فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سليمان}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سليمان}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سليمان} فهذا تنزيه له عليه السلام عن الكفر، وذلك يدل على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر: قيل فيه أشياء، أحدها: ما روي عن بعض أخبار اليهود أنهم قالوا: ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيًا وما كان إلا ساحرًا، فأنزل الله هذه الآية.
وثانيها: أن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله تعالى منه.
وثالثها: أن قومًا زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبيًا ينافي كونه ساحرًا كافرًا، ثم بين تعالى أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} يشير به إلى ما تقدم ذكره ممن اتخذ السحر كالحرفة لنفسه وينسبه إلى سليمان، ثم بين تعالى ما به كفروا فقد كان يجوز أن يتوهم أنهم ما كفروا أولًا بالسحر فقال تعالى: {يُعَلّمُونَ الناس السحر}. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن الكلام في السحر يقع من وجوه.
الْمَسْأَلَةُ الأولى: في البحث عنه بحسب اللغة:
فنقول: ذكر أهل اللغة أنه في الأصل عبارة عما لطف وخفي سببه والسحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه، قال لبيد:
ونسحر بالطعام وبالشراب.
قيل فيه وجهان:
أحدهما: أنا نعلل ونخدع كالمسحور المخدوع.
والآخر: نغذي وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء وقال:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ** عصافير من هذا الأنام المسحر

وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول، ويحتمل أيضًا أن يريد بالمسحر أنه ذو سحر، والسحر هو الرئة، وما تعلق بالحلقوم وهذا أيضًا يرجع إلى معنى الخفاء ومنه قول عائشة رضي الله عنها: «توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري»، وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: 153]، يعني من المخلوقين الذي يطعم ويشرب يدل عليه قولهم: {مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} [الشعراء: 154] ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا، وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال للسحرة: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} [يونس: 81] وقال: {فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم} [الأعراف: 116] فهذا هو معنى السحر في أصل اللغة.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: معنى السحر في الشرع:
اعلم أن لفظ السحر في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع، ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله.
قال تعالى: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس} [الأعراف: 66] يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى وقال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] وقد يستعمل مقيدًا فيما يمدح ويحمد.
روي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، فقال لعمرو: خبرني عن الزبرقان، فقال: مطاع في ناديه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره، فقال الزبرقان: هو والله يعلم أني أفضل منه، فقال عمرو: إنه زمن المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقت فيهما، أرضاني فقلت: أحسن ما علمت وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرًا» فسمى النبي صلى الله عليه وسلم بعض البيان سحرًا لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه وبليغ عبارته، فإن قيل: كيف يجوز أن يسمى ما يوضح الحق وينبيء عنه سحرًا؟ وهذا القائل إنما قصد إظهار الخفى لا إخفاء الظاهر ولفظ السحر إنما يفيد إخفاء الظاهر؟ قلنا: إنما سماه سحرًا لوجهين، الأول: أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب فأشبه السحر الذي يستميل القلوب، فمن هذا الوجه سمي سحرًا، لا من الوجه الذي ظننت.
الثاني: أن المقتدر على البيان يكون قادرًا على تحسين ما يكون قبيحًا وتقبيح ما يكون حسنًا فذلك يشبه السحر من هذا الوجه.
المسألة الثالثة: أقسام السحر:
في أقسام السحر: اعلم أن السحر على أقسام:
الأول: سحر الكلدانيين والكسدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلًا لمقالتهم ورادًا عليهم في مذهبهم.
أما المعتزلة فقد اتفقت كلمتهم على أن غير الله تعالى لا يقدر على خلق الجسم والحياة واللون والطعم، واحتجوا بوجوه ذكرها القاضي ولخصها في تفسيره وفي سائر كتبه ونحن ننقل تلك الوجوه وننظر فيها:
أولها: وهو النكتة العقلية التي عليها يعولون أن كل ما سوى الله إما متحيز وإما قائم بالمتحيز، فلو كان غير الله فاعلًا للجسم والحياة لكان ذلك الغير متحيزًا، وذلك المتحيز لابد وأن يكون قادرًا بالقدرة، إذ لو كان قادرًا لذاته لكان كل جسم كذلك بناء على أن الأجسام متماثلة لكن القادر بالقدرة لا يصح منه فعل الجسم والحياة، ويدل عليه وجهان:
الأول: أن العلم الضروري حاصل بأن الواحد منا لا يقدر على خلق الجسم والحياة ابتداء، فقدرتنا مشتركة في امتناع ذلك عليها، فهذا الامتناع حكم مشترك فلابد له من علة مشتركة ولا مشترك هاهنا إلا كوننا قادرين بالقدرة، وإذا ثبت هذا وجب فيمن كان قادرًا بالقدرة أن يتعذر عليه فعل الجسم والحياة.
الثاني: أن هذه القدرة التي لنا لا شك أن بعضها يخالف بعضًا، فلو قدرنا قدرة صالحة لخلق الجسم والحياة لم تكن مخالفتها لهذه القدرة أشد من مخالفة بعض هذه القدرة للبعض، فلو كفى ذلك القدر من المخالفة في صلاحيتها لخلق الجسم والحياة لوجب في هذه القدرة أن يخالف بعضها بعضًا، وأن تكون صالحة لخلق الجسم والحياة، ولما لم يكن كذلك علمنا أن القادر بالقدرة لا يقدر على خلق الجسم والحياة.
وثانيها: أنا لو جوزنا ذلك لتعذر الاستدلال بالمعجزات على النبوات لأنا لو جوزنا استحداث الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية لم يمكنا القطع بأن هذه الخوارق التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام صدرت عن الله تعالى، بل يجوز فيها أنهم أتوا بها من طريق السحر، وحينئذ يبطل القول بالنبوات من كل الوجوه.
وثالثها: أنا لو جوزنا أن يكون في الناس من يقدر على خلق الجسم والحياة والألوان لقدر ذلك الإنسان على تحصيل الأموال العظيمة من غير تعب، لكنا نرى من يدعي السحر متوصلًا إلى اكتساب الحقير من المال بجهد جهيد، فعلمنا كذبه وبهذا الطريق نعلم فساد ما يدعيه قوم من الكيمياء، لأنا نقول: لو أمكنهم ببعض الأدوية أن يقلبوا غير الذهب ذهبًا لكان إما أن يمكنهم ذلك بالقليل من الأموال، فكان ينبغي أن يغنوا أنفسهم بذلك عن المشقة والذلة أو لا يمكنهم إلا بالآلات العظام والأموال الخطيرة، فكان يجب أن يظهروا ذلك للملوك المتمكنين من ذلك، بل كان يجب أن يفطن الملوك لذلك لأنه أنفع لهم من فتح البلاد الذي لا يتم إلا بإخراج الأموال والكنوز، وفي علمنا بانصراف النفوس والهمم عن ذلك دلالة على فساد هذا القول، قال القاضي: فثبت بهذه الجملة أن الساحر لا يصح أن يكون فاعلًا لشيء من ذلك.
واعلم أن هذه الدلائل ضعيفة جدًا.
أما الوجه الأول: فنقول: ما الدليل على أن كل ما سوى الله، إما أن يكون متحيزًا، وإما قائمًا بالمتحيز، أما علمتم أن الفلاسفة مصرون على إثبات العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة، وزعموا أنها في أنفسها ليست بمتحيزة ولا قائمة بالمتحيز، فما الدليل على فساد القول بهذا؟ فإن قالوا: لو وجد موجود هكذا لزم أن يكون مثلًا لله تعالى، قلنا: لا نسلم ذلك لأن الاشتراك في الأسلوب لا يقتضي الاشتراك في الماهية، سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون بعض الأجسام يقدر على ذلك لذاته؟ قوله: الأجسام متماثلة.
فلو كان جسم كذلك لكان كل جسم كذلك، قلنا: ما الدليل على تماثل الأجسام، فإن قالوا: إنه لا معنى للجسم إلا الممتد في الجهات، الشاغل للأحياز ولا تفاوت بينها في هذا المعنى، قلنا: الامتداد في الجهات والشغل للأحياز صفة من صفاتها ولازم من لوازمها، ولا يبعد أن تكون الأشياء المختلفة في الماهية مشتركة في بعض اللوازم، سلمنا أنه يجب أن يكون قادرًا بالقدرة، فلم قلتم إن القادر بالقدرة لا يصح منه خلق الجسم والحياة؟ قوله: لأن القدرة التي لنا مشتركة في هذا الامتناع وهذا الامتناع حكم مشترك، فلابد له من علة مشتركة ولا مشترك سوى كوننا قادرين بالقدرة، قلنا: هذه المقدمات بأسرها ممنوعة فلا نسلم أن الامتناع حكم معلل وذلك لأن الامتناع عدمي والعدم لا يعلل، سلمنا أنه أمر وجودي، ولكن من مذهبهم أن كثيرًا من الأحكام لا يعلل، فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك، سلمنا أنه معلل، فلم قلتم: إن الحكم المشترك لابد له من علة مشتركة، أليس أن القبح حصل في الظلم معللًا بكونه ظلمًا وفي الكذب بكونه كذبًا، وفي الجهل بكونه جهلًا؟ سلمنا أنه لابد من علة مشتركة، لكن لا نسلم أنه لا مشترك إلا كوننا قادرين بالقدرة، فلم لا يجوز أن تكون هذه القدرة التي لنا مشتركة في وصف معين وتلك القدرة التي تصلح لخلق الجسم تكون خارجة عن ذلك الوصف، فما الدليل على أن الأمر ليس كذلك؟ وأما الوجه الأول: وهو أنه ليست مخالفة تلك القدرة لبعض القدر أشد من مخالفة بعض هذه القدر للبعض، فنقول: هذا ضعيف، لأنا لا نعلل صلاحيتها لخلق الجسم بكونها مخالفة لهذه القدر، بل لخصوصيتها المعينة التي لأجلها خالفت سائر القدر وتلك الخصوصية معلوم أنها غير حاصلة في سائر القدر.
ونظير ما ذكروه أن يقال: ليست مخالفة الصوت للبياض بأشد من مخالفة السواد للبياض، فلو كانت تلك المخالفة مانعة للصوت من صحة أن يرى لوجب لكون السواد مخالفًا للبياض أن يمتنع رؤيته.
ولما كان هذا الكلام فاسدًا فكذا ما قالوه، والعجب من القاضي أنه لما حكى هذه الوجوه عن الأشعرية في مسألة الرؤية وزيفها بهذه الأسئلة، ثم إنه نفسه تمسك بها في هذه المسألة التي هي الأصل في إثبات النبوة والرد على من أثبت متوسطًا بين الله وبيننا.
أما الوجه الثاني وهو أن القول بصحة النبوات لا يبقى مع تجويز هذا الأصل فنقول: إما أن يكون القول بصحة النبوات متفرعًا على فساد هذه القاعدة أو لا يكون.
فإن كان الأول امتنع فساد هذا الأصل بالبناء على صحة النبوات، وإلا وقع الدور، وإن كان الثاني فقد سقط هذا الكلام بالكلية.
وأما الوجه الثالث: فلقائل أن يقول الكلام في الإمكان غير، ونحن لا نقول بأن هذه الحالة حاصلة لكل أحد بل هذه الحالة لا تحصل للبشر إلا في الأعصار المتباعدة فكيف يلزمنا ما ذكرتموه؟ فهذا هو الكلام في النوع الأول من السحر.
النوع الثاني من السحر: سحر أصحاب الأوهام والنفس القوية، قالوا: اختلف الناس في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله: أنا ما هو؟ فمن الناس من يقول: إنه هو هذه البنية، ومنهم من يقول: إنه جسم صار في هذه البنية، ومنهم من يقول: بأنه موجود وليس بجسم ولا بجسماني.
أما إذا قلنا إن الإنسان هو هذه البنية، فلا شك أن هذه البنية مركبة من الأخلاط الأربعة، فلم لا يجوز أن يتفق في بعض الأعصار الباردة أن يكون مزاجه مزاجًا من الأمزجة في ناحية من النواحي يقتضي القدرة على خلق الجسم والعلم بالأمور الغائبة عنا والمتعذرة، وهكذا الكلام إذا قلنا الإنسان جسم سار في هذه البنية، أما إذا قلنا: إن الإنسان هو النفس فلم لا يجوز أن يقال: النفوس مختلفة فيتفق في بعض النفوس إن كانت لذاتها قادرة على هذه الحوادث الغريبة مطلعة على الأسرار الغائبة، فهذا الاحتمال مما لم تقم دلالة على فساده سوى الوجوه المتقدمة، وقد بان بطلانها، ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه.
أولها: أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعًا على الأرض لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر على هاوية تحته، وما ذاك إلا أن تخيل السقوط متى قوي أوجبه.
وثانيها: اجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان والدوران، وما ذاك إلا أن النفوس خلقت مطيعة للأوهام.
وثالثها: حكى صاحب الشفاء عن أرسطو أن طبائع الحيوان: أن الدجاجة إذ تشبهت كثيرًا بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك، ثم قال صاحب الشفاء: وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية.
ورابعها: أجمعت الأمم على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر، فدل ذلك على أن للهمم والنفوس آثارًا وهذا الاتفاق غير مختص بمسألة معينة وحكمة مخصوصة.
وخامسها: أنك لو أنصفت لعلمت أن المبادئ القريبة للأفعال الحيوانية ليست إلا التصورات النفسانية لأن القوة المحركة المغروزة في العضلات صالحة للفعل وتركه أو ضده، ولن يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح وما ذاك إلا تصور كون الفعل جميلًا أو لذيذًا أو تصور كونه قبيحًا أو مؤلمًا فتلك التصورات هي المبادئ لصيرورة القوى العضلية مبادئ للفعل لوجود الأفعال بعد أن كانت كذلك بالقوة، وإذا كانت هذه التصورات هي المبادئ لمبادئ هذه الأفعال فأي استبعاد في كونها مبادئ لأفعال أنفسها وإلغاء الواسطة عن درجة الاعتبار.
وسادسها: التجربة والعيان شاهدان بأن هذه التصورات مبادئ قريبة لحدوث الكيفيات في الأبدان فإن الغضبان تشتد سخونة مزاجه حتى أنه يفيده سخونة قوية.
يحكى أن بعض الملوك عرض له فالج فأعيا الأطباء مزاولة علاجه، فدخل عليه بعض الحذاق منهم على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض، فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية لما ناله من شدة ذلك الكلام فزالت تلك العلة المزمنة والمرضة المهلكة.
وإذا جاز كون التصورات مبادئ لحدوث الحوادث في البدن فأي استبعاد من كونها مبادئ لحدوث الحوادث خارج البدن.
وسابعها؛ أن الإصابة بالعين أمر قد اتفق عليه العقلاء وذلك أيضًا يحقق إمكان ما قلناه.
إذا عرفت هذا فنقول: النفوس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدًا فتستغني في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات والأدوات وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات.
وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماء كانت كأنها روح من الأرواح السماوية، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم، أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف ألبتة إلا في هذه البدن، فإذا أراد هذا الإنسان صيرورتها بحيث يتعدى تأثير من بدنها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس واشتغل الحس به فيتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة عليه فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية، ولذلك أجمعت الأمم على أنه لابد لمزاولة هذه الأعمال من انقطاع المألوفات والمشتهيات وتقليل الغذاء والانقطاع عن مخالطة الخلق.
وكلما كانت هذه الأمور أتم كان ذلك التأثير أقوى، فإذا اتفق أن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر نظرًا إلى ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير، والسبب المتعين فيه أن النفس إذا أشتغلت بالجانب الأول اشغلت جميع قوتها في ذلك الفعل وإذا اشتغلت بالأفعال الكثيرة تفرقت قوتها وتوزعت على تلك الأفعال فتصل إلى كل واحد من تلك الأفعال شعبة من تلك القوة وجدول من ذلك النهر.
ولذلك نرى أن إنسانين يستويان في قوة الخاطر إذا اشتغل أحدهما بصناعة واحدة واشتغل الآخر بصناعتين.
فإن ذا الفن الواحد يكون أقوى من ذي الفنين، ومن حاول الوقوف على حقيقة مسألة من المسائل فإنه حال تفكره فيها لابد وأن يفرغ خاطره عما عداها، فإنه عند تفريغ الخاطر يتوجه الخاطر بكليته إليه فيكون الفعل أسهل وأحسن، وإذا كان كذلك فإذا كان الإنسان مشغول الهم والهمة بقضاء اللذات وتحصيل الشهوات كانت القوة النفسانية مشغولة بها مستغرقة فيها، فلا يكون انجذابها إلى تحصيل الفعل الغريب الذي يحاوله انجذابًا قويًا لاسيما وههنا آفة أخرى وهي أن مثل هذه النفس قد اعتادت الاشتغال باللذات من أول أمرها إلى آخره، ولم تشتغل قط باستحداث هذه الأفعال الغريبة، فهي بالطبع حنون إلى الأول عزوف إلى الثاني، فإذا وجدت مطلوبها من النمط الأول فأنى تلتفت إلى الجانب الآخر؟ فقد ظهر من هذا أن مزاولة هذه الأعمال لا تتأتى إلا مع التجرد عن الأحوال الجسمانية وترك مخالطة الخلق والاقبال بالكلية على عالم الصفاء والأرواح.
وأما الرقى فإن كانت معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حس البصر كما شغلناه بالأمور المناسبة، لذلك الغرض فحس السمع نشغله أيضًا بالأمور المناسبة لذلك الغرض، فإن الحواس متى تطابقت على التوجه إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه حينئذ أقوى، وأما إن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة، فإن الإنسان إذا اعتقد أن هذه الكلمات إنما تقرأ للاستعانة بشيء من الأمور الروحانية ولا يدري كيفية تلك الاستعانة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة، ويحصل للنفس في أثناء ذلك انقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل وجد عظيم، فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض، وهكذا القول في الدخن، قالوا: فقد ثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مشتغل بالتأثير، فإن انضم إليه النوع الأول من السحر وهو الاستعانة بالكواكب وتأثيراتها عظم التأثير، بل هاهنا نوعان آخران، الأول: أن النفوس التي فارقت الأبدان قد يكون فيها ما هو شديد المشابهة لهذه النفوس في قوتها وفي تأثيراتها، فإذا صارت تلك النفوس صافية لم يبعد أن ينجذب إليها ما يشابهها من النفوس المفارقة ويحصل لتلك النفوس نوع ما من التعلق بهذا البدن فتتعاضد النفوس الكثيرة على ذلك الفعل، وإذا كملت القوة وتزايدت قوى التأثير، الثاني: أن هذه النفوس الناطقة إذا صارت صافية عن الكدورات البدنية صارت قابلة للأنوار الفائضة من الأرواح السماوية والنفوس الفلكية، فتقوى هذه النفوس بأنوار تلك الأرواح، فتقوى على أمور غريبة خارقة للعادة فهذا شرح سحر أصحاب الأوهام والرقى.
النوع الثالث من السحر: الاستعانة بالأرواح الأرضية، واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة، أما أكابر الفلاسفة فإنهم ما أنكروا القول به إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة ومنها شريرة، فالخيرة هم مؤمنوا الجن والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم، ثم قال الخلف منهم: هذه الأرواح جواهر قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا حالة في المتحيز وهي قادرة عالمة مدركة للجزئيات، واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية، إلا أن القوة الحاصلة للنفوس الناطقة بسبب اتصالها بهذه الأرواح الأرضية أضعف من القوة الحاصلة إليها بسبب اتصالها بتلك الأرواح السماوية، أما أن الاتصال أسهل فلأن المناسبة بين نفوسنا وبين هذه الأرواح الأرضية أسهل، ولأن المشابهة والمشاكلة بينهما أتم وأشد من المشاكلة بين نفوسنا وبين الأرواح السماوية، وأما أن القوة بسبب الاتصال بالأرواح السماوية أقوى فلأن الأرواح السماوية هي بالنسبة إلى الأرواح الأرضية كالشمس بالنسبة إلى الشعلة، والبحر بالنسبة إلى القطرة، والسلطان بالنسبة إلى الرعية.
قالوا: وهذه الأشياء وإن لم يقم على وجودها برهان قاهر فلا أقل من الاحتمال والإمكان، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد، فهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل تسخير الجن.
النوع الرابع من السحر: التخيلات والأخذ بالعيون، وهذا الأخذ مبني على مقدمات: إحداها: أن أغلاط البصر كثيرة، فإن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركًا.
وذلك يدل على أن الساكن يرى متحركًا والمتحرك يرى ساكنًا، والقطرة النازلة ترى خطًا مستقيمًا، والذبالة التي تدار بسرعة ترى دائرة، والعنبة ترى في الماء كبيرة كالإجاصة، والشخص الصغير يرى في الضباب عظيمًا، وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها عظيمًا، فإذا فارقته وارتفعت عنه صغرت، وأما رؤية العظيم من البعيد صغيرًا فظاهر، فهذه الأشياء قد هدت العقول إلى أن القوة الباصرة قد تبصر الشيء على خلاف ما هو عليه في الجملة لبعض الأسباب العارضة، وثانيها: أن القوة الباصرة إنما تقف على المحسوسات وقوفًا تامًا إذا أدركت المحسوس في زمان له مقدار ما، فأما إذا أدركت المحسوس في زمان صغير جدًا ثم أدركت بعده محسوسًا آخر وهكذا فإنه يختلط البعض بالبعض ولا يتميز بعض المحسوسات عن البعض، وذلك فإن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوطًا كثيرة بألوان مختلفة ثم استدارات، فإن الحس يرى لونًا واحدًا كأنه مركب من كل تلك الألوان، وثالثها: أن النفس إذا كانت مشغولة بشيء، فربما حضر عند الحس شيء آخر ولا يشعر الحس به ألبتة كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان آخر ويتكلم معه، فلا يعرفه ولا يفهم كلامه، لما أن قلبه مشغول بشيء آخر، وكذا الناظر في المرآة فإنه ربما قصد أن يرى قذاة في عينه فيراها ولا يرى ما هو أكبر منها، إن كان بوجهه أثر أو بجبهته أو بسائر أعضائه التي تقابل المرآة، وربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستو أم لا فلا يرى شيئًا مما في المرآة، إذا عرفت هذه المقدمات سهل عند ذلك تصور كيفية هذا النوع من السحر، وذلك لأن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عمل شيئًا آخر عملًا بسرعة شديدة، فيبقى ذلك العمل خفيًا لتفاوت الشيئين، أحدهما: اشتغالهم بالأمر الأول، والثاني: سرعة الإتيان بهذا العمل الثاني وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدًا، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله، فهذا هو المراد من قولهم: إن المشعبذ يأخذ بالعيون لأنه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة التي يحتال فيها وكلما كان أخذه للعيون والخواطر وجذبه لها إلى سوى مقصوده أقوى كان أحذق في عمله، وكلما كانت الأحوال التي تفيد حس البصر نوعًا من أنواع الخلل أشد كان هذا العمل أحسن، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدًا، فإن البصر يفيد البصر كلالًا واختلالًا، وكذا الظلمة الشديدة وكذلك الألوان المشرقة القوية تفيد البصر كلالًا واختلالًا، والألوان المظلمة قلما تقف القوة الباصرة على أحوالها، فهذا مجامع القول في هذا النوع من السحر.
النوع الخامس من السحر: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية تارة وعلى ضروب الخيلاء أخرى، مثل: فارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر، وكفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب البوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصورونها ضاحكة وباكية، حتى يفرق فيها ضحك السرور وبين ضحك الخجل، وضحك الشامت، فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل، وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال وهو أن يجر ثقيلًا عظيمًا بآلة خفيفة سهلة، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسبابًا معلومة نفيسة من اطلع عليها قدر عليها، إلا أن الاطلاع عليها لما كان عسيرًا شديدًا لا يصل إليه إلا الفرد بعد الفرد، لا جرم عد أهل الظاهر ذلك من باب السحر.
ومن هذا الباب عمل أرجعيانوس الموسيقار في هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه وذلك أنه اتفق له أنه كان مجتازًا بفلاة من الأرض فوجد فيها فرخًا من فراخ البراصل، والبراصل هو طائر عطوف وكان يصفر صفيرًا حزينًا بخلاف سائر البراصل وكانت البراصل تجيئه بلطائف الزيتون فتطرحها عنده فيأكل بعضها عند حاجته ويفضل بعضها عن حاجته فوقف هذا الموسيقار هناك وتأمل حال ذلك الفرخ وعلم أن في صفيره المخالف لصفير البراصل ضربًا من التوجع والاستعطاف حتى رقت له الطيور وجاءته بما يأكله فتلطف بعمل آلة تشبه الصفارة إذا استقبل الريح بها أدت ذلك الصفير ولم يزل يجرب ذلك حتى وثق بها وجاءته البراصل بالزيتون كما كانت تجيء إلى ذلك الفرخ لأنها تظن أن هناك فرخًا من جنسها، فلما صح له ما أراد أظهر النسك وعمد إلى هيكل أورشليم وسأل عن الليلة التي دفن فيها أسطرخس الناسك القيم بعمارة ذلك الهيكل فأخبر أنه دفن في أول ليلة من آب فاتخذ صورة من زجاج مجوف على هيئة البرصلة ونصبها فوق ذلك الهيكل، وجعل فوق تلك الصورة قبة وأمرهم بفتحها في أول آب وكان يظهر صوت البرصلة بسبب نفوذ الريح في تلك الصورة وكانت البراصل تجيء بالزيتون حتى كانت تمتلئ تلك القبة كل يوم من ذلك الزيتون والناس اعتقدوا أنه من كرامات ذلك المدفون ويدخل في الباب أنواع كثيرة لا يليق شرحها في هذا الموضع.
النوع السادس من السحر: الاستعانة بخواص الأدوية مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية البلدة المزيلة للعقل والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله الإنسان تبلد عقله وقلت فطنته.
واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن أثر المغناطيس مشاهد إلا أن الناس قد أكثروا فيه وخلطوا الصدق بالكذب والباطل بالحق.
النوع السابع من السحر: تعليق القلب وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه، بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة، وإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل حينئذ ما يشاء وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثرًا عظيمًا في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار.
النوع الثامن من السحر: السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس، فهذا جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه والله أعلم.
المسألة الرابعة: أقوال المسلمين في أنواع السحر:
في أقوال المسلمين في أن هذه الأنواع هل هي ممكنة أم لا؟ أما المعتزلة فقد اتفقوا على إنكارها إلا النوع المنسوب إلى التخيل والمنسوب إلى إطعام بعض الأدوية المبلدة والمنسوب إلى التضريب والنميمة، فأما الأقسام الخمسة الأول فقد أنكروها ولعلهم كفروا من قال بها وجوزوا وجودها، وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حمارًا والحمار إنسانًا، إلا أنهم قالوا: إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر رقى مخصوصة وكلمات معينة.
فأما أن يكون المؤثر في ذلك الفلك والنجوم فلا.
وأما الفلاسفة والمنجمون والصابئة فقولهم على ما سلف تقريره، واحتج أصحابنا على فساد قول الصابئة إنه قد ثبت أن العالم محدث فوجب أن يكون موجده قادرًا والشيء الذي حكم العقل بأنه مقدور إنما يصح أن يكون مقدورًا لكونه ممكنًا والإمكان قدر مشترك بين كل الممكنات، فإذن كل الممكنات مقدور لله تعالى ولو وجد شيء من تلك المقدورات بسبب آخر يلزم أن يكون ذلك السبب مزيلًا لتعلق قدرة الله تعالى بذلك المقدور فيكون الحادث سببًا لعجز الله وهو محال، فثبت أنه يستحيل وقوع شيء من الممكنات إلا بقدرة الله وعنده يبطل كل ما قاله الصابئة، قالوا: إذا ثبت هذا فندعي أنه يمتنع وقوع هذه الخوارق بإجراء العادة عند سحر السحرة فقد احتجوا على وقوع هذا النوع من السحر بالقرآن والخبر.
أما القرآن فقوله تعالى في هذه الآية: {وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}، والاستثناء يدل على حصول الآثار بسببه، وأما الأخبار فهي واردة عنه صلى الله عليه وسلم متواترة وآحادًا، أحدها ما روي أنه عليه السلام سحر، وأن السحر عمل فيه حتى قال: «إنه ليخيل إلى أني أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله» وأن امرأة يهودية سحرته وجعلت ذلك السحر تحت راعوفة البئر، فلما استخرج ذلك زال عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العارض وأنزل المعوذتان بسببه، وثانيها: أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها فقالت لها: إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت: وما سحرك؟ فقالت: صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا: لي يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت، فقالا لي: اذهبي فبولي على ذلك الرماد، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعل وجئت إليهما فقلت: قد فعلت، فقالا لي: ما رأيت لما فعلت؟ فقلت ما رأيت شيئًا، فقالا لي: أنت على رأس أمر فاتقي الله ولا تفعلي، فأبيت فقالا لي: اذهبي فافعلي، فذهبت ففعلت، فرأيت كأن فارسًا مقنعًا بالحديد قد خرج من فرجي فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا: إيمانك قد خرج عنك وقد أحسنت السحر، فقلت: وما هو؟ قالا: ما تريدين شيئًا فتصوريه في وهمك، إلا كان فصورت في نفسي حبًا من حنطة، فإذا أنا بحب، فقلت: أنزرع فانزرع فخرج من ساعته سنبلًا فقلت: انطحن فانطحن من ساعته، فقلت: أنخبز فانخبز وأنا لا أريد شيئًا أصوره في نفسي إلا حصل، فقالت عائشة: ليس لك توبة، وثالثها: ما يذكرونه من الحكايات الكثيرة في هذا الباب وهي مشهورة.
أما المعتزلة فقد احتجوا على إنكاره بوجوه، أحدها: قوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} [طه: 69]، وثانيها: قوله تعالى في وصف محمد صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} [الفرقان: 8] ولو صار عليه السلام مسحورًا لما استحقوا الذم بسبب هذا القول، وثالثها: أنه لو جاز ذلك من السحر فكيف يتميز المعجز عن السحر ثم قالوا: هذه الدلائل يقينية والأخبار التي ذكرتموها من باب الآحاد فلا تصلح معارضة لهذه الدلائل.
المسألة الخامسة: العلم بالسحر:
في أن العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور: اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف وأيضًا لعموم قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز، والعلم بكون المعجز معجزًا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبًا وما يكون واجبًا كيف يكون حرامًا وقبيحًا.
المسألة السادسة: حكم الساحر:
في أن الساحر قد يكفر أم لا، اختلف الفقهاء في أن الساحر هل يكفر أم لا؟ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقهما بقول فقد كفر بما أنزل على محمد» عليه السلام واعلم أنه لا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور، فإنه يكون كافرًا على الإطلاق وهذا هو النوع الأول من السحر.
أما النوع الثاني: وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل، فالأظهر إجماع الأمة أيضًا على تكفيره.
أما النوع الثالث: وهو أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل فههنا المعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل، وهذا ركيك من القول.
فإن لقائل أن يقول إن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذبًا في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار هذه الأشياء على يده لئلا يحصل التلبيس، أما إذا لم يدع النبوة وأظهر هذه الأشياء على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة.
وأما سائر الأنواع التي عددناها من السحر فلا شك أنه ليس بكفر.
فإن قيل: إن اليهود لما أضافوا السحر إلى سليمان قال الله تعالى تنزيهًا له عنه: {وَمَا كَفَرَ سليمان} وهذا يدل على أن السحر كفر على الإطلاق وأيضًا قال: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ الناس السحر} وهذا أيضًا يقتضي أن يكون السحر على الإطلاق كفرًا.
وحكي عن الملكين أنهما لا يعلمان أحدًا السحر حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر وهو يدل على أن السحر كفر على الإطلاق، قلنا: حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة فتحملها على سحر من يعتقد إلهية النجوم.