، وهذا تهديد للمشركين، وقد شرحناه في [البقرة: 210]، وآخر [الأنعام: 158].
وفي قوله تعالى: {أو يأتيَ أمر ربك} قولان:
أحدهما: أمر الله فيهم، قاله ابن عباس.
والثاني: العذاب في الدنيا، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم} يريد: كفار الأمم الماضية، كذَّبوا كما كذَّب هؤلاء.
{وما ظلمهم الله} بإهلاكهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}، بالشرك {فأصابهم سيئات ما عملوا} أي: جزاؤها، قال ابن عباس: جزاء ما عملوا من الشرك، {وحاق بهم} قد بيناه في [الأنعام: 10]، والمعنى: أحاط بهم {ما كانوا به يستهزؤن} من العذاب.
قوله تعالى: {وقال الذين أشركوا} يعني: كفار مكة {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} يعني: الأصنام أي لو شاء ما أشركنا ولا حرَّمنا من دونه من شيء من البَحِيرَة، والسائبة، والوصيلة، والحَامِ، والحرث، وذلك أنه لما نزل {وماتشاؤون إِلاّ أن يشاء الله} [الدهر: 30]. قالوا هذا، على سبيل الاستهزاء، لا على سبيل الاعتقاد، وقيل: معنى كلامهم: لو لم يأمرنا بهذا ويُرِدْهُ منّا، لم نأته.
قوله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم} أي: من تكذيب الرسل وتحريم ما أحل الله، {فهل على الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} يعني: ليس عليهم إِلاّ التبليغ، فأما الهداية، فهي إِلى الله تعالى، وبيَّن ذلك بقوله: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا} أي: كما بعثناك في هؤلاء {أَنِ اعبدوا الله} أي: وحِّدوه {واجتنبوا الطاغوت} وهو الشيطان {فمنهم مَنْ هدى الله} أي: أرشده {ومنهم مَنْ حقت عليه الضلالة} أي: وجبت في سابق علم الله، فأعلم الله عز وجلّ أنه إِنما بعث الرسل بالأمر بالعبادة، وهو من وراء الإِضلال والهداية، {فسيروا في الأرض} أي: معتبرين بآثار الأمم المكذبة.
ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة لا يهتدي، فقال: {إِن تحرص على هداهم} أي: إِن تطلب هداهم بجهدك {فإن الله لا يهدي من يضل} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، {لا يُهدَى} برفع الياء وفتح الدال، والمعنى: من أضله، فلا هادي له، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {يَهْدِي} بفتح الياء وكسر الدال، ولم يختلفوا في {يُضِل} أنها بضم الياء وكسر الضاد، وهذه القراءة تحتمل معنيين، ذكرهما ابن الأنباري.
أحدهما: لا يهدي من طَبَعَهُ ضَالًا، وخَلَقَهُ شقيًّا.
والثاني: لا يهدي أي: لا يهتدي من أضله، أي: مَنْ أضله الله لا يهتدي، فيكون معنى يهدي: يهتدي، تقول العرب: قد هُدِيَ فلانٌ الطريق، يريدون: اهتدى.
قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} سبب نزولها أن رجلا من المسلمين كان له على رجل من المشركين دَين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلَّم به: والذي أرجوه بعد الموت، فقال المشرك: وإِنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله {لا يبعث الله من يموت}، فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية.
و{جهدَ أيمانهم} مفسر في [المائدة: 53].
وقوله: {بلى} رَدٌّ عليهم، قال الفراء: والمعنى: {بلى} ليبعثنَّهم {وعدًا عليه حقًا}.
قوله تعالى: {لِيبيِّن لهم الذي يختلفون فيه} قال الزجاج: يجوز أن يكون متعلقًا بالبعث، فيكون المعنى: بلى يَبعثهم فيبين لهم، ويجوز أن يكون متعلقًا بقوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولًا} ليُبيِّنَ لهم.
وللمفسرين في قوله: {ليبين لهم} قولان:
أحدهما: أنهم جميع الناس، قاله قتادة.
والثاني: أنهم المشركون، يبين لهم بالبعث ما خالفوا المؤمنين فيه.
قوله تعالى: {أنهم كانوا كاذبين} أي: فيما أقسموا عليه من نفي البعث.
ثم أخبر بقدرته على البعث بقوله: {إِنما قولنا لشيء إِذا أردناه أن نقول له كن فيكون} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة: {فيكونُ} رفعًا، وكذلك في كل القرآن.
وقرأ ابن عامر، والكسائي: {فيكونَ} نصبًا.
قال مكي بن إِبراهيم: من رفع، قطعه عمَّا قبله، والمعنى: فهو يكون، ومن نصب، عطفه على {يقول}، وهذا مثل قوله: {وإِذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون}، وقد فسرناه في [البقرة: 117].
فإن قيل: كيف سمي الشيء قبل وجوده شيئًا؟.
فالجواب: أن الشيء وقع على المعلوم عند الله قبل الخلق، لأنه بمنزلة ما قد عُوِينَ وشَوهِدَ.
قوله تعالى: {والذين هاجروا في الله} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلالٍ، وعمار، وصهيب، وخبَّاب بن الأرتِّ، وعايش وجبر مَولَيان لقريش، أخذهم أهل مكة فجعلوا يُعذِّبونهم، ليردُّوهم عن الإِسلام، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في أبي جندل بن سهيل بن عمرو، قاله داود بن أبي هند.
والثالث: أنهم جميع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله قتادة.
ومعنى {هاجروا في الله} أي: في طلب رضاه وثوابه {من بعد ما ظُلموا} بما نال المشركون منهم، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ في الدنيا حسنة} وفيها خمسة أقوال: أحدها: لننزِلنَّهم المدينة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والشعبي، وقتادة، فيكون المعنى: لَنُبَوِّئنَّهم دارًا حسنة وبلدة حسنة.
والثاني: لنرزقنَّهم في الدنيا الرزق الحسن، قاله مجاهد.
والثالث: النصر على العدوِّ، قاله الضحاك.
والرابع: أنه ما بقي بعدهم من الثناء الحسن، وصار لأولادهم من الشرف، ذكره الماوردي، وقد روي معناه عن مجاهد، فروى عنه ابن أبي نجيح أنه قال: {لنبوِّئنهم في الدنيا حسنة} قال: لسان صادق.
والخامس: أن المعنى: لنحسِنَنَّ إِليهم في الدنيا، قال بعض أهل المعاني: فتكون على هذه الأقوال {لنبوّئنهم}، على سبيل الاستعارة، إِلا على القول الأول.
قوله تعالى: {ولأجر الآخرة أكبر} قال ابن عباس: يعني: الجنة، {لو كانوا يعلمون} يعني: أهل مكة.
ونقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان إِذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه، قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ذخر لك في الآخرة أفضل، ثم يتلو هذه الآية.
ثم إِن الله أثنى عليهم ومدحهم بالصبر فقال: {الذين صبروا} أي: على دينهم، لم يتركوه لأِذَى نالهم، وهم في ذلك واثقون بربهم.
قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إِلا رجالًا} قال المفسرون: لما أنكر مشركو قريش نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، فهلاَّ بعث إِلينا ملَكًا! فنزلت هذه الآية، والمعنى: أن الرسل كانوا مثلك آدميِّين، إِلا أنهم يُوحَى إِليهم، وقرأ حفص عن عاصم: {نوحِي} بالنون وكسر الحاء.
{فاسألوا} يامعشر المشركين {أهل الذكر} وفيهم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم أهل التوراة والإِنجيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أهل التوراة، قاله مجاهد.
والثالث: أهل القرآن، قاله ابن زيد.
والرابع: العلماء بأخبار من سلف، ذكره الماوردي.
وفي قوله تعالى: {إِن كنتم لا تعلمون} قولان.
أحدهما: لا تعلمون أن الله تعالى بعث رسولًا من البشر.
والثاني: لا تعلمون أن محمدًا رسول الله، فعلى القول الأول، جائز أن يسأل مَن آمن برسول الله ومَن كفر، لأن أهل الكتاب والعلم بالسِّيَر متفقون على أن الأنبياء كلَّهم، من البشر، وعلى الثاني إِنما يسأل مَنْ آمَنَ مِنْ أهل الكتاب، وقد روي عن مجاهد {فاسألوا أهل الذكر} قال: عبد الله بن سلام، وعن قتادة، قال: سليمان الفارسي.
قوله تعالى: {بالبينات والزُّبُر} في هذه {الباء} قولان:
أحدهما: أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، تقديره: وما أرسلنا من قبلك إِلاّ رجالًا أرسلناهم بالبينات.
والزُّبُر: الكتب.
وقد شرحنا هذا في [آل عمران: 184].
قوله تعالى: {وأنزلنا إِليك الذكر} وهو القرآن بإجماع المفسرين {لِتُبَيِّنَ للناس ما نزِّل إِليهم} فيه من حلال وحرام، ووعد ووعيد {ولعلهم يتفكرون} في ذلك فيعتبرون.
قوله تعالى: {أفأمن الذين مكروا السيئات} قال المفسرون: أراد مشركي مكة.
ومكرهم السيئات: شركهم وتكذيبهم، وسمي ذلك مكرًا، لأن المكر في اللغة: السعي بالفساد، وهذا استفهام إِنكار، ومعناه: ينبغي أن لا يأمَنوا العقوبة، وكان مجاهد يقول: عنى بهذا الكلام نمرود بن كنعان.
قوله تعالى: {أو يأخذَهم في تقلُّبهم} فيه أربعة أقوال:
أحدها: في أسفارهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة.
والثاني: في منامهم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: في ليلهم ونهارهم، قاله الضحاك، وابن جريج، ومقاتل.
والرابع: أنه جميع ما يتقلَّبون فيه، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {أو يأخذَهم على تخوّف} فيه قولان:
أحدهما: على تنقُّص، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك.
قال ابن قتيبة: التُّخَوُّف: التقُّص، ومثله التخوُّن.
يقال: تخوفته الدهور وتخونته: إِذا نقصته وأخذت من ماله وجسمه.
وقال الهيثم بن عدي: التخوُّف: التنقُّص، بلغة أزد شنوءة.
ثم في هذا التنقُّص ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه تنقّصٌ من أعمالهم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أخذُ واحد بعد واحد، روي عن ابن عباس أيضًا.
والثالث: تنقُّصُ أموالهم وثمارهم حتى يهلكهم، قاله الزجاج.
والثاني: أنه التخوف نفسه، ثم فيه قولان: أحدهما: يأخذهم على خوف أن يعاقب أو يتجاوز، قاله قتادة.
والثاني: أنه يأخذ قرية لتخاف القرية الأخرى، قاله الضحاك.
وقال الزجاج: يأخذهم بعد أن يخيفهم بأن يهلك قرية فتخاف التي تليها، فعلى هذا، خوَّفهم قبل هلاكهم، فلم يتوبوا، فاستحقوا العذاب.
قوله تعالى: {فإن ربكم لرؤوف رحيم} إِذ لم يعجِّل بالعقوبة، وأمهل للتوبة.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يروا} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {أولم يروا} بالياء، وقرأ حمزة، والكسائي: {تروا} بالتاء، واختلف عن عاصم.
قوله تعالى: {إِلى ما خلق الله من شيء} أراد من شيء له ظل، من جبل، أو شجر، أو جسم قائم {يتفيَّأُ} قرأ الجماعة بالياء، وقرأ أبو عمرو، ويعقوب بالتاء {ظلالُه} وهو جمع ظل، وإِنما جمع وهو مضاف إِلى واحد، لأنه واحدٌ يُراد به الكثرة، كقوله تعالى: {لتستووا على ظهوره} [الزخرف: 13]. قال ابن قتيبة: ومعنى {يتفيَّأُ ظلاله} يدور ويرجع من جانب، إِلى جانب، والفيء: الرجوع، ومنه قيل للظل بالعشيِّ: فيىءٌ، لأنه فاء عن المغرب إِلى المشرق.