فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء}.
قيل: مثل بمعنى صفة أي: صفة السوء، وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث، ووأدهن خشية الإملاق وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ.
ولله المثل الأعلى أي: الصفة العليا، وهي الغنى عن العالمين، والنزاهة عن سمات المحدثين.
وقيل: مثل السوء هو وصفهم الله تعالى بأن له البنات، وسماه مثل السوء لنسبتهم الولد إلى الله، وخصوصًا على طريق الأنوثة التي هم يستنكفون منها.
وقال ابن عباس: مثل السوء النار.
وقال ابن عطية: قالت فرقة مثل بمعنى صفة أي: لهؤلاء صفة السوء، ولله الوصف الأعلى، وهذا لا نضطرّ إليه لأنه خروج عن اللفظ، بل قوله: مثل، على بابه وذلك أنهم إذا قالوا: أن البنات لله فقد جعلوا لله مثلًا، فالبنات من البشر وكثرة البنات مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء.
والذي أخبر الله تعالى أنهم لهم وليس في البنات فقط، بل لما جعلوه هم البنات جعله هو هلم على الإطلاق في كل سوء، ولا غاية أبعد من عذاب النار.
وقوله: {ولله المثل الأعلى} على الإطلاق أي: الكمال المستغنى.
وقال قتادة: المثل الأعلى لا إله إلا الله انتهى، وقول قتادة مروي عن ابن عباس.
ولما تقدم قوله: {ويجعلون لله البنات} الآية تقدم ما نسبوا إلى الله، وأتى ثانيًا ما كان منسوبًا لأنفسهم، وبدأ هنا بقوله: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} وأتى بعد ذلك بما يقابل قوله: سبحانه وتعالى من التنزيه وهو قوله: {ولله المثل الأعلى} وهو الوصف المنزه عن سمات الحدوث والتوالد، وهو الوصف الأعلى الذي ليس يشركه فيه غيره، وناسب الختم بالعزيز وهو الذي لا يوجد نظيره، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
لما حكى الله تعالى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر ونسبة التولد له، بيَّن تعالى أنه يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهارًا لفضله ورحمته.
ويؤاخذ: مضارع آخذ، والظاهر أنه بمعنى المجرد الذي هو أخذه.
وقال ابن عطية: كان أحد المؤاخذين يأخذ من الآخر، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى، أو بإذاية في جهة المخلوقين، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء انتهى.
والظاهر: عموم الناس.
وقيل: أهل مكة، والباء في بظلمهم للسبب.
وظلمهم كفرهم ومعاصيهم.
والضمير في عليها عائد على غير مذكور، ودل على أنه الأرض قوله: {من دابة} لأن الدبيب من الناس لا يكون إلا في الأرض، فهو كقوله: {فأثرن به نقعًا} أي بالمكان لأن {والعاديات} معلوم أنها لا تعدو إلا في مكان، وكذلك الإثارة والنقع.
والظاهر عموم من دابة فيهلك الصالح بالطالح، فكان يهلك جميع ما يدب على الأرض حتى الجعلان في جحرها قاله: ابن مسعود.
قال قتادة: وقد فعل تعالى في زمن نوح عليه السلام.
وقال السدي ومقاتل: إذا قحط المطر لم تبق دابة إلا هلكت.
وسمع أبو هريرة رجلًا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بلى والله حتى أن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.
وهذا نظير: {واتقوا فتنة} الآية والحديث {أنهلك وفينا الصالحون} وقال ابن السائب، واختاره الزجاج: من دابة من الإنس والجن.
وقال ابن جريج: من الناس خاصة.
وقالت فرقة منهم ابن عباس: من دابة من مشرك يدب عليها، ولكن يؤخرهم إلى أجل الآية، تقدّم تفسير ما يشبهه في الأعراف.
وما في ما يكرهون لمن يعقل، أريد بها النوع كقوله: {فانكحوا ما طاب لكم} ومعنى: ويجعلون، يصفونه بذلك ويحكمون به.
وقال الزمخشري: ما يكرهون لأنفسهم من البنات، ومن شركاء في رئاستهم، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم، ويجعلون له أرذل أموالهم، ولأصنامهم أكرمها، وتصف ألسنتهم مع ذلك أنّ لهم الحسنى عند الله كقوله: {ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} انتهى.
وقال مجاهد: الحسنى قول قريش لنا البنون، يعني قالوا: لله البنات ولنا البنون.
وقيل: الحسنى الجنة، ويؤيده: لا جرم أن لهم النار، والمعنى على هذا: يجعلون لله المكروه، ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة كما تقول: أنت تعصي الله وتقول مع ذلك: أنك تنجو، أي هذا بعيد مع هذا.
وهذا القول لا يتأتى إلا ممن يقول بالبعث، وكان فيهم من يقول به.
أو على تقدير أنْ كان ما يقول من البعث صحيحًا، وأنّ لهم الحسنى بدل من الكذب، أو على إسقاط الحرف أي: بأن لهم.
وقرأ الحسن ومجاهد باختلاف ألسنتهم: بإسكان التاء، وهي لغة تميم جمع لسانًا المذكر نحو: حمار وأحمرة، وفي التأنيث: ألسن كذراع وأذرع.
وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام: {الكذب} بضم الكاف والذال والباء صفة للألسن، جمع كذوب كصبور وصبر، وهو مقيس، أو جمع كاذب كشارف وشرف ولا ينقاس، وعلى هذه القراءة أنّ لهم مفعول تصف، وتقدم الكلام في لا جرم أن.
وقرأ الحسن وعيسى بن عمران: لهم بكسر الهمزة، وأن جواب قسم أغنت عنه لا جرم.
وقرأ ابن عباس، وابن مسعود وأبو رجاء، وشيبة، ونافع، وأكثر أهل المدينة: {مفرطون} بكسر الراء من أفرط حقيقة أي: متجاوزون الحد في معاصي الله.
وباقي السبعة، والحسن، والأعرج، وأصحاب ابن عباس، ونافع في رواية، بفتح الراء من أفرطته إلى كذا قدمته، معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه.
قال القطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا ** كما تعجل فراط لوراد

ومنه {أنا فرطكم على الحوض} أي متقدمكم.
وقال ابن جبير، ومجاهد، وابن أبي هند: مفرطون مخلفون متروكون في النار من أفرطت فلانًا خلفى إذا خلفته ونسيته.
قال أبو البقاء: تقول العرب أفرطت منهم ناسًا أي خلفتهم ونسيتهم.
وقرأ أبو جعفر: {مفرطون} مشددًا من فرط أي: مقصرون مضيعون.
وعنه أيضًا: فتح الراء وشدها أي، مقدمون من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى: تقدم.
ثم أخبر تعالى بإرسال الرسل إلى أمم من قبل أممك، مقسمًا على ذلك ومؤكدًا بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز، فزين لهم الشيطان أعمالهم من تماديهم على الكفر، فهو وليهم اليوم حكاية حال ماضية أي: لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة.
وأل في اليوم للعهد، وهو اليوم المشهود، فهو وليهم في ذلك اليوم أي: قرينهم وبئس القرين.
والظاهر عود الضمير في وليهم إلى أمم.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم.
ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي: فهو ولي أمثالهم اليوم انتهى.
وهذا فيه بعد، لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولا إلى حذف المضاف. اهـ.

.قال أبو السعود:

{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة}.
ممن ذكرت قبائحُهم {مَثَلُ السوء} صفةُ السَّوْء الذي هو كالمثَل في القبح وهي الحاجةُ إلى الولد ليقوم مقامَه عند موتهم، وإيثارُ الذكور للاستظهار بهم ووأدُ البنات لدفع العار، وخشيةُ الإملاق المنادي كلَّ ذلك بالعجز والقصورِ والشحِّ البالغ، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للإشعار بأن مدارَ اتصافِهم بتلك القبائح هو الكفرُ بالآخرة {وَللَّهِ} سبحانه وتعالى: {المثل الاعلى} أي الصفةُ العجيبةُ الشأنِ التي هي مثلٌ في العلو مطلقًا، وهو الوجوبُ الذاتيُّ والغِنى المطلقُ والجودُ الواسعُ والنزاهةُ عن صفات المخلوقين، ويدخل فيه علوُّه تعالى عما قالوه علوًا كبيرًا {وَهُوَ العزيز} المنفردُ بكمال القدرة لاسيما على مؤاخذتهم بذنوبهم {الحكيم} الذي يفعل كلَّ ما يفعل بمقتضى الحكمةِ البالغةِ وهذا أيضًا من جملة صفاتِه العجيبة تعالى.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس} الكفارَ {بِظُلْمِهِمْ} بكفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما عُدّد من قبائحهم، وهذا تصريحٌ بما أفاده قوله تعالى: {وَهُوَ العزيز الحكيم} وإيذانٌ بأن ما أتَوْه من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غايةَ وراءه {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} على الأرض المدلولِ عليها بالناس وبقوله تعالى: {مِن دَابَّةٍ} أي ما ترك عليها شيئًا من دابة قطُّ بل أهلكها بالمرة بشؤم ظلمِ الظالمين كقوله تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقول: إن الظالم لا يضُرُّ إلا نفسَه فقال: «بلى والله حتى إن الحُبارَى لتموت في وَكرها بظلم الظالم»، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «كاد الجُعَلُ يهلِك في جُحره بذنب ابن آدمَ أو من دابة ظالمة» وقيل: لم أَهْلك الآباء لم يكن الأبناء، فيلزم أن لا يكون في الأرض دابةٌ لِما أنها مخلوقةٌ لمنافعِ البشر لقوله سبحانه: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} {ولكن} لا يؤاخذهم بذلك بل {يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا ويكثُرَ عذابُهم {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} المسمّى {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجلِ أي لا يتأخرون، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له {سَاعَةِ} فذّةً، وهي مثَلٌ في قلة المدة {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يتقدمون، وإنما تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدامُ عند مجيء الأجلِ مبالغةً في بيان عدمِ الاستئخارِ بنظمه في سلك ما يمتنع، كما في قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} فإن من مات كافرًا مع أنه لا توبةَ له رأسًا قد نُظم في سِمْطِ من لم تُقبل توبته للإيذان بأنهما سيان في ذلك وقد مر في تفسير سورة يونس.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ} أي يُثْبتون له سبحانه وينسُبون إليه في زعمهم {مَا يَكْرَهُونَ} لأنفسهم مما ذكر، وهو تكريرٌ لما سبق، تثنيةً للتقريع وتوطئةً لقوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} أي يجعلون له تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} العاقبةَ الحسنى عند الله تعالى كقوله: {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} وقرئ {الكُذُبُ} وهو جمع الكَذوب على أنه صفةُ الألسنة {لاَ جَرَمَ} رد لكلامهم ذلك وإثباتٌ لنقيضه أي حقًا {أَنَّ لَهُمْ} مكان ما أمّلوا من الحسنى {النار} التي ليس وراء عذابها عذابٌ وهي عَلَمٌ في السُّوآى {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} أي مقدَّمون إليها من أفرطتُه أي قدّمتُه في طلب الماء، وقيل: مَنْسيّون من أفرطتُ فلانًا خلفي إذا خلّفتُه ونسِيتُه، وقرئ بالتشديد وفتح الراء من فرَّطتُه في طلب الماء، وبكسر الراء المشددة من التفريط في الطاعات، وبكسر المخففة من الإفراط في المعاصي فلا يكونانِ حينئذ من أحوالهم الأخروية كما عطف عليه.
{تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ}.
تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يناله من جهالات الكفرةِ ووعيدٌ لهم على ذلك، أي أرسلنا إليهم رسلًا فدعَوْهم إلى الحق فلم يجيبوا إلى ذلك {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ} القبيحةَ فعكفوا عليها مُصِرّين {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ} أي قرينُهم وبئس القرينُ {اليوم} أي يوم زين لهم الشيطانُ أعمالهم فيه على طريق حكايةِ الحال الآتية وهي حالُ كونهم معذبين في النار، والوليُّ بمعنى الناصر أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصرَ لهم غيرُه مبالغةً في نفي الناصرِ عنهم، ويجوز أن يكون الضميرُ عائدًا إلى مشركي قريش والمعنى زيّن للأمم السالفة أعمالَهم فهو وليُّ هؤلاء لأنهم منهم وأن يكون على حذف المضافِ أي وليُّ أمثالهم {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} هو عذابُ النار. اهـ.