فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)}.
لما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له، خاضعة لجلاله، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} فنهى سبحانه عن اتخاذ إلهين، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد وهو الله سبحانه.
وقد قيل: إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية، والإفراد في إله قد دلّ على الوحدة، فما وجه وصف إلهين باثنين، ووصف إله واحد؟ فقيل في الجواب: إن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين إنما هو واحد إله، وقيل: إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك.
وقيل: إن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدّد لا إلى الجنسية، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها، وإنما خلاف المشركين في الواحدية.
ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب، فقال: {فإياي فارهبون} أي: إن كنتم راهبين شيئًا، فإياي فارهبون لا غيري.
وقد مرّ مثل هذا في أول البقرة.
ثم لما قرّر سبحانه وحدانيته، وأنه الذي يجب أن يخصّ بالرهبة منه والرغبة إليه، ذكر أن الكلّ في ملكه وتحت تصرّفه فقال: {وَلَهُ مَا في السموات والأرض} وهذه الجملة مقررة لمن تقدّم في قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} إلى آخره، وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} أي: ثابتًا واجبًا دائمًا لا يزول، والدين هو الطاعة والإخلاص.
قال الفراء {وَاصِبًا} معناه دائمًا، ومنه قول الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ** بذمّ يكون الدهر أجمع واصبا

أي: دائمًا.
وروي عن الفراء أيضًا أنه قال: الواصب: الخالص، والأوّل أولى، ومنه قوله سبحانه: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9]. أي دائم.
وقال الزجاج: أي طاعته واجبة أبدًا.
ففسر الواصب بالواجب.
وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب: أي ليس أحد يطاع إلاّ انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى، فإن الطاعة تدوم له.
ففسر الواصب بالدائم.
وإذا دام الشيء دوامًا لا ينقطع فقد وجب وثبت.
يقال: وصب الشيء يصب وصوبًا، فهو واصب: إذا دام، ووصب الرجل على الأمر: إذا واظب عليه.
وقيل: الوصب التعب والإعياء، أي: يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية، والاستفهام في قوله: {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} للتقريع والتوبيخ، وهو معطوف على مقدّر، كما في نظائره.
والمعنى: إذا كان الدين: أي الطاعة واجبًا له دائمًا لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره.
ثم امتنّ سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره، فقال: {وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ} أي: ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله، أي: فهي منه، فتكون ما شرطية، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط، و{بكم} صلتها، و{من نعمة} حال من الضمير في الجار والمجرور، أو بيان ل {ما}.
وقوله: {فَمِنَ الله} إلخ.بر، وعلى كون {ما} شرطية يكون فعل الشرط محذوفًا، أي: ما يكن، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته، ومعرفة الخير لأجل العمل به.
وإما دنيوية نفسانية، أو بدنية، أو خارجية، كالسعادات المالية وغيرها، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها، والكل من الله سبحانه، فعلى العاقل أن لا يشكر إلاّ إياه، ثم بين تلوّن الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} أي: إذا مسكم الضرّ أيّ مس، فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرّعون في كشفه، فلا كاشف له إلاّ هو.
يقال: جأر يجأر في لسان العرب جؤارًا: إذا رفع صوته في تضرع.
قال الأعشى يصف بقرة:
فطافت ثلاثًا بين يوم وليلة ** وكان النكير أن تطيف وتجأرا

والضرّ: المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي: إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضرّ {إذا فريق} أي: جماعة منكم بربهم الذي رفع الضر عنهم يشركون، فيجعلون معه إلهًا آخر من صنم أو نحوه، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء، حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضرّ مكان الشكر له، وهذا المعنى قد تقدّم في الأنعام ويونس، ويأتي في سبحان.
قال الزجاج: هذا خاص بمكر من كفر، وقابل كشف الضرّ عنه بالجحود والكفر، وعلى هذا فتكون {من} في {منكم} للتبعيض، حيث كان الخطاب للناس جميعًا.
والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجهًا إلى الكفار، ف {من} للبيان، واللام في {لِيَكْفُرُواْ بِمَا ءاتيناهم} لام كي، أي: لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضرّ، حتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم.
وهذا غاية في العتوّ والعناد ليس وراءها غاية.
وقيل: اللام للعاقبة، يعني: ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلاّ هذا الكفر.
ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتًا من الغيبة إلى الخطاب {فَتَمَتَّعُواْ} بما أنتم فيه من ذلك {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة أمركم، وما يحل بكم في هذه الدار، وما تصيرون إليه في الدار الآخرة.
ثم حكى سبحانه نوعًا آخر من قبائح أعمالهم فقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مّمّا رزقناهم} أي: يقع منهم هذا الجعل بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم، وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيبًا مما رزقناهم من أموالهم يتقربون به إليه.
وقيل: المعنى أنهم، أي الكفار يجعلون للأصنام، وهم لا يعلمون شيئًا لكونهم جمادات، ففاعل {يعلمون} على هذا هي الأصنام وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون، جريًا على اعتقاد الكفار فيها، وحاصل المعنى: ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام.
التي لا تعقل شيئًا نصيبًا من أموالهم التي رزقهم الله إياها {تالله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب.
وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} هذا نوع آخر من فضائحهم وقبائحهم، وقد كانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله {سبحانه} نزّه سبحانه نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة ولا أفهام مستقيمة.
{إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان: 44]، وفي هذا التنزيه تعجيب من حالهم {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} أي: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهوونه من البنين على أن {ما} في محل نصب بالفعل المقدّر، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء.
وأنكر النصب الزجاج.
قال: لأن العرب لا يقولون: جعل له كذا، وهو يعني نفسه، وإنما يقولون: جعل لنفسه كذا، فلو كان منصوبًا، لقال: ولأنفسهم ما يشتهون.
وقد أجاز النصب الفراء.
ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال: {وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى} أي: إذا أخبر أحدهم بولادة بنت له {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا} أي: متغيرًا، وليس المراد السواد الذي هو ضدّ البياض، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار والتغير بما يحصل من الغمّ، والعرب تقول لكل من لقي مكروهًا: قد اسود وجهه غمًا وحزنًا.
قاله الزجاج.
وقال المارودي: بل المراد سواد اللون حقيقة، قال: وهو قول الجمهور، والأوّل أولى، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتمّ لا يحصل في لونه إلاّ مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي.
وجملة {وَهُوَ كَظِيمٌ} في محل نصب على الحال، أي: ممتلىء من الغمّ غيظًا وحنقًا.
قال الأخفش: هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره.
وقيل: إنه المغموم الذي يطبق فاه من الغمّ.
مأخوذ من الكظامة، وهو سدّ فم البئر قاله عليّ بن عيسى، وقد تقدّم في سورة يوسف.
{يتوارى مِنَ القوم} أي: يتغيب ويختفي {مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ} أي: من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب حدوث البنت له {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ} أي: لا يزال متردّدًا بين الأمرين، وهو إمساك البنت التي بشر بها، أو دفنها في التراب {على هُونٍ} أي: هوان.
وكذا قرأ عيسى الثقفي.
قال اليزيدي: والهون: الهوان بلغة قريش.
وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائي، وحكي عن الكسائي أنه البلاء والمشقة، قالت الخنساء:
نهين النفوس وهون النفو ** س يوم الكريهة أبقى لها

وقال الفراء: الهون: القليل بلغة تميم.
وحكى النحاس عن الأعمش أنه قرأ: {أيمسكه على سوء} {أم يدسه في التراب} أي: يخفيه في التراب بالوأد كما كانت تفعله العرب، فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى متردّدًا بين هذين الأمرين.
والتذكير في {يمسكه} و{يدسه} مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ.
وقرأ الجحدري {أم يدسها في التراب} ويلزمه أن يقرأ: {أيمسكها}، وقيل: دسها: إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس لإخفائه عن الأبصار {أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم.
ومثل هذا قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21 22].
{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء} أي: لهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بهذه القبائح الفظيعة {مثل السوء} أي: صفة السوء من الجهل والكفر بالله.
وقيل: هو وصفهم لله سبحانه بالصاحبة والولد.
وقيل: هو حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم.
ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق.
وقيل: العذاب والنار {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} وهو أضداد صفة المخلوقين من الغنى الكامل، والجود الشامل، والعلم الواسع، أو التوحيد وإخلاص العبادة، أو أنه خالق رازق قادر مجاز؛ وقيل: شهادة أن لا إله إلاّ الله وقيل {الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35].
{وَهُوَ العزيز} الذي لا يغالب، فلا يضرّه نسبتهم إليه ما لا يليق به {الحكيم} في أفعاله وأقواله.
ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظيم كفرهم، بيّن سعة كرمه وحلمه حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، ولم يؤاخذهم بظلمهم، فقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} والمراد بالناس هنا: الكفار، أو جميع العصاة {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} أي: على الأرض، وإن لم يذكر فقد دلّ عليها ذكر الناس وذكر الدابة.
فإن الجميع مستقرّون على الأرض، والمراد بالدابة الكافر، وقيل: كل ما دبّ.
وقد قيل على هذا: كيف يعمّ بالهلاك مع أن فيهم من لا ذنب له؟ وأجيب بإهلاك الظالم انتقامًا منه، وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف فلأجل توفير أجره، وإن كان من غيرهم، فبشؤم ظلم الظالمين، ولله الحكمة البالغة {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23]، ومثل هذا قوله: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
وفي معنى هذا أحاديث منها ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد الله بقوم عذابًا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم» وكذلك حديث الجيش الذين يخسف بهم في البيداء، وفي آخره: أنهم يبعثون على نياتهم وقد قدّمنا عند تفسير قوله سبحانه: {واتقوا فِتْنَةً} [الأنفال: 25]. الآية تحقيقًا حقيقًا بالمراجعة له {ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} معلوم عنده، وهو منتهى حياتهم وانقضاء أعمارهم، أو أجل عذابهم.
وفي هذا التأخير حكمة بالغة منها الإعذار إليهم وإرخاء العنان معهم، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} الذي سماه لهم، حقت عليهم كلمة الله سبحانه في ذلك الوقت من دون تقدّم عليه ولا تأخر عنه، والساعة المدة القليلة، وقد تقدّم تفسيرها هذا وتحقيقه.
ثم ذكر نوعًا آخر من جهلهم وحمقهم فقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} أي: ينسبون إليه سبحانه ما يكرهون نسبته إلى أنفسهم من البنات، وهو تكرير لما قد تقدّم لقصد التأكيد والتقرير، ولزيادة التوبيخ والتقريع {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} هذا من النوع الآخر الذي ذكره سبحانه من قبائحهم، وهو، أي: هذا الذي تصفه ألسنتهم من الكذب، هو قولهم: {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} أي: الخصلة الحسنى، أو العاقبة الحسنى.
قال الزجاج: يصفون أن لهم مع قبح قولهم من الله الجزاء الحسن.
قال الزجاج أيضًا والفراء: أبدل من قوله: {وتصف ألسنتهم الكذب} قوله: {أن لهم الحسنى}، و{الكذب} منصوب على أنه مفعول {تصف}.
وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، وابن محيصن {الكذب} برفع الكاف والذال والباء على أنه صفة للألسن.
وهو جمع كذب، فيكون المفعول على هذا هو {أن لهم الحسنى}.
ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} أي: حقًا أن لهم مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى النار، وقد تقدّم تحقيق هذا {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} قال ابن الأعرابي وأبو عبيدة: أي متروكون منسيون في النار.
وبه قال الكسائي والفراء، فيكون مشتقًا من أفرطت فلانًا خلفي: إذا خلفته ونسيته.
وقال قتادة والحسن: معجلون إليها، مقدّمون في دخولها، من أفرطته، أي: قدّمته في طلب الماء، والفارط: هو الذي يتقدّم إلى الماء.
والفراط: المتقدّمون في طلب الماء، والورّاد: المتأخرون، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض» أي: متقدّمكم، قال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ** كما تعجل فرّاط لورّاد

وقرأ نافع في رواية ورش {مفرطون} بكسر الراء وتخفيفها.
وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس.
ومعناه: مسرفون في الذنوب والمعاصي.
يقال: أفرط فلان على فلان: إذا أربى عليه، وقال له أكثر مما قال من الشرّ.
وقرأ أبو جعفر القاري {مفرطون} بكسر الراء وتشديدها، أي: مضيعون أمر الله، فهو من التفريط في الواجب.
وقرأ الباقون: {مفرطون} بفتح الراء مخففًا.
ومعناه: مقدمون إلى النار.