فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أجيب: بأشياء الأوّل: أنه وحّد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر على الواحد كقوله تعالى: {ويولون الدبر} [القمر].
الثاني: قال الفرّاء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها وذلك لأنّ قوله: {إلى ما خلق الله من شيء} لفظه واحد ومعناه الجمع على ما مرّ فيحتمل كلا الأمرين. الثالث: أنّ العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} [الأنعام] وقوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} [البقرة].
تنبيه: الهمزة للاستفهام وهو استفهام إنكار، أي: قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيه ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه وما موصولة مبهمة بمعنى الذي ومن شيء بيان لها. فإن قيل: كيف بين الموصول وهو مبهم بشيء وهو مبهم بل أبهم مما قبله؟
أجيب: بأن شيئًا قد اتضح وظهر بوصفه بالجملة بعده وهو تتفيؤ ظلاله وقيل: الجملة بيان لما، وقوله تعالى: {سجدًا لله} حال من الظلال جمع ساجد كشاهد وشهد، وراكع وركع، واختلف في المراد من السجود على قولين أحدهما: أنّ المراد منه الاستسلام والانقياد يقال: سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال: اسجد للقرد في زمانه، أي: اخضع له وقال الشاعر:
ترى الأكم فيها سجدًا للحوافر

أي متواضعة، والثاني: أنّ هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد فلما كانت الظلال يشبه شكلها شكل الساجدين أطلق الله تعالى عليها هذا اللفظ وكان الحسن يقول: أما ظلك فيسجد لربك وأمّا أنت فلا تسجد لربك بئسما صنعت، وعن مجاهد ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي، وقيل: ظل كل شيء يسجد لله سواء أكان ذلك الشيء ساجدًا أم لا. قال الرازي: والأوّل أقرب إلى الحقائق العقلية والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة، وقوله تعالى: {وهم داخرون} أي: صاغرون حال أيضًا من الظلال فينتصب عنه حالان وقيل: حال من الضمير المستتر في سجدًا فهي حال متداخلة. فإن قيل: الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون؟
أجيب: أنه تعالى لما وصفها بالطاعة والدخور أشبهت العقلاء أو أن في جملة ذلك من يعقل فغلب، ولما حكم على الظلال بما يعم أصحابها من جماد وحيوان وكان الحيوان أشرف من الجماد رقي الحكم إليه بخصوصه، فقال: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض} وقوله تعالى: {من دابة} يجوز أن يكون بيانًا لما في السموات وما في الأرض جميعًا على أنّ في السموات خلقًا لله يدبون فيها كما تدب الأناسيّ في الأرض، وأن يكون بيانًا لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح، وأن يكون بيانًا لما في الأرض ويراد بما في السموات الملائكة وكرّر ذكرهم بقوله تعالى: {والملائكة} خصوصًا من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهنّ وبقوله تعالى: {والملائكة} ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم. فإن قيل: سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟
أجيب: بأنّ المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم وبسجود غيرهم انقياده لإرادة الله تعالى وأنه غير ممتنع عليه وكلا السجودين يجمعهما معنى الانقياد فلم يختلفا فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قيل: هلا جيء بمن دون ما تغليبًا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟
أجيب: بأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولًا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة للعموم. {وهم} أي: الملائكة {لا يستكبرون} عن عبادته ثم علل تخصيصهم بقوله تعالى دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء.
{يخافون ربهم} أي: الموجد لهم المدبر لأمورهم المحسن إليهم خوفًا مبتدأ {من فوقهم} إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو أن يرسل عليهم عذابًا من فوقهم أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} [الأنعام] وقوله تعالى: {وإنا فوقهم قاهرون} [الأعراف] والجملة حال من الضمير في لا يستكبرون، أو بيان له أو تقرير لأنّ من خاف الله لا يستكبر عن عبادته. {ويفعلون ما يؤمرون} أي: من الطاعة والتدبير وفي ذلك دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين وأنهم بين الخوف والرجاء، كما مرّت الإشارة إليه وأنهم معصومون من الذنوب لأنّ قوله تعالى: {وهم لا يستكبرون} يدل على أنهم منقادون لخالقهم وأنهم ما خالفوا في أمر من الأمور كما قال تعالى: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء]. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}.
ولما أخبر عن الأشقياء بأنهم قالوا في جواب: {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ} هو: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} فجحدوا رحمته وكفروا نعمته؛ تأثره بالإخبار عن السعداء الذين اعترفوا بخيره ورحمته، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [30].
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ} وهم المؤمنون: {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} أي: أنزل خيرًا، أي: رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به. ثم أخبر سبحانه عما وعد به عباده بقوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} أي: لمن أحسن عمله، مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها. فقوله: {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا} متعلق بـ: {حَسَنَةٌ} كتعلقه بـ: {أَحْسَنُواْ}. قال الشهاب: والحسنة التي في الدنيا: الظفر وحسن السيرة وغير ذلك، وهذه الآية كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، وقوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَة} [آل عِمْرَان: 148]، وقال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عِمْرَان: 198]، وقال: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17]. ثم وصف تعالى الدار الآخرة بقوله: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}.
القول في تأويل قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [31- 32].
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤونَ} كقوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، {كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ}.
ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار، في مقابلة أولئك، بقوله سبحانه: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ} أي: طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وكل سوء: {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: لتدخل أرواحكم الجنة، فإنها في نعيم برزخي إلى البعث. أو المراد بشارتهم بأنهم يدخلونها كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 3]. الآيات.
ثم أشار إلى تقريع المشركين، وتهديدهم على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} [33- 34].
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} أي: لقبض أرواحهم بالعذاب: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي: العذاب المستأصل. أو يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال: {كَذَلِكَ} أي: مثل فعل هؤلاء من الشرك والاستهزاء: {فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: فتمادوا في ضلالهم حتى ذاقوا بأس الله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ} فيما أحل بهم في عذابه الآتي بيانه، وذلك لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم: بإرسال رسله وإنزال كتبه: {وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} جزاء سيئات أعمالهم من الشرك وإنكار الوحدانية وتكذيب الرسل ونحوها: {وَحَاقَ بِهِم} أي: أحاط بهم: {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} من العذاب الذي توعدتهم به الرسل، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [35- 36].
{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه واعتذارهم عنه بالاحتجاج بالقدر؛ تكذيبًا للرسول صلوات الله عليه، وطعنًا في الرسالة، وذلك قولهم: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} أي: من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم، مما لم يُنزل الله به سلطانًا. ثم أعلم تعالى مشاكلتهم لمن تقدمهم، بقوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: من الشرك والتحريم، متمسكين بمثل هذه الشبهة.
قال ابن كثير: مضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهًا لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مكننا منه. قال الله تعالى رادًا عليهم شبههم: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم. بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة، أي: في كل قرن وطائفة من الناس، رسولًا، وكلهم يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه: {أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} وهو ما يعبد من دونه سبحانه. فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم، من عهد نوح أول رسول إلى أهل الأرض، إلى زمن خاتم النبيين صلوات الله عليه وعليهم، ودعوة الكل واحدة كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وكما أخبر هنا في هذه الآية. فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية، وهي تمكينهم من ذلك قدرًا، فلا حجة لهم فيها. أي: لأنها من سر القدر الذي حُظر الخوض فيه. ثم إنه تعالى أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا، بعد إنذار الرسل، بقوله: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ} الآية، وقد تقدم لنا في سورة الأنعام نقل ما للأئمة في مثل هذه الآية، ونسوق هنا أيضًا ما قرأته للإمام ابن تيمية، عليه الرحمة، في أول الجزء الثاني من منهاج السنة مما يتعلق بالآية، وإن يكن سبق لنا نقل عنه أيضًا، فإن الآية من معارك الأفهام، فلا علينا أن نجلو عن الشبه فيها صدأ الأوهام. قال عليه الرحمة: هذا مقام يكثر خوض النفوس فيه. فإن كثيرًا من الناس، إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدر وقال: حتى يقدر الله ذلك أو يقدرني الله على ذلك، أو حتى يقضي الله ذلك، وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال: الله قضاه علي بذلك، ونحو هذا الكلام، والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة، باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين، والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة، إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه وترك ما يجب عليه من حقوقه. بل يطلب منه ما له عليه، ويعاقبه على عدوانه عليه، وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم. فكأنك تعلم فسادها بالضرورة، وإن كانت تعرض كثيرًا للكثير من الناس، حتى قد يشك في وجود نفسه، وغير ذلك من المعارض الضرورية. فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب، وغير ذلك، وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك، ولكن تعلم القلوب بالضرورة أن هذه شبهة باطلة، ولهذا لا يقبله أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله، فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة، وهو المأمور، وهو الذي ينبغي فعله ولم يحتج بالقدر، وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله، أو ليس بمصلحة، أو ليس هو مأمورًا به؛ لم يحتج بالقدر. بل إذا كان متبعًا لهواه بغير علم، احتج بالقدر، ولهذا لما قال المشركون: {لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148]، قال الله تعالى: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: من الآية 148]: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة وباطلة. فإن أحدهم لو ظلم الآخر أو حرج في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصرًا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال: لو شاء الله لم أفعل هذا؛ لم يقبلوا منه هذه الحجة، ولا هو يقبلها من غيره، وإنما يحتج بها المحتج دفعًا للوم بلا وجه. فقال الله تعالى: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله، وأنه مصلحة ينبغي فعله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} فإنه لا علم عندكم بذلك، إن تظنون ذلك إلا ظنًا: {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} وتفترون. فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم، ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره. فإن مجرد المشيئة والقدر لا تكون عمدة لأحد في الفعل، ولا حجة لأحد على أحد ولا عذرًا لأحد؛ إذ الناس كلهم مشتركون في القدر. فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبر والفاجر، ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم، وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده، والإيمان به؛ لو احتج به بعضهم على بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره، لم يقبله منه. بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضًا ويعادي بعضهم بعضًا ويقاتل بعضهم بعضًا على فعل من يريد تركًا لحقهم، أو ظلمًا. فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة أمره، واحتجوا بالقدر؛ فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حقِّ ربهم ومخالفة أمره، بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم، وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معاذ بن جبل! أتدري ما حق الله على عباده؟! حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ حقهم عليه أن لا يعذبهم».
فالاحتجاج بالقدر حال الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقًا لهم ولا في مخالفة أمرهم، ولهذا تجد المحتجين والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم؛ يفرون إليه عند إتباع الظن وما تهوى الأنفس. فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلًا. بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم، وهذا أصل شريف، من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس، ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي، كثيرًا ما يوصون أتباعهم بالعلم بالشرع. فإنه كثيرًا ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها. فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنه دين الله تعالى، وليس معهم إلى الظن والذوق والوجدان الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها. فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص، وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة. فإذا اتبعوا العلم، وهو ما جاء به الشارع صلى الله عليه وسلم خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس، واتبعوا ما جاءهم من ربهم وهو الهدى، كما قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123]، وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى عن المشركين في سورة الأنعام والنحل والزخرف كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]، فتبين أنه لا علم لهم بذلك، إن هم إلا يخرصون، وقال في سورة الأنعام: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]: إرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].