فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)}.
قد تقدّم تحقيق معنى الهجرة في سورة النساء، وهي ترك الأهل والأوطان، ومعنى {هاجروا في الله} في شأن الله سبحانه وفي رضاه.
وقيل: {فِى الله} في دين الله.
وقيل: في بمعنى اللام أي: لله {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي: عذبوا وأهينوا، فإن أهل مكة عذبوا جماعة من المسلمين حتى قالوا ما أرادوا منهم، فلما تركوهم هاجروا.
وقد اختلف في سبب نزول الآية، فقيل: نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار.
واعترض بأن السورة مكية، وذلك يخالف قوله: {والذين هاجروا}.
وأجيب بأنه يمكن أن تكون هذه الآية من جملة الآيات المدنية في هذه السورة كما قدّمنا في عنوانها، وقيل: نزلت في أبي جندل بن سهيل، وقيل: نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة.
{لَنُبَوّئَنَّهُمْ في الدنيا حَسَنَة} اختلف في معنى هذا على أقوال.
فقيل: المراد: نزولهم المدينة، قاله ابن عباس، والحسن، والشعبي، وقتادة.
وقيل: المراد: الرزق الحسن، قاله مجاهد.
وقيل: النصر على عدّوهم قاله الضحاك.
وقيل: ما استولوا عليه من فتوح البلاد، وصار لهم فيها من الولايات.
وقيل: ما بقي لهم فيها من الثناء، وصار لأولادهم من الشرف.
ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور.
ومعنى {لَنُبَوّئَنَّهُمْ في الدنيا حَسَنَة} لنبوئنهم مباءة حسنة، أو تبوئة حسنة، فحسنة صفة مصدر محذوف {وَلأَجْرُ الآخرة} أي: جزاء أعمالهم في الآخرة {أَكْبَرَ} من أن يعلمه أحد من خلق الله قبل أن يشاهده، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20].
{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي: لو كان هؤلاء الظلمة يعلمون ذلك.
وقيل: إن الضمير في {يعلمون} راجع إلى المؤمنين، أي: لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا.
{الذين صَبَرُواْ} الموصول في محل نصب على المدح، أو الرفع على تقدير مبتدأ، أو هو بدل من الموصول الأوّل، أو من الضمير في {لنبؤئنهم}، {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي: على ربهم خاصة يتوكلون في جميع أمورهم معرضين عما سواه، والجملة معطوفة على الصلة أو في محل نصب على الحال.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِمْ}.
قرأ حفص عن عاصم: {نوحي} بالنون، وقرأ الباقون: {يوحي} بالياء التحتية، وهذه الآية ردّ على قريش حيث زعموا أن الله سبحانه أجلّ من أن يرسل رسولًا من البشر، فردّ الله عليهم بأن هذه عادته وسنّته أن لا يرسل إلاّ رجالًا من البشر يوحي إليهم.
وزعم أبو عليّ الجبائي أن معنى الآية أن الله سبحانه لم يرسل إلى الأنبياء بوحيه إلاّ من هو على صورة الرجال من الملائكة.
ويردّ عليه بأن جبريل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صور مختلفة.
ولما كان كفار مكة مقرّين بأن اليهود والنصارى هم أهل لعلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل، صرف الخطاب إليهم، وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب، فقال: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} أي: فاسألوا أيها المشركون مؤمن أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون، فإنهم سيخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشرًا، أو اسألوا أهل الكتاب من غير تقييد بمؤمنيهم كما يفيده الظاهر، فإنهم كانوا يعترفون بذلك ولا يكتمونه.
وقيل: المعنى: فاسألوا أهل القرآن.
و{بالبينات والزبر} يتعلق ب {أرسلنا}، فيكون داخلًا في حكم الاستثناء مع {رجالًا}، وأنكر الفراء ذلك، وقال: إن صفة ما قبل {إلاّ} لا تتأخر إلا ما بعدها، لأن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل: {إلاّ} مع صلته، كما لو قيل ما أرسلنا إلاّ رجالًا بالبينات، فلما لم يصر هذا المجموع مذكورًا بتمامه، امتنع إدخال الاستثناء عليه.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلاّ رجالًا.
وقيل: يتعلق بمحذوف دلّ عليه المذكور، أي: أرسلناهم بالبينات والزبر، ويكون جوابًا عن سؤال مقدّر كأنه قيل: لماذا أرسلهم؟ فقال: أرسلناهم بالبينات والزبر.
وقيل: متعلق ب {تعلمون} على أنه مفعوله.
والباء زائدة، أي: إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر؛ وقيل: متعلق ب {رجالًا} أي: رجالًا متلبسين بالبينات والزبر.
وقيل: ب {نوحى} أي: نوحي إليهم بالبينات والزبر.
وقيل: منصوب بتقدير أعني، والباء زائدة، وأهل الذكر هم أهل الكتاب كما تقدّم.
وقال الزجاج: اسألوا كل من يذكر بعلم، والبينات: الحجج والبراهين، والزبر: الكتب.
وقد تقدّم الكلام على هذا في آل عمران {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} أي القرآن. ثم بين الغاية المطلوبة من الإنزال، فقال: {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ} جميعًا {مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} في هذا الذكر من الأحكام الشرعية، والوعد والوعيد {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي: إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا.
{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} يحتمل أن تكون {السيئات} صفة مصدر محذوف أي: مكروا المكرات السيئات، وأن تكون مفعولة للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل، أي: عملوا السيئات، أو صفة لمفعول مقدّر، أي: أفأمن الماكرون العقوبات السيئات.
أو على حذف حرف الجرّ، أي: مكروا بالسيئات {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} هو مفعول أمن، أو بدل من مفعوله على القول بأن مفعوله محذوف، وأن السيئات صفة للمحذوف، والاستفهام للتقريع والتوبيخ.
ومكر السيئات وسعيهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على وجه الخفية، واحتيالهم في إبطال الإسلام، وكيد أهله {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ} كما خسف بقارون.
يقال: خسف المكان يخسف خسوفًا، ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسوفًا أي: غاب به فيها، ومنه قوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81]، وخسف هو في الأرض، وخسف به {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} به في حال غفلتهم عنه كما فعل بقوم لوط وغيرهم.
وقيل: يريد يوم بدر، فإنهم أهلكوا ذلك اليوم، ولم يكن في حسبانهم.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ في تَقَلُّبِهِمْ}.
ذكر المفسرون فيه وجوهًا، فقيل: المراد: في أسفارهم ومتاجرهم، فإنه سبحانه قادر على أن يهلكهم في السفر كما يهلكهم في الحضر، وهم لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض، وبعدهم عن الأوطان.
وقيل: المراد: في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجود الحيل.
فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم.
وقيل: في حال تقلبهم في الليل على فرشهم.
وقيل: في حال إقبالهم وإدبارهم، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار.
والقلب بالمعنى الأوّل مأخوذ من قوله: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ في البلاد} [آل عمران: 196].
وبالمعنى الثاني مأخوذ من قوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} [التوبة: 48].
{فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين ولا ممتنعين.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} أي: حال تخوّف وتوقع للبلايا بأن يكونوا متوقعين للعذاب، حذرين منه غير غافلين عنه، فهو خلاف ما تقدم من قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}، وقيل: معنى {على تَخَوُّفٍ} على تنقص.
قال ابن الأعرابي: أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم.
قال الواحدي: قال عامة المفسرين: {على تخوّف} قال: تنقص، إما بقتل أو بموت، يعني: بنقص من أطرافهم ونواحيهم يأخذهم الأول فالأوّل حتى يأتي الأخذ على جميعهم.
قال: والتخوّف: التنقص، يقال: هو يتخوف المال، أي: يتنقصه، ويأخذ من أطرافه، انتهى.
يقال: تخوّفه الدهر وتخونه بالفاء والنون: تنقصه، قال ذو الرّمة:
لا بل هو الشوق من دار تخوّفها ** مرا سحاب ومرا بارح ترب

وقال لبيد:
تخوّفها نزولي وارتحالي

أي: تنقص لحمها وشحمها.
قال الهيثم بن عديّ: التخوّف بالفاء: التنقص، لغة لأزد شنودة وأنشد:
تخوف عدوهم مالي وأهدي ** سلاسل في الحلوق لها صليل

وقيل: {على تخوّف} على عجل، قاله الليث بن سعد، وقيل: على تقريع بما قدّموه من ذنوبهم، روي ذلك عن ابن عباس، وقيل: {على تخوّف} أن يعاقب ويتجاوز، قاله قتادة: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} لا يعاجل، بل يمهل رأفة بكم ورحمة لكم مع استحقاقهم للعقوبة.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء} لما خوّف سبحانه الماكرين بما خوّف، أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي ومكانهما، والاستفهام في {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} للإنكار، و{ما} مبهمة مفسرة بقوله: {من شيء}، قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويحيى بن وثاب، والاعمش: {تروا} بالمثناة الفوقية، على أنه خطاب لجميع الناس، وقرأ الباقون بالتحتية بإرجاع الضمير إلى {الذين مكروا السيئات}، وقرأ أبو عمرو ويعقوب {تتفيؤا ظلاله} بالمثناة الفوقية.
وقرأ الباقون بالتحتية، واختارها أبو عبيد، أي يميل من جانب إلى جانب، ويكون أوّل النهار على حال ويتقلص، ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى.
قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلاّ بالعشيّ، وما انصرف عنه الشمس والقمر، والذي يكون بالغداة هو الظلّ.
وقال ثعلب: أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظلّ.
ومعنى {مِن شَىْء} من شيء له ظلّ، وهي الأجسام، فهو عام أريد به الخاص.
و{ظلاله} جمع ظلّ، وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة.
{عَنِ اليمين والشمآئل} أي: عن جهة أيمانها وشمائلها، أي: عن جانبي كل واحد منها.
قال الفراء: وحد اليمين؛ لأنه أراد واحدًا من ذوات الأظلال، وجمع الشمائل؛ لأنه أراد كلها، لأن ما خلق الله لفظه مفرد ومعناه جمع.
وقال الواحدي: وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازًا في اللفظ كقوله: {وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45]، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع.
وقيل: إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع، عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1]، و{خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]، وقيل: المراد باليمين: النقطة التي هي مشرق الشمس، وأنها واحدة.
والشمائل: عبارة عن الانحراف في فلك الإظلال بعد وقوعها على الأرض، وهي كثيرة.
وإنما عبر عن المشرق باليمين؛ لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة القوية.
{سُجَّدًا لِلَّهِ} منتصب على الحال، أي: حال كون الظلال سجدًا لله.
قال الزجاج: يعني: أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة، وقال أيضًا: سجود الجسم: انقياده وما يرى من أثر الصنعة {وَهُمْ داخرون} في محل نصب على الحال، أي: خاضعون صاغرون، والدخور: الصغار والذلّ، يقال: دخر الرجل، فهو داخر، وأدخره الله.
قال الشاعر:
فلم يبق إلا داخر في مخيس ** ومنجحر في غير أرضك في حجر

ومخيس: اسم سجن كان بالعراق {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض مَن دَابَّةٍ} أي: له وحده يخضع وينقاد، لا لغيره ما في السموات جميعًا، {وما في الأرض من دابة} تدبّ على الأرض.
والمراد به كل دابة.
قال الأخفش: هو كقولك ما أتاني من رجل مثله، وما أتاني من الرجال مثله.
وقد دخل في عموم ما في السموات وما في الأرض جميع الأشياء الموجودة فيهما، وإنما خصّ الدابة بالذكر، لأنه قد علم من قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء} انقياد الجمادات، وعطف الملائكة على ما قبلهم، تشريفًا لهم، وتعظيمًا لدخولهم في المعطوف عليه {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي: والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم، والمراد: الملائكة.
ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة.
وفي هذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله.
ويجوز أن تكون حالًا من فاعل {يسجد}، و{ما} عطف عليه، أي: يسجد لله ما في السموات وما في الأرض، والملائكة، وهم جميعًا لا يستكبرون عن السجود.