فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقد أنكر الساعة.
الكذبة الثالثة: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36].
وهذا هو الشاهد في الآية هنا، ففيها اغترار وتمنٍّ على الله دون حقٍّ، كمن ادعوْا أن لهم الحسنى، وهم ليسوا أهلًا لها.
وفي موضع آخر تأتي نفس المقولة: {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَاء الخير وَإِن مَّسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَمَا أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 49-50].
وهكذا الإنسان في طَبْعه أنه لا يسأم من طلب الخير، وكلما وصل فيه إلى مرتبة تمنّى أعلى منها، يقنط إنْ مسَّه شر، وإنْ رفع الله عنه ورحمه قال: هذا لي.. أنا استحقه، وأنا جدير به.. ألاَ قلتَ: هذا فضل من الله ونعمة، ثم بعد ذلك هو يتمنى على الله الأماني ويقول: {إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50].
ويُروى أن سيدنا داود عليه السلام مع ما أعطاه الله من الملْك والعظمة أنه صعد يومًا سطح منزله، فابتلاه الله بسِرْب من الجراد الذهب، فحينما رآه داود جعل يجمع منه في ثوبه، فقال له ربه: ألم أُغْنِك يا داود؟ قال: نعم ولكن لا غِنَى لي عن فضلك.
وقوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62].
لا جرم: أي حقًا أن لهم النار على ما تقدم منهم أن جعلوا لله ما يكرهون، وتصف ألسنتهم الكذب، وهذه أفعال يستحقون النار عليها.
وكلمة {لاَ جَرَمَ} منها جارم بمعنى مجرم، فالمعنى: لا جريمة في عقاب هؤلاء، لأنه لا يُقال على عقوبة الجريمة أنها جريمة.. إذن: لها معنيان، لابد أن لهم النار، أو لا جريمة في أن لهم النار جزاء أعمالهم.
{وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} [النحل: 62].
جاءت في كلمة مُفْرطون عدة قراءات: مفرَطون، مفرِطون، مفرِّطون، مفرَّطون، وجمعيها تلتقي في المعنى.
نحن حينما نصلي على جنازة مثلًا، إذا كان الميت مكلّفًا نقول في الدعاء له: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.. اللهم إنْ كان مُحسنًا فزِدْ في إحسانه، وإنْ كان مُسِيئًا فتجاوز عن سيئاته. فإنْ كان صغيرًا غير مُكلَّف قُلْنا في الدعاء له: اللهم اجعله فرَطًا وذخرًا. فما معنى فرَطًا هنا؟
معناه: أن يكون الطفل فَرَطًا لأبويه ومُقدّمة لهما إلى الجنة.. يمرُّ بين يديْ والديْه ويسبقهما إلى الجنة، وكأنه يقدم عليهما لِيُمهد لهما الطريق ليغفر الله لهما.. إذن: معنى مُفْرطون أي مُقدِّمون، ولكن إلى النار.
ومنه قوله تعالى: عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} [هود: 98].
أي: يتقدمهم إلى النار.. كما كنتَ مُقدّمًا عليهم، وإمامًا لهم في الدنيا، فسوف تتقدمهم هنا وتسبقهم إلى النار.
{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}.
نعلم أن الحق سبحانه وتعالى يُقسِم بما يشاء على ما يشاء، أما نحن فلا نقسم إلا بالله، وفي الحديث الشريف: «مَنْ كان حالفًا، فليحلف بالله أو ليصمت».
والحق تبارك وتعالى هنا يحلف بذاته سبحانه: {تالله}، مثل: والله وبالله.
وقد جاء القسم لتأكيد المعنى؛ ولذلك يقول أحد الصالحين: من أغضب الكريم حتى ألجأه أن يقسم؟!
وقد يؤكد الحق سبحانه القسم بذاته، أو القسم ببعض خَلْقه، وقد ينفي القسم وهو يُقسِم، كما في قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1].
وقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75-76].
ومعنى: لا أقسم أن هذا الأمر واضح جَليّ وضوحًا لا يحتاج إلى القسم، ولو كنت مُقسِمًا لأقسمتُ به، بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76].
إذن: الحق سبحانه يُقسِم بذاته ليؤكد لنا الأمر تأكيدًا، وتأكيد الأمر عند الحكم في القضاء مَثلًا: إما بالإقرار، وإما باليمين.. فإذا ما أقسمت له وحلفتَ فقد سددْتَ عليه منافذ التكذيب.
والحق سبحانه يقول: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} [النحل: 63].
أي: لسْتَ بِدْعًا في أنْ تُكذَّب من قومك، فهذه طبيعة الذين يستقبلون الدعوة من الله على ألسنة الرسل؛ لأن الرسل لا يرسلهم الله إلا حينما يطمّ الفساد ويعُم.
ومعنى إرسال الرسل إذن أنه لا حَلَّ إلا أنْ تتدخلَ السماء؛ ذلك لأن الإنسان فيه مناعات يقينية في ذاته، وهي نفسه اللوامة التي تلومه إذا أخطأ وتُعدِّل من سلوكه، فهي رادع له من نفسه.
فإذا ما تبلَّدتْ هذه النفس، وتعوَّدتْ على الخطأ قام المجتمع من حولها بهذه المهمة، فمَنْ لا تُردِعه نفسه اللوامة يُردعه المجتمع من حوله.. فإذا ما فسدَ المجتمع أيضًا، فماذا يكون الحل؟ الحل أن تتدخل السماء لإنقاذ هؤلاء.
إذن: تتدخل السماء بإرسال الرسل حينما يعُمّ الفسادُ المجتمعَ كله؛ ولذلك فأمة محمد صلى الله عليه وسلم من شرفها عند ربها أنْ قال لهم: أنتم مأمونون على رعاية منهجي في ذواتكم، لوَّامون لأنفسكم، آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر في غيركم؛ لذلك لن أرسل فيكم رسولًا آخر، فأنتم سوف تقومون بهذه المهمة.
لذلك قال الحق سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110].
فقد آمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أن تكون حارسة لمنهجه، إما بالنفس اللوامة، وإما بالمجتمع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، وهذا شرف عظيم لهذه الأمة.
إذن: يأتي الرسول حينما يعُمُّ الفساد.. فما معنى الفساد؟.. الفساد: أن تُوجد مصالح طائفة على حساب طائفة أخرى، فأهل الفساد والمنتفعون به إذا جاءهم رسول ليُخلِّص الناس من فسادهم، كيف يقابلونه؟ أيقابلونه بالترحاب؟ بالطبع لا.
. لابد وأن يقابلوه بالكراهية والإنكار، ويعلنوا عليه الحرب دفاعًا عن مصالحهم.
ويُتبع الحق سبحانه هذا بقوله: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} [النحل: 63].
هنا يتدخل الشيطان، ويُزيّن لأهل الفساد أعمالهم، ويحثّهم على محاربة الرسل؛ فهؤلاء الذين سيقضون على نفوذكم، سوف يأخذون ما في أيديكم من مُتَع الدنيا، سوف يهزُّون مراكزكم، ويحطُّون من مكانتكم بين الناس.. هؤلاء سوف يرفعون عليكم السِّفْلة والعبيد..
وهكذا يتمسَّك أهل الفساد والظلم بظلمهم، ويعضون عليه بالنواجذ، ويقفون من الرسل موقف العداء، فوطِّنْ نفسك على هذا، فلن تُقابلَ من السادة إلا بالجحود وبالإنكار وبالمحاربة.
ثم يقول تعالى: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم} [النحل: 63].
أي: في الآخرة، فما دام الشيطان تولاَّهم في الدنيا، وزيَّن لهم، وأغراهم بعداء الرسل، فَلْيتولَّهم الآن، وليدافع عنهم يوم القيامة.، وقد عرض لنا القرآن الكريم هذا الموقف في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [الحشر: 16].
وفي جدالهم يوم القيامة مع الشيطان يقولون له: أنت أغويتَنا وزيَّنْتَ لنا.. ماذا يقول؟ يقول: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22].
والسلطان هنا: إمّا بالحجة التي تُقنع، وإما بالقهر والغلبة والقوة التي تفرض ما تريد، وليس للشيطان شيء من ذلك.. لا يملك حُجة يُقنعك بها لتفعل، ولا يملك قوة يُجبرك بها أنْ تفعل وأنت كاره.
وهكذا يجادلهم الشيطان ويردُّ عليهم دعواهم، فليس له عليكم سلطان، بل مجرد الإشارة أوقعتْكم في المعصية.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إني أَخَافُ الله} [الأنفال: 48].
وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 63].
يَصف العذاب هنا بأنه أليم شديد مُهلِك، وقد وصف الله العذاب بأنه أليم، عظيم، مُهين، شديد.، والعذاب شعور بالألم وإحساسٌ به، وقد توصَّل العلماء إلى أن الإحساس كله في الجلد؛ لذلك قال الحق سبحانه لِيُديمَ على هؤلاء العذاب: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56].
وهكذا يستمر العذاب باستمرار الجلود وتبديلها. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ}.
التفسير:
الشبهة الخامسة: أن قريشًا كانوا يقولون الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله بشرًا فأجاب سبحانه بقوله: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا} والمراد أن هذه عادة مستمرة من أوّل زمان الخلق والتكليف، وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة. قال القاضي: ولعله أراد الملك الذي يرسل إلى الأنبياء بحضرة أممهم كما روي أن جبرائيل عليه السلام كان يأتي في صورة دحية وفي صورة سراقة، وإنما قيدنا بحضرة الأمم لأن الملائكة قد يبعثون على صورتهم الأصلية عند إبلاغ الرسالة من الله إلى نبيه كما روي أنه صلى الله عليه وسلم رآى جبرائيل على صورته التي هو عليها مرتين، وعليه تأوّلوا قوله: {ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 13]. ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله- أعني قريشًا- بأن يرجعوا إليهم في هذه المسألة ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها وذلك قوله: {فاسئلوا أهل الذكر} قال بعض الأصولين: فيه دليل على أنه يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر فيما يشتبه عليه، واحتج نفاة القياس بالآية قالوا: لو كان حجة لما وجب على المكلف السؤال بل كان عليه أن يستنبط ذلك الحكم بواسطة القياس، وأجيب بأنه قد ثبت العمل بالقياس لإجماع الصحابة، والإجماع أقوى من ظاهر النص. أما قوله: {بالبينات} ففي متعلقه وجوه منها: أن يتعلق ب {أرسلنا} داخلًا تحت حكم الاستثناء مع {رجالًا} وأنكر الفراء ذلك قال: إن صلة ما قبل {إلا} لا تتأخر على ما بعد {إلا} لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته كما لو قيل: ما أرسلنا بالبينات إلا رجالًا.
ولما لم يصر هذا المجموع مذكورًا بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه، ومنها أن يتعلق ب {رجالًا} صفة له أي رجالًا متلبسين بالبينات، ومنها أن يتعلق ب {أرسلنا} مضمرًا نظيره ما مر إلا أخوك، ثم تقول: مرَّ بزيد قاله الفراء، ومنها أن يتعلق ب {بيوحى} أي يوحى إليهم بالبينات، ومنها أن يتعلق بالذكر بناء على أنه بمعنى العلم، ومنها أن يتعلق ب {لا تعلمون} أي إن كنتم لا تعلمون بالبينات وبالزبر فاسألوا، وقال في الكشاف: الشرط هاهنا في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقي. قلت: أراد أن عدم علمهم مقرر كما أن عمل الأجير ثابت، وسلم جار الله أن مثل قوله: {فاسألوا} جواب الشرط على هذا الوجه، وأما على الوجوه المتقدمة فجزم أنه اعتراض بناء على أن جواب الشرط هو ما دل عليه قوله: {وما أرسلنا} إلخ.، وعندي أن هذا الجزم ليس بحتم ويجوز على كل الوجوه أن يكون مثل {فاسألوا} جوابًا والله أعلم، وأهل الذكر أهل التوراة. كقوله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} [الأنبياء: 105]. يعني التوراة، وقال الزجاج: سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق، وقوله: {بالبينات والزبر} لفظ جامع لكل ما تتكامل به الرسالة لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات، وعلى التكاليف التي تعتبر في باب العبادة وهي للزبر. ثم قال: {وأنزلنا إليك الذكر} أي القرآن الذي هو موعظة وتنبيه وتذكير لأهل الغفلة والنسيان، وبيّن الغاية المترتبة على الإنزال وهي تبيين الأحكام والشرائع بالنسبة إلى الرسول وإرادة التأمل والتفكر في المبدإ والمعاد بالإضافة إلى المكلفين، وفي ظاهر هذا النص دلالة على أن القرآن كله مجمل، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنه متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والخبر مبين له، وأجيب بمنع الكلية فمن القرآن ما هو محكم، وقوله: {لتبين} محمول على المتشابهات المجملات. قال بعض من نفى القياس: لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول أن يبين للمكلفين ما أنزل الله عليه من الأحكام بل كان له أن يفوض بعضها إلى رأي القائس، وأجيب بأنه لما بيّن أن القياس من جملة الحجج فالقياس أيضًا راجع إلى بيان الرسول.
ثم لما ذكر شبهات المنكرين مع أجوبتها شرع في التهديد والوعيد والإنذار والتنبيه فقال: {أفأمن الذين مكروا السيئات} أي المكرات السيئات أراد أهل مكة ومن حول المدينة. قال الكلبي: عنى بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله، والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على سبيل الخفية {أن يخسف الله بهم الأرض} كما خسف بقارون {أو يأتيهم العذاب} أو ملائكة العذاب من السماء {من حيث لا يشعرون} كما فعل بقوم لوط {أو يأخذهم في تقلبهم فيما هم بمعجزين} فائتين الله، وذكر المفسرون في هذا التقلب وجوهًا منها: أنه تعالى يأخذهم في أسفارهم ومتاجرهم فإنه قادر على أن يهلكهم في السفر كما أنه قادر على أن يهلكهم في الحضر وهم لا يفوتون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة.
ومنها أنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم، وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم، ومنها أنه أراد في حال ما يتقلبون في قضاء أوطارهم بوجوه الحيل فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم، والتقلب بالمعنى الأوّل مأخوذ من قوله: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد} [آل عمران: 196]، وبالمعنى الثالث من قرأ: {وقلبوا لك الأمور} [التوبة 48] {أو يأخذهم على تخوف} على حالة تخوفهم وتوقعهم للبلاء بأن يكون قد أهلك قومًا قبلهم فكان أثر الخوف باقيًا فيهم ظاهرًا عليهم فهو خلاف قوله: {من حيث لا يشعرون} وقيل: التخوف التنقص والمعنى أنه يأخذهم بطريق النقص شيئًا بعد شيء في ديارهم وأموالهم وأنفسهم حتى يأتي الفناء على الكل. عن عمر أنه قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا: فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص فقال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم قال شاعرنا زهير:
تخوّف الرحل منها تامكًا قردًا ** كما تخوف عود النبعة السفن

قوله تامكا قردًا أي سنامًا مرتفعًا متراكمًا، والسفن ما ينحت به الشيء ومنه السفينة لأنها تسفن وجه الماء بالمر في البحر. فقال عمر: أيها الناس عليكم بديوانكم. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم. ثم ختم الآية بقوله: {فإن ربكم لرءُوف رحيم} فذهب المفسرون إلى أن معناه أنه يمهل في أكثر الأمر لأنه رءُوف رحيم فلا يعجل بالعذاب، وأقول: يحتمل أن يكون قوله: {فإن} تعليلًا لقوله: {أفأمن} كقوله: {ما غرك بربك الكريم} [الانفطار: 6].
ولما خوف الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وسكانهما فقال: {أو لم يروا إلى ما خلق الله} قال جار الله: {ما} مبهمة بيانه {من شيء} وقال أهل المعاني: قوله: {يتفيؤ ظلاله} إخبار عن شيء وليس بوصف له، ويتفيأ يتفعل من الفيء وأصله الرجوع ومنه فيئة المولى، وقال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار. فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشيّ، وما انصرف عنه الشمس والقمر والذي يكون بالغداة ظل.