فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا المعنى الذي أشار إليه مفهوم الآية بينه جل وعلا في مواضع آخر. كقوله: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} [آل عمران: 26]، وقوله: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} [الواقعة: 3]. لأنها ترفع أقوامًا كانت منزلتهم منخفضة في الدنيا، وتخفض أقوامًا كانوا ملوكًا في الدنيا، لهم المكانة الرفيعة وقوله: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
ونظير هذه الاية المذكورة قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 8-9]. أي دائم، وقيل: عذاب موجع مؤلم والعرب تطلق الوصب على المرض، وتطلق الوصب على الدوام، وروي عن ابن عباس أنه لما ساله نافع بن الأزرق عن قوله تعالى: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} قال له: الوصب الدائم واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
وله الدين واصبًا وله المل ** ك وحمد له على كل حال

ومنه قول الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ** يومًا بذم الدهر أجمع واصبًا

وممن قال بأن معنى الواصب في هذه الآية الدائم: ابن عباس ومجاهد، وعكرمة وميمون بن مهران، والسدي وقتادة، والحسن والضحاك، وغيرهم، وروي عن ابن عباس ايضًا واصبًا: أي واجبًا، وعن مجاهد أيضًا: واصبًا: أي خالصًا، وعلى قول مجاهد هذا، فلاخبر بمعنى الإنشاء. أي ارهبةا أن تشركوا بي شيئًا، وأخلصوا لي الطاعة- وعليه فالآية كقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]، وقوله: {أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص} [الزمر: 3]، وقوله: {وَمَا أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5]، وقوله: {واصبًا} حال عمل فيه الظرف.
وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ}.
أنكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة على من يتقي غيره، لأنه لا ينبغي ان يتقي إلا من بيده النفع كله والضر كله. لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك.
وقد اشار تعالى هنا إلى أن إنكار إتقاء غير الله، لأجل أن الله هو الذي يرجى منه النفع، ويخشى منه الضر، ولذلك أتبع قوله: {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} بقوله: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]، ومعنى تجأرون: ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة عند نزول الشدائد، ومنه قول الأعشى أو النابغة يصف بقرة:
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة ** وكان النكير أن تضيف وتجأرا

وقوله الأعشى:
يرواح من صلوات المليك ** طورًا سجودًا وطورًا جؤارا

ومنه قوله تعالى: {حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} [المؤمنون: 64-65]. قد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} [الأنعام: 17]، وقوله: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [يونس: 107]. الآية، وقوله: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2]. الآية، وقوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا} [التوبة: 51]. الآية، وقوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ثبت في الصيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الَّهمَّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجدُّ» وفي حديث ابن عباس المشهور: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعولك لم ينفعول إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلى بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)}.
بين تعالى في هذه الاية الكريمة: ان بني آدم إذا مسهم الضر دعوا الله وحده مخلصين له الدين فإذا كشف عنهم الضر، وأزال عنهم الشدة: إذا فريق منهم وهم الكفار يرجعون في أسرع وقت إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي، وقد كرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن. كقوله في يونس: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [يونس: 22]. إلى قوله: {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} [يونس: 23]، وقوله في الإسراء {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُورًا} [الإسراء: 67]، وقوله في آخر العنكبوت: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، وقوله في الأنعام: {قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64]. إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله} [الأنعام: 40]. الآية.
قوله تعالى: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
صيغة الأمر في قوله: {فَتَمَتَّعُواْ} للتهديد، وقد تقرر في فن المعاني، في مبحث الإنشاء، وفي فن الأصول، في مبحث الأمر: أن من المعاني التي تأتي لها صيغة إفعل التهديد. كقوله هنا: {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وتشهد لهذا المعنى آيات أخر. كقوله. {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} [الزمر: 8]، وقوله: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} [إبراهيم: 30]، وقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]، وقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} [الزخرف: 83]، وقوله: {كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ} [المرسلات: 46]، وقوله: {فَذَرْهُمْ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45]، إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)}.
لما أُشبع القول في إبطال تعدّد الآلهة الشائع في جميع قبائل العرب، وأتبع بإبطال الاختلاق على الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن، نُقل الكلام إلى إبطال نوع آخر من الشّرك متّبع عند قبائل من العرب وهو الإشراك بإلهية أصلين للخير والشرّ، تقلّدته قبائل العرب المجاورة بلاد فارس والساري فيهم سلطان كِسرى وعوائدُهم، مثلُ بني بكر بن وائل وبني تميم، فقد دان منهم كثير بالمجوسية، أي المَزْدكية والمانوية في زمن كِسرى أبرويش وفي زمن كِسرى أنوشروان، والمجوسية تثبت عقيدةً بإلهين: إلهٍ للخير وهو النّور، وإلهٍ للشرّ وهو الظلمة، فإله الخير لا يصدر منه إلا الخير والأنعام، وإله الشرّ لا يصدر عنه إلا الشرّ والآلام، وسمّوا إله الخير: يَزْدَان، وسموا إله الشرّ: اَهْرُمُنْ.
وزعموا أن يزدان كان منفردًا بالإلهية وكان لا يخلق إلا الخير فلم يكن في العالم إلا الخير، فخطر في نفسه مرةً خاطرُ شرّ فتولّد عنه إلهٌ آخرُ شريك له هو إلهٌ الشرّ، وقد حكى هذا المعرّي في لزومياته بقوله:
فَكّرَ يَزْدانُ على غِرة ** فصيغ من تفكيره أهْرُمُنْ

ولم يكونوا يجعلون لهذين الأصلين صُورًا مجسّمة، فلذلك لم يكن دينهم من عداد عبادة الطاغوت لاختصاص اسم الطاغوت بالصور والأجسام المعبودة.
وهذا الدين من هذه الجهة يشبه الأديان التي لا تعبُد صُوَرًا محسوسة.
وسيأتي الكلام على المجوسيّة عند تفسير قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا} إلى قوله: {والمَجوسَ} في سورة الحج (170).
ويدلّ على أن هذا الدين هو المراد التّعقيب بآية {ما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسّكم الضرّ فإليه تجأرون} [سورة النحل: 53]. كما سيأتي.
فقوله تعالى: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} عطف قصّة على قصّة وهو مرتبط بجملة {ولقد بعثنا في كل أمّة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [سورة النحل: 36].
ومعنى {وقال الله لا تتخذوا إلهين} أنه دعا الناس ونَصب الأدلّة على بطلان اعتقاده.
وهذا كقوله تعالى: {يريدون أن يبدلوا كلام الله} [سورة الفتح: 15]، وقوله: {كذلكم قال الله من قبل} [سورة الفتح: 15].
وصيغة التّثنية من قوله: {إلهين} أكدت بلفظ {اثنين} للدّلالة على أن الإثنينية مقصودة بالنّهي إبطالًا لشرك مخصوص من إشراك المشركين، وأن لا اكتفاء بالنّهي عن تعدّد الإله بل المقصود النّهي عن التّعدد الخاص وهو قول المجوس بإلهين.
ووقع في الكشاف توجيه ذكر {اثنين} بأنه لدفع احتمال إرادة الجنس حقيقة لا مجازًا.
وإذ نُهوا عن اتخاذ إلهين فقد دلّ بدلالة الاقتضاء على إبطال اتخاذ آلهة كثيرة.
وجملة {إنما هو إله واحد} يجوز أن تكون بيانًا لجملة {لا تتخذوا إلهين اثنين}، فالجملة مقولة لفعل {وقال الله} لأن عطف البيان تابع للمبيّن كموقع الجملة الثانية في قول الشاعر:
أقول له ارحَلْ لا تَقيمَنّ عندنا

فلذلك فُصلت، وبذلك أفيد بالمنطوق ما أفيد قبلُ بدلالة الاقتضاء.
والضمير من قوله تعالى: {إنما هو إله واحد} عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {وقال الله}، أي قال الله إنما الله إله واحد، وهذا جَريٌ على أحد وجهين في حكاية القول وما في معناه بالمعنى كما هنا، وقوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {أن اعبدوا الله ربي وربكم} [سورة المائدة: 117]. ف {أن اعبدوا الله} مفسرُ {أمَرْتني}، وفعل {أمَرْتني} فيه معنى القول، والله قال له: قل لهم اعبُدوا الله ربك وربهم، فحكاه بالمعنى، فقال: ربّي.
والقصر في قوله: {إنما هو إله واحد} قصر موصوف على صفة، أي الله مختصّ بصفة توحّد الإلهية، وهو قصر قلب لإبطال دعوى تثنية الإله.
ويجوز أن تكون جملة {إنما هو إله واحد} معترضةً واقعة تعليلًا لجملة {لا تتخذوا إلهين اثنين} أي نَهى الله عن اتخاذ إلهين لأن الله واحد، أي والله هو مسمّى إله فاتّخاذ إلهين اثنين قلب لحقيقة الإلهية.
وحصر صفة الوحدانية في عَلَم الجلالة بالنّظر إلى أن مسمّى ذلك العلم مساوٍ لمسمّى إله، إذ الإله منحصر في مسمّى ذلك العلَم.
وتفريع {فإياي فارهبون} يجوز أن يكون تفريعًا على جملة {لا تتخذوا إلهين اثنين} فيكون {فإياي فارهبون} من مقول القول، ويكون في ضمير المتكلم من قوله: {فارهبون} التفات من الغيبة إلى الخطاب.
ويجوز أن يكون تفريعًا على فعل {وقال الله} فلا يكون من مقول القول، أي قال الله لا تتخذوا إلهين فلا ترهبوا غيري.
وليس في الكلام التفات على هذا الوجه.
وتفرّع على ذلك قوله تعالى: {فإياي فارهبون} بصيغة القصر، أي قصر قلب إضافيًا، أي قصر الرهبة التامة منه عليه فلا اعتداد بقدرة غيره على ضرّ أحد.
وهو ردّ على الذين يرهبون إله الشرّ فالمقصود هو المرهوب.
والاقتصار على الأمر بالرّهبة وقصرها على كونها من الله يفهم منه الأمر بقصر الرغبة عليه لدلالة قصر الرهبة على اعتقاد قصر القدرة التامة عليه تعالى فيفيد الردّ على الذين يطمعون في إله الخير بطريق الأولى، وإنما اقتصر على الرّهبة لأن شأن المزدكية أن تكون عبادتهم عن خوف إله الشرّ لأن إله الخير هم في أمن منه فإنه مطبوع على الخير.
ووقع في ضمير {فإياي} التفات من الغيبة إلى التكلم لمناسبة انتقال الكلام من تقرير دليل وحدانية الله على وجه كلّي إلى تعيين هذا الواحد أنه الله منزل القرآن تحقيقًا لتقرير العقيدة الأصلية.
وفي هذا الالتفات اهتمام بالرّهبة لما في الالتفات من هزّ فهم المخاطبين.
وتقدّم تركيب نظيره بدون التفات في سورة البقرة.
واقتران فعل {فارهبون} بالفاء ليكون تفريعًا على تفريع فيفيد مفاد التأكيد لأن تعلّق فعل {ارهبون} بالمفعول لفظًا يجعل الضمير المنفصل المذكور قبله في تقدير معمول لفعل آخر، فيكون التقدير: فإياي ارهبُوا فارهبون، أي أمرتكم بأن تقصُروا رهبتكم عليّ فارهبون امتثالًا للأمر.
{وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}.
مناسبة موقع جملة {وله ما في السموات والأرض} بعد جملة {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} [سورة النحل: 51]. أن الذين جعلوا إلهين جعلوهما النور والظلمة.
وإذ كان النور والظلمة مظهرين من مظاهر السماء والأرض كان المعنى: أن ما تزعمونه إلهًا للخير وإلهًا للشرّ هما من مخلوقاته.
وتقديم المجرور يفيد الحصر فدخل جميع ما في السماء والأرض في مفاد لام الملك، فأفاد أن ليس لغيره شيء من المخلوقات خيرها وشرّها.
فانتفى أن يكون معه إله آخر لأنه لو كان معه إله آخر لكان له بعض المخلوقات إذ لا يعقل إله بدون مخلوقات.
وضمير {له} عائد إلى اسم الجلالة من قوله: {وقال الله لا تتخذوا إلهين}.
فعطفه على جملة {إنما هو إله واحد} [سورة النحل: 51]. لأن عظمة الإلهية اقتضت الرّهبة منه وقصرها عليه، فناسب أن يشار إلى أن صفة المالكية تقتضي إفراده بالعبادة.
وأما قوله: {وله الدين واصبًا} فالدين يحتمل أن يكون المراد به الطاعة، من قولهم: دانت القبيلة للملك، أي أطاعته، فهو من متمّمات جملة {وله ما في السموات والأرض}، لأنه لما قَصَر الموجودات على الكون في ملكه كان حقيقًا بقصر الطاعة عليه، ولذلك قدّم المجرور في هذه الجملة على فعله كما وقع في التي قبلها.
ويجوز أن يكون {الدين} بمعنى الديانة، فيكون تذييلًا لجملة {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين}، لأن إبطال دين الشرك يناسبه أن لا يدين الناس إلا بما يشرّعه الله لهم، أي هو الذي يشرّع لكم الدين لا غيره من أئمّة الضلال مثل عَمرو بن لُحييَ، وزَرَادَشْت، وَمَزْدك، ومَاني، قال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [سورة الشورى: 21].
ويجوز أن يكون الدين بمعنى الجزاء كما في قوله تعالى: {ملك يوم الدين} [سورة الفاتحة: 4]، فيكون إدماجًا لإثبات البعث الذي ينكره أولئك أيضًا.
والمعنى: له ما في السماوات والأرض وإليه يرجع من في السماوات والأرض لا يرجعون إلى غيره ولا ينفعهم يومئذٍ أحد.
والواصب: الثابت الدائم، وهو صالح للاحتمالات الثلاثة، ويزيد على الاحتمال الثالث لأنه تأكيد لردّ إنكارهم البعث.