فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والفاء في {فإياي} واقعة في جواب شرط مقدر و{إياي} مفعول لفعل محذوف يقدر مؤخرًا يدل عليه {وإياى فارهبون} أي إن رهبتم شيئًا فإياي ارهبوا، وقول ابن عطية: أن {إياي} منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ذهول عن القاعدة النحوية، وهي أنه إذا كان المعمول ضميرًا منفصلًا والفعل متعد إلى واحد هو الضمير وجب تأخر الفعل نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله:
إليك حتى بلغت إياكا

وعطف المفسر المذكور على المفسر المحذوف بالفاء لأن المراد رهبة بعد رهبة، وقيل: لأن المفسر حقه إن يذكر بعد المفسر، ولا يخفى فصل الضمير وتقديمه من الحصر أي ارهبوني لا غير فانا ذلك الإله الواحد القادر على الانتقام.
{وَلَهُ مَا في السموات والأرض} عطف على قوله سبحانه: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} [النحل: 51]. أو على الخبر أو مستأنف جيء به تقريرًا لعلة انقياد ما فيهما له سبحانه خاصة وتحقيقًا لتخصيص الرهبة به تعالى، وتقديم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى التخصيص، وكذا يقال فيما بعد أي له تعالى وحده ما في السموات والأرض خلقا وملكا {وَلَهُ} وحده {الدين} أي الطاهة والانقياد كما هو أحد معانيه.
ونقل عن ابن عطية وغيره {وَاصِبًا} أي واجبًا لازمًا لا زوال له لما تقرر أنه سبحانه الإله وحده الحقيق بأن يرهب، وتفسير {وَاصِبًا} بما ذكر مروى عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد والضحاك وجماعة، وأنشدوا لأبي الأسود الدؤلي:
لا أبتغى الحمد القليل بقاؤه ** يومًا بذم الدهر أجمع واصبا

وقال ابن الأنباري: هو من الوصب بمعنى التعب أو شدته، وفاعل للنسب كما في قوله:
وأضحى فؤادي به فاتنا

أي ذا وصب وكلفة، ومن هنا سمى الدين تكليفًا، وقال الربيع بن أنس: {وَاصِبًا} خالصًا، ونقل ذلك أيضا عن الفراء، وقيل: الدين الملك والواصب الدائم، ويبعد ذلك قول أمية بن الصلت:
وله الدين واصبا وله الم ** لك وحمد له على كل حال

وقيل: الدين الجزاء والواصب كما في سابقه أي له تعالى الجزاء دائمًا لا ينقطع ثوابه للمطيع وعقابه للعاصي، وأيًا ما كان فنصب {وَاصِبًا} على أنه حال من ضمير {الدين} المستكن في الظرف والظرف عامل فيه أو حال من {الدين} والظرف هو العامل على رأي من يرى جواز اختلاف العامل في الحال والعامل في صاحبها.
واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة تعالى: {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} الهمزة للانكار والفاء للتعقب أي أبعد ما تقرر من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كله له سبحانه ونهيه عن اتخاذ الإلهين وكون الدين له واصبًا المستدعى ذلك لتخصيص التقوى به تاعلى تتقون غيره، والمنكر تقوى غير الله تعالى لا مطلق التقوى ولذا قدم الغير، وأولي الهمزة لا للاختصاص حتى يرد أن انكار تخصيص التقوى بغيره سبحانه لا ينافي جوازها، وقيل: يصح أن يعتبر الاختصاص بالانكار فيكون التقديم لاختصاص الإنكار لا لإنكار الاختصاص.
وفي البحر أن هذا الاستفهام يتضمن التوبيخ والتعجب أي بعد ما عرفتم من وحدانيته سبحانه وأن ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره.
{وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله} أي أي شيء يلابسكم ويصاحبكم من نعمة أي نعمة كانت فهي منه تاعلى فما موصولة مبتدأ متضمنة معنى الشرط و{مِنَ الله} خبرها والفاء زائدة في الخبر لذلك التضمن و{مِن نّعْمَةٍ} بيان للموصول و{بِكُمْ} صلته، وأجاز الفراء وتبعه الحوفي أن تكون {مَا} شرطية وفعل الشرط محذوف أي وما يكن بكم من نعمة إلخ.
واعترضه أبو حيان بأنه لا يحذف فعل الشرط إلا بعد إن خاصة في موضعين باب الاشتغال نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6]، وأن تكون إن الشرطية متلوة بلا النافية وقد دل على الشرط ما قبله كقوله:
فطلقها فلست لها بكفء ** وإلا يعل مفرقك الحسام

وحذفه في غير ما ذكر ضرورة كقوله:
قالت بنات العم يا سلمى وإن ** كان فقيرًا معدمًا قالت وإن

وقوله:
أينما الريح تمليها تمل

وأجيب بأن الفراء لا يسلم هذا فما أجازه مبني على مذبه.
واستشكل أمر الشرطية على الوجهين من حيث أن الشرط لابد أن يكون سببًا للجزاء كما تقول: إن تسلم تدخل الجنة فإن الإسلام سبب لدخول الجنة وهنا على العكس، فإن الأول وهو استقرار النعمة بالمخاطبين لا يستقيم أن يكون سببًا للثاني وهو كونها من الله من جهة كونه فرعًا عنه.
وأجاب في إيضاح المفصل بأن الآية جيء بها لاخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها أوشكوا فيه أو فعلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين فاستقرارها مجهولة أو مشكوكة سبب للاخبار بكونها من الله تعالى فيتحقق أن الشرط والمشروط فيها على حسب المعروف من كون الأول سببًا والثاني مسبباف، وقد وهم من قال: إن الشرط قد يكون مسببًا.
وفي الكشف أن الشرط والجزاء ليسا على الظاهر فإن الأول ليس سببًا للثاني بل الأمر بالعكس لكن المقصود منه تذكيرهم وتعريفهم فالاتصال سبب العلم بكونها من الله تعالى، وهذا أولى مما قدره ابن الحاجب من أنه سبب الأعلام بكونها منه لأنه في قوم استقرت بهم النعم وجهلوا معطيها أوشكوا فيه، ألا ترى إلى ما بنى عليه بعد كيف دل على أنهم عالمون بأنه سبحانه المنعم ولكن يضطرون إليه عند الإلجاء ويكفرون بعد الإنجاء انتهى.
وفيه أنه يدفع ما ذكره بأن علمهم نزل لعدم الاعتداد به وفعلهم ما ينافيه منزلة الجهل فأخبروا بذلك كما تقول لمن توبخه: أما أعطيتك كذا أما وأما {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر} مساسًا يسيرًا {فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} تتضرعون في كشفه لا إلى غيره كما يفيده تقديم الجار والجرور، والجؤار في الأصل صياح الوحش واستعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة، قال الأعشى يصف راهبًا:
يداوم من صلوات المليك ** طورًا سجودًا وطورًا جؤرًا

وقرى الزهري {تجرون} بحذف الهمزة والقاء حركتها على الجيم، وفي ذكر المساس المنبىء عن أدنى إصابة وإيراده بالجملة الفعلية المؤذنة بالحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية {الضر} بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع إيراد النعمة بالجملة الاسمية المؤذنة بالدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وأيراد {مَا} المعربة عن العموم على احتماليها ما لا يخفى من الجزالة والفخامة.
ولعل إيراد {إذا} دون ان للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب قاله الملوى أبو السعود، وفيه ما يعرف مع الجواب عنه بأدنى تأمل، وكان الظاهر على ما قيل أن يقال بعد {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} [النحل: 52]: وما يصيبكم ضر إلا منه ليقوي إنكار اتقاء غيره سبحانه لكن ذكر النفع الذي يفهم بواسطته الضر واقتصر عليه إشارة إلى سبق رحمته وعمومها وبملاحظة هذا المعنى قيل: يظهر ارتباط {وما بكم من نعمة فمن الله} بما قبله، وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، واستدل بالآية على أن لله تاعلى نعمة على الكافر وعلى أن الإيمان مخلوق له تعالى.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ} أي رفع ما مسكم من الضر {إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي يتجدد إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه، والخطاب في الآية ان كان عامًا فمن للتبعيض والفريق الكفرة، وإن كان خاصًا بالمشركين كما استظهره في الكشف فمن للبيان على سبيل التجريد ليحسن وإلا فليس من مواقعه كما قيل، والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون؛ وجوز على هذا الاحتمال في الخطاب كون من تبعيضية أيضًا لأن من المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضرًا شديدًا كما يدل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: 32]. على تقدير أن يفسر الاقتصاد بالتوحيد لا بعدم الغلو في الكفر، و{إِذَا} الأولى شرطية والثانية فجائية والجلمة بعدها جواب الشرط، واستدل أبو حيان باقترانها باذا الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، و{بِرَبّهِمْ} متعلق بيشركون والتقديم لمراعاة رؤوس الآي، والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الإشراك الذي هو غاية في الكفران.
و{ثُمَّ} قال في إرشاد العقل السلم ليست لتمادي زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة على تراخي رتبة ما يترتب عليه من مفاجآت الإشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال.
وفي الكشف متعقبًا صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ} وهو على وجهين والله تعالى أعلم.
أحدهما أن يكون قوله سبحانه: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53]. من تتمة السابق على معنى إنكار إتقاء غير الله تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته فهو سبحانه القادر على سلبها، ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالاتقاء ثم اشراكهم به تعالى كفرانًا لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الانكارين فإن اتقاء غير المنعم أقرب من الاعراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى هذا المكفور به وحده عند الحاجة، وأبعد منه الأعراض ولم يجف قدمه من ندى النجاة.
والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع و{ثُمَّ} في الأول لتراخي الزمان اشعارًا بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه إلى وقت الإلجاء، وفيه الأشعار بتراخي الرتبة أيضًا على سبيل الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده، اه وهو كلام نفيس، وللطيبي كلام طويل في هذا المقام ان أردته فارجع إليه.
وقرأ الزهري {ثُمَّ إِذَا كاشف} وفاعل هنا بمعنى فعل، وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعًا ولا ضرًا عند إصابة الضر لهم واعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلًا عن المؤمنين باليوم الموعود ان بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث بالله تعالى إذا خطب دهاك فإن الله تعالى لا يعجل في اغاثتك ولا يهمه سوء حالتك وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين فأنهم يعجلون في تفريج كربك ويهمهم سوء ما حل بك فمج ذلك سمعي وهمي دمعي وسألت الله تعالى أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك.
{لِيَكْفُرُواْ بِمَا ءاتيناهم} من نعمة الكشف عنهم، فالكفر بمعنى كفران النعمة واللام لام العاقبة والصيرورة، وهي استعارة تبعية فإنه لما لم ينتج كفرهم واشراكهم غير كفران ما أنعم الله تعالى به عليهم جعل كأنه علة غائية له مقصودة منه، وجوز أن يكون الكفر بمعنى الجحود أي انكار كون تلك النعمة من الله تعالى واللام هي اللام، والمعنيان متقاربان {فَتَمَتَّعُواْ} أمر تهديد كما هو أحد معاني الأمر المجازية عند الجمهور كما يقول السيد لعبده افعل ما تريد، والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط.
وقرأ أبو العالية {فيمتعوا} بضم الياء التحتية ساكن الميم مفتوح التاء مضارع متع مخففًا مبنيًا للمفعول وروى ذلك مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معطوف {أَن يَكْفُرُواْ} على أن يكون الأمران عرضًا لهم من الإشراك، ويجوز أن يكون لام {لِيَكْفُرُواْ} لام الأمر والمقصود منه التهديد بتخليتهم وما هم فيه لخذلانهم، فالفاء واقعة في جواب الأمر وما بعدها منصوب باسقاط النون، ويجوز جزمه بالعطفأيضًا كما ينصب بالعطف إذا كانت اللام جارة {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب، وفيه وعيد شديد حيث لم يذكر المفعول اشعارًا بأنه لا يوصف.
وقرأ أبو العالية أيضًا {يَعْلَمُونَ} بالياء التحتية وروي ذلك مكحول عن أبي رافع أيضًا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)}.
نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة جميع البشر عن أن يعبدوا إلهًا آخر معه، وإبراهيم أن المعبود المستحق لأن يعبد وحده واحد، ثم أمرهم أن يرهبوه أي يخافواه وحده. لأنه هو الذي بيده الضر والنفع، لا نافع ولا ضار سواه.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة. كقوله: {ففروا إِلَى الله إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50-51]، وقوله: {الذي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب الشديد} [ق: 26]، وقوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} [الإسراء: 22]، وقوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 39].
وبين جل علا في مواضع أخر: استحالة تعدد آلهة عقلًا. كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الغيب والشهادة فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 91-92]، وقوله: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، والآيات بعبادته وحده كثيرة جدًا، فلا نطيل بها الكلام، وقدم المفعول في وقله: {فَإيَّايَ فارهبون} للدلالة على الحصر، وقد تقرر في الأصول في مبحث: مفهوم المخالفة، وفي المعاني في مبحث القصر: أن تقديم المعمول على صيغ الحصر، أي خافون وحدي ولا تخافوا سواي، وهذا الحصر المشار إليه هنا بتقديم المعمول بينه جل وعلا في مواضع أخر. كقوله: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} [المائدة: 44]. الآية، وقوله: {الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ الله} [الأحزاب: 39]. الآية، وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} [التوبة: 18]. الآية، وقوله: {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا}.
الدين هنا: الطاعة، ومنه سميت أوامر الله ونواهيه دينًا. كقول: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19]، وقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِينًا} [المائدة: 3]، وقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].
والمراد بالدين في الآيات: طاعة الله بامتثال جميع الأوامر، واجتناب جميع النواهي، ومن الدين بمعنى الطاعة: قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
وأيامًا لنا غرًا كرامًا ** عصينا الملك فيها أن ندينا

أي عصيناه وامتنعنا أن ندين له، أي نطيعه، وقوله: {واصبًا} أي دائمًا. أي له جلَّ وعلا: الطاعة والذل والخضوع دائمًا. لأنه لا يضعف سلطانه، ولا يعزل عن سلطانه، ولا يموت ولا يغلب، ولا يتغير له حال بخلاف ملوك الدنيا. فإن الواحد منهم يكون مطاعًا له السلطنة والحكم، والناس يخافونه ويطعمون فيما عنده برهة من الزمن، ثم يعزل أو يموت، أو يذل بعد عز، ويتضع بعد رفعة. فيبقى لا طاعة له ولا يعبأ به أحد. فسبحان من لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرًا.