فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال بعده: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} الدين هاهنا الطاعة، والواصب الدائم.
يقال: وصب الشيء يصب وصوبًا إذا دام، قال تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9]، ويقال: واظب على الشيء وواصب عليه إذا داوم، ومفازة واصبة أي بعيدة لا غاية لها.
ويقال للعليل واصب، ليكون ذلك المرض لازمًا له.
قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع، إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه، فإن طاعته واجبة أبدًا.
واعلم أن قوله: {واصبًا} حال، والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل.
وأقول: الدين قد يعني به الانقياد.
يقال: يا من دانت له الرقاب أي انقادت.
فقوله: {وله الدين واصبًا} أي انقياد كل ما سواه له لازم أبدًا، لأن انقياد غيره له معلل بأن غيره ممكن لذاته، والممكن لذاته يلزمه أن يكون محتاجًا إلى السبب في طرفي الوجود والعدم والماهيات يلزمها الإمكان لزومًا ذاتيًا، والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزومًا ذاتيًا، ينتج أن الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثر لزومًا ذاتيًا فهذه الماهيات موصوفة بالانقياد لله تعالى أتصافًا دائمًا واجبًا لازمًا ممتنع التغير.
وأقول: في الآية دقيقة أخرى، وهي أن العقلاء اتفقوا على أن الممكن حال حدوثه محتاج إلى السبب المرجح، واختلفوا في الممكن حال بقائه هل هو محتاج إلى السبب؟ قال المحققون: إنه محتاج لأن علة الحاجة هي الإمكان والإمكان من لوازم الماهية فيكون حاصلًا للماهية حال حدوثها وحال بقائها فتكون علة الحاجة حال حدوث الممكن وحال بقائه، فوجب أن تكون الحاجة حاصلة حال حدوثها وحال بقائها.
إذا عرفت هذا فقوله: {وله ما في السموات والأرض} معناه: أن كل ما سوى الحق فإنه محتاج في انقلابه من العدم إلى الوجود أو من الوجود إلى العدم إلى مرجح ومخصص، وقوله: {وله الدين واصبًا} معناه أن هذا الانقياد وهذا الاحتياج حاصل دائمًا أبدًا، وهو إشارة إلى ما ذكرناه من أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح والمخصص، وهذه دقائق من أسرار العلوم الإلهية مودعة في هذه الألفاظ الفائضة من عالم الوحي والنبوة.
ثم قال تعالى: {أفغير الله تتقون} والمعنى: أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه، ومحتاج إليه أيضًا في وقت دوامه وبقائه، فبعد العلم بهذه الأصول كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة عن غير الله تعالى؟ فلهذا المعنى قال على سبيل التعجب: {أفغير الله تتقون}.
ثم قال: {وما بكم من نعمة فمن الله} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أنه لما بين بالآية الأولى أن الواجب على العاقل أن لا يتقي غير الله، بين في هذه الآية أنه يجب عليه أن لا يشكر أحدًا إلا الله تعالى، لأن الشكر إنما يلزم على النعمة، وكل نعمة حصلت للإنسان فهي من الله تعالى لقوله: {وما بكم من نعمة فمن الله} فثبت بهذا أن العاقل يجب عليه أن لا يخاف وأن لا يتقي أحدًا إلا الله وأن لا يشكر أحدًا إلا الله تعالى.
المسألة الثانية:
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى فقالوا الإيمان نعمة، وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله: {وما بكم من نعمة فمن الله} ينتج أن الإيمان من الله وإنما قلنا: إن الإيمان نعمة، لأن المسلمين مطبقون على قولهم: الحمد لله على نعمة الإيمان، وأيضًا فالنعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعًا به، وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان، فثبت أنا لإيمان نعمة.
وإذا ثبت هذا فنقول: وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله تعالى: {وما بكم من نعمة فمن الله} وهذه اللفظة تفيد العموم، وأيضًا مما يدل علىأن كل نعمة فهي من الله، لأن كل ما كان موجودًا فهو إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، والواجب لذاته ليس إلا الله تعالى، والممكن لذاته لا يوجد إلا لمرجح، وذلك المرجح إن كان واجبًا لذاته كان حصول ذلك الممكن بإيجاد الله تعالى وإن كان ممكنًا لذاته عاد التقسيم الأول فيه، ولا يذهب إلى التسلسل، بل ينتهي إلى إيجاد الواجب لذته، فثبت بهذا البيان أن كل نعمة فهي من الله تعالى.
المسألة الثالثة:
النعم إما دينية وإما دنيوية، أما النعم الدينية فهي إما معرفة الحق لذاته وإما معرفة الخير لأجل العمل به، وأما النعم الدنيوية فهي إما نفسانية، وإما بدنية وإما خارجية وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد كما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34]، والإشارة إلى تفصيل تلك الأنواع قد ذكرناها مرارًا فلا نعيدها.
المسألة الرابعة:
إنما دخلت الفاء في قوله: {فمن الله} لأن الباء في قوله: {بكم} متصلة بفعل مضمر، والمعنى: ما يكن بكم أو ما حل بكم من نعمة فمن الله.
ثم قال تعالى: {ثم إِذا مسكم الضر} قال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة: {فإليه تجأرون} أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة، وتتضرعون إليه بالدعاء يقال: جأر يجأر جؤارًا وهو الصوت الشديد كصوت البقرة، وقال الأعشى يصف راهبًا:
يراوح من صلوات المليك ** طورًا سجودًا وطورًا جؤارا

والمعنى: أنه تعالى بين أن جميع النعم من الله تعالى، ثم إذا اتفق لأحد مضرة توجب زوال شيء من تلك النعم فإلى الله يجأر، أي لا يستغيث أحدًا إلا الله تعالى لعلمه بأنه لا مفزع للخلق إلا هو، فكأنه تعالى قال لهم فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاء والسلامة، ثم قال بعده: {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} فبين تعالى أن عند كشف الضر وسلامة الأحوال يفترقون ففريق منهم يبقى على مثل ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى الله تعالى، وفريق منهم عند ذلك يتغيرون فيشركون بالله غيره، وهذا جهل وضلال، لأنه لما شهدت فطرته الأصلية وخلقته الغريزية عند نزول البلاء والضراء والآفات والمخافات أن لا مفزع إلا إلى الواحد، ولا مستغاث إلا الواحد فعند زوال البلاء والضراء وجب أن يبقى على ذلك الاعتقاد، فأما أنه عند نزول البلاء يقر بأنه لا مستغاث إلا الله تعالى، وعند زوال البلاء يثبت الأضداد والشركاء، فهذا جهل عظيم وضلال كامل.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65].
ثم قال تعالى: {لآليكفروا بما آتيناهم} وفي هذه اللام وجهان: الأول: أنها لام كي والمعنى أنهم أشركوا بالله غيره في كشف ذلك الضر عنهم.
وغرضهم من ذلك الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى، ألا نرى أن العليل إذا اشتد وجعه تضرع إلى الله تعالى في إزالة ذلك الوجع، فإذا زال أحال زواله على الدواء الفلاني والعلاج الفلاني، وهذا أكثر أحوال الخلق.
وقال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله: في اليوم الذي كنت أكتب هذه الأوراق وهو اليوم الأول من محرم سنة اثنتين وستمائة حصلت زلزلة شديدة، وهذه عظيمة وقت الصبح ورأيت الناس يصيحون بالدعاء والتضرع، فلما سكتت وطاب الهواء، وحسن أنواع الوقت نسوا في الحال تلك الزلزلة وعادوا إلى ما كانوا عليه من تلك السفاهة والجهالة، وكانت هذه الحالة التي شرحها الله تعالى في هذه الآية تجري مجرى الصفة اللازمة لجوهر نفس الإنسان.
والقول الثاني: أن هذه اللام لام العاقبة كقوله تعالى: {فاتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنًا} [القصص: 8]. يعني أن عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفر.
واعلم أن المراد بقوله: {بما آتيناهم} فيه قولان: الأول: أنه عبارة عن كشف الضر وإزالة المكروه.
والثاني: قال بعضهم: المراد به القرآن وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من النبوة والشرائع.
واعلم أنه تعالى توعدهم بعد ذلك فقال: {فتمتعوا} وهذا لفظ أمر، والمراد منه التهديد، كقوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]، وقوله: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} [الإسراء: 107].
ثم قال تعالى: {فسوف تعلمون} أي عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وله الدين واصبًا}.
في {الدين} ها هنا قولان:
أحدهما: أنه الإخلاص، قاله مجاهد.
الثاني: أنه الطاعة، قاله ابن بحر.
وفي قوله تعالى: {واصبًا} أربعة تأويلات:
أحدها: واجبًا، قاله ابن عباس.
الثاني: خالصًا، حكاه الفراء والكلبي.
الثالث: مُتعِبًا، والوصب: التعب والإعياء، قال الشاعر:
لا يشتكي الساق مِن أين ولا وصَبٍ ** ولا يزال أمام القوم يقتَفِرُ

الرابع: دائمًا، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك، ومنه قوله تعالى: {ولهم عذاب واصب} [الصافات: 9]. أي دائم، وقال الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ** يومًا بذم الدهر أجمع واصبا

قوله عز وجل: {ثم إذا مَسّكُم الضُّرُّ فإليه تجأرون}.
في {الضر} ها هنا ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنه القحط، قاله مقاتل.
الثاني: الفقر، قاله الكلبي.
الثالث: السقم، قاله ابن عباس.
{فإليه تجأرون} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: تضجون، قاله ابن قتيبة.
الثاني: تستغيثون.
الثالث: تضرعون بالدعاء، وهو في اللغة الصياح مأخوذ من جؤار الثور وهو صياحه. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {وقال الله} الآية آية نهي من الله تعالى عن الإشراك به ومعناها لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعدًا، بما ينصه من قوله: {إنما هو إله واحد}، قالت فرقة المفعول الأول ب {تتخذوا} قوله: {إلهين}، وقوله: {اثنين} تأكيد وبيان بالعدد، وهذا معروف في كلام العرب أن يبين المعدود وبذكر عدده تأكيدًا، ومنه قوله: {إله واحد} لأن لفظ {إله} يقتضي الانفراد، وقال قوم منهم: المفعول الثاني محذوف تقديره معبودًا أو مطاعًا ونحو هذا، وقالت فرقة: المفعول الأول {اثنين}، والثاني قوله: {إلهين}، وتقدير الكلام لا تتخذوا اثنين إلهين، ومثله قوله تعالى: {ألا تتخذوا من دوني وكيلًا ذرية من حملنا مع نوح} [الإسراء: 2-3]. ففي هذه الآية على بعض الأقوال تقديم المفعول الأول ل {تتخذوا}، وقوله: {فإياي} منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ولا يعمل فيه الفعل لأنه قد عمل في الضمير المتصل به، وقوله: {وله ما في السموات} الآية، الواو في قوله: {وله} عاطفة على قوله: {إله واحد}، وجائز أن يكون واو ابتداء، و{ما} عامة جميع الأشياء مما يعقل ومما لا يعقل، و{السماوات} هنا كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق، فيدخل فيه العرش والكرسي، و{الدين} الطاعة والملك كما قال زهير في دين عمرو: وحالت بيننا فدك. أي في طاعته وملكه والواصب القائم، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقال الشاعر أبي الأسود: الكامل:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ** يومًا بذم الدهر أجمع واصبا

ومنه قول حسان: المديد:
غيرته الريح تسفي به ** وهزيم رعده واصب

وقالت فرقة: هو من الوصب وهو التعب، أي وله الدين على تعبه ومشقته.
قال القاضي أبو محمد: ف واصب على هذا جار على النسب أي ذا وصب، كما قال: أضحى فؤادي به فاتنًا، وهذا كثير، وقال ابن عباس أيضًا: الواصب الواجب، وهذا نحو قوله: الواصب الدائم، وقوله: {أفغير}، توبيخ ولفظ استفهام ونصب {غير} ب {تتقون}، لأنه فعل لم يعمل في سوى {غير} المذكورة، والواو في قوله: {وما بكم} يجوز أن تكون واو ابتداء، ويجوز أن تكون واو الحال، ويكون الكلام متصلًا بقول {أفغير الله تتقون}، كأنه يقال على جهة التوبيخ: أتتقون غير الله وما منعم عليكم سواه، والباء في قوله: {بكم} متعلقة بفعل تقديره وما نزل أو ألم ونحو هذا، و{ما} بمعنى الذي، والفاء في قوله: {فمن الله} دخلت بسبب الإبهام الذي في {ما} التي هي بمعنى الذي، فأشبه الكلام الشرط، ومعنى الآية التذكير بأن الإنسان في جليل أمره ودقيقه إنما هو في نعمة الله وأفضاله، إيجاده داخل في ذلك فما بعده، ثم ذكر تعالى بأوقات المرض لكون الإنسان الجاهل يحس فيها قدر الحاجة إلى لطف الله تعالى، و{الضر} وإن كان يعم كل مكروه فأكثر ما يجيء عبارة عن أرزاء البدن، و{تجأرون} معناه ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع، وأصله في جؤار الثور والبقرة وصياحها، وهو عند جهد يلحقها أو في أثر دم يكون من بقر تذبح، فذلك الصراخ يشبه به انتحاب الداعي المستغيث بالله إذ رفع صوته، ومنه قول الأعشى: المتقارب:
يراوح من صلوات الملي ** ك طورًا سجودًا وطورًا جؤارا

وأنشده أبو عبيدة:
بأبيل كلما صلى جأر

والأصوات تأتي غالبًا على فعال أو فعيل: وقرأ الزهري {يجَرَون} بفتح الجيم دون همز حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الجيم، كما خففت {تسلون} من {تسألون}، وقوله: {ثم إذا كشف الضر} قرأ الجمهور: {كشف}، وقرأ قتادة {كاشف}، ووجهها أنها فاعل من واحد بمعنى كشف وهي ضعيفة، و{فريق} هنا يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالًا من شفاء المرض وجلب الخير ودفع الضر، فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاء إليها، وقوله: {ليكفروا} يجوز أن يكون اللام لام الصيرورة أي فصار أمرهم ليكفروا، وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، ويجوز أن تكون لام أمر على معنى التهديد والوعيد، كقوله: {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40]، والكفر هنا يحتمل أن يكون كفر الجحد بالله والشرك، ويؤيده قوله: {بربهم يشركون}، ويحتمل أن يكون كفر النعمة وهو الأظهر، لقوله: {بما آتيناهم} أي بما أنعمنا عليهم، وقرأ الجمهور: {فتمتعوا فسوف تعلمون} على معنى قل لهم يا محمد، وروى أبو رافع عن النبي عليه السلام {فيُمتعوا} بياء من تحت مضمومة {فسوف يعلمون} على معنى ذكر الغائب وكذلك في الروم، وهي قراءة أبي العالية، وقرأ الحسن {فتمتعوا} على الأمر {فسوف يعلمون} بالياء على ذكر الغائب، وعلى ما روى أبو رافع يكون {يمتعوا} في موضع نصب عطفًا على {يكفروا} إن كانت اللام لام كي، أو نصبًا بالفاء في جواب الأمر إن كانت اللام لام أمر، ومعنى التمتع في هذه الآية بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال. اهـ.