فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله: {وما أنزلنا عليك الكتاب}.
يريد القرآن، وقوله: {لتبين} في موضع المفعول من أجله، وقوله: {وهدى ورحمة} عطف عليه، كأنه قال إلا للبيان أي لأجل البيان لهم، وقوله: {الذي اختلفوا فيه} لفظ عام لأنواع كفر الكفرة من الجحد بالله تعالى، أو بالقيامة، أو بالنبوءات، أو غير ذلك، ولكن الإشارة في هذه الآية إنما هي لجحدهم الربوبية وتشريكهم الأصنام في الألوهية، ويدل على ذلك أخذه بعد هذا في إثبات العبر الدالة على أن الأنعم وسائر الأفعال إنما هي من الله تعالى، لا من الأصنام، وقوله تعالى: {والله أنزل من السماء ماء} الآية، لما أمره بتبيين ما اختلف فيه، نص العبر المؤدية إلى تبيين أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور لا يخالف فيها عاقل، وحياة الأرض وموتها استعارة وتشبيه بالحيوان، فإذ هي هامدة غبراء غير منبتة فهي كالميت، وإذ هي منبتة مخضرة مهتزة رابية فهي كالحي، وقوله: {يسمعون} يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وبيانه، لأنه لا يحتاج إلى تفكر ولا نظر قلب، وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط، و{الأنعام} هي الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز، و{العبرة} الحال المعتبر فيها، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وابن مسعود بخلاف والحسن وأهل المدينة {نَسقيكم} بفتح النون من سقى يسقي، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: {نُسقيكم} بضم النون من أسقى يُسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة، قال بعض أهل اللغة، هما لغتان بمعنى واحد، وقالت فرقة: تقول لمن تسقيه بالشفة أو في مرة واحدة سقيته وتقول لمن تُعِدُّ سقيه أو تمنحه شربًا أسقيته، وهذا قول من قرأ: {نسقيكم}، لأن ألبان الأنعام من المستمر للبشر، وأنشد من قال إنهما لغتان بمعنى، قول لبيد: الوافر:
سقى قومي بني بدر وأسقى ** نميرًا والقبائل من هلال

وذلك لازم لأنه لا يدعو لقومه بالقليل، وقرأ أبو رجاء {يسقيكم} بالياء أي يسقيكم الله، وقرأت فرقة {تسقيكم} بالتاء وهي ضعيفة وكذلك اختلف القراء في سورة المؤمنين وقوله: {مما في بطونه}، الضمير عائد على الجنس وعلى المذكور كما قال الشاعر:
مثل الفراخ نتفت حواصله

وهذا كثير لقوله تعالى: {إن هذه تذكرة} [الإنسان: 29]. {فمن شاء ذكره} [المدثر: 55]، وقيل: إنما قال: {مما في بطونه}، لأن الأنعام والنعم واحد فرد الضمير على معنى النعم وقالت فرقة: الضمير عائد على البعض، إذ الذكور لا ألبان لها، فكأن العبرة إنما هي في الأنعام، و{الفرث} ما ينزل إلى الأمعاء، والسائغ السهل في الشرب اللذيذ، وقرأت فرقة {سيّغًا} بشد الياء، وقرأ عيسى الثقفي {سيْغًا} بسكون الياء وهي تخفيف من سيغ كميت وهين، وليس وزنهما فعلًا، لأن اللفظة واوية، ففعل منها سوغ، وروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا}.
قال الطبري: التقدير {ومن ثمرات النخيل والأعناب} ما {تتخذون}، وقالت فرقة: التقدير {ومن ثمرات النخيل والأعناب} شيء {تتخذون منه}، ويجوز أن يكون قوله: {ومن ثمرات}، عطفًا على {الأنعام} [النحل: 66]. أي ولكم من ثمرات النخيل والأنعام عبرة، ويجوز أن يكون عطفًا على {مما} [النحل: 66]، أي ونسقيكم أيضًا مشروبات من ثمرات، والسكر ما يسكر، هذا هو المشهور في اللغة، فقال ابن عباس: نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر، وأراد بالسكر الخمر، وبالرزق الحسن جميع ما يشرب ويؤكل حلالًا من هاتين الشجرتين وقال بهذا القول ابن جبير وإبراهيم والشعبي وأبو زيد، وقال الحسن بن أبي الحسن: ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر، وقال الشعبي ومجاهد: السكر السائغ من هاتين الشجرتين كالخل والرب والنبيذ، والرزق الحسن العنب والتمر، قال الطبري: والسكر أيضًا في كلام العرب ما يطعم، ورجح الطبري هذا القول، ولا مدخل للخمر فيه ولا نسخ من الآية شيء، وقال بعض الفرقة التي رأت السكر الخمر: إن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر، وفي هذه المقالة درك، لأن النسخ إنما يكون في حكم مستقر مشروع، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «حُرمت الخمر بعينها، والسَّكَر من غيرها» هكذا في الرواية الصحيحة بفتح السين والكاف، أي جميع ما يسكر منه حرم على حد تحريم الخمر قليله وكثيره، ورواه العراقيون، و«السُّكْر» بضم السين وسكون الكاف وهذا مبني على فقههم في أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فقليله حلال، وباقي الآية بين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} أي القرآن {إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ} من الدين والأحكام فتقوم الحجة عليهم ببيانك.
وعطف {هُدًى وَرَحْمَةً} على موضع قوله: {لِتُبَيِّنَ} لأن محله نصب.
ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا تبيانًا للناس.
{وَهُدًى} أي رشدًا ورحمة للمؤمنين.
قوله تعالى: {والله أَنْزَلَ مِنَ السماء} أي السحاب.
{مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ} عاد الكلامُ إلى تعداد النعم وبيان كمال القدرة.
{إِنَّ فِي ذلك لآيَةً} أي دلالة على البعث وعلى وحدانيته؛ إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئًا، فتكون هذه الدلالة.
{لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} عن الله تعالى بالقلوب لا بالآذان؛ {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور}.
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}.
فيه عشر مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} قد تقدّم القول في الأنعام، وهي هنا الأصناف الأربعة: الإبل والبقر والضأن والمعز.
{لَعِبْرَةً} أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته.
والعِبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لنعرف حقيقته من طريق المشاكلة، ومنه {فاعتبروا} [الحشر: 2].
وقال أبو بكر الورّاق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمرّدك على ربك وخلافك له في كل شيء.
ومن أعظم العِبَر بريء يحمل مذنبًا.
الثانية قوله تعالى: {نُّسْقِيكُمْ} قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سَقَى يَسْقي.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: {بضم النون} من أسقي يُسقي، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة.
قيل: هما لغتان.
وقال لَبِيد:
سَقَى قَومِي بني مَجْدٍ وأسقى ** نُمَيْرًا والقبائلَ من هِلالِ

وقيل: يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته، فإذا جعلت له شِرْبًا أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته؛ قاله ابن عُزيز، وقد تقدّم.
وقرأت فرقة {تسقيكم} بالتاء، وهي ضعيفة، يعني الأنعام.
وقرئ بالياء، أي يسقيكم الله عز وجل.
والقراء على القراءتين المتقدّمتين؛ ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حِمير.
الثالثة قوله تعالى: {مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} اختلف الناس في الضمير من قوله: {مما في بطونه} على ماذا يعود.
فقيل: هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث.
قال سيبويه: العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد.
قال ابن العربيّ: وما أراه عوّل عليه إلا من هذه الآية، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه.
وقيل: لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال: هو الأنعام وهي الأنعام، جاز عود الضمير بالتذكير؛ وقاله الزجاج.
وقال الكسائيّ: معناه مما في بطون ما ذكرناه، فهو عائد على المذكور؛ وقد قال الله تعالى: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} وقال الشاعر:
مثل الفِراخ نُتِفتْ حواصلُه

ومثله كثير.
وقال الكسائيّ: {مما في بطونِه} أي مما في بطون بعضه؛ إذ الذكور لا ألبان لها، وهو الذي عوّل عليه أبو عبيدة.
وقال الفَرّاء: الأنعام والنَّعَم واحد، والنَّعَم يذكر، ولهذا تقول العرب: هذا نَعَم وارد، فرجع الضمير إلى لفظ النّعم الذي هو بمعنى الأنعام.
قال ابن العربيّ: إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع، والتأنيث إلى معنى الجماعة، فذكّره هنا باعتبار لفظ الجمع، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظامًا حسنًا.
والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رَمْل يَبْرِين وتَيْهَاء فِلَسْطِين.
الرابعة استنبط بعض العلماء الجِلّة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير، أن لبن الفحل يفيد التحريم، وقال: إنما جيء به مذكّرًا لأنه راجع إلى ذكر النَّعم؛ لأن اللبن للذكر محسوب، ولذلك قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرّم حين أنكرته عائشة رضي الله عنها في حديث أفْلح أخي أبي القُعَيس: «فللمرأة السّقي وللرجل اللقاح» فجرى الاشتراك فيه بينهما.
وقد مضى القول في تحريم لبن الفحل في النساء والحمد لله.
الخامسة قوله تعالى: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا} نبّه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصًا بين الفَرْث والدم.
والفَرْثُ: الزّبل الذي ينزل إلى الكَرِش، فإذا خرج لم يُسَمَّ فَرْثًا.
يقال: أفْرَثْت الكَرِش إذا أخرجت ما فيها.
والمعنى: أن الطعام يكون منه ما في الكَرِش ويكون منه الدّم، ثم يخلص اللبن من الدم؛ فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدّم في العروق.
وقال ابن عباس: إن الدابة تأكل العلف فإذا استقرّ في كَرشها طبخته فكان أسفله فرثًا وأوسطه لبنًا وأعلاه دمًا، والكبد مسلّط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتمّيزه وتُجريه في العروق، وتجرِي اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكَرِش؛ {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النذر}.
{خَالِصًا} يريد من حمرة الدم وقذارة الفَرْث وقد جمعهم وعاء واحد.
وقال ابن بحر: خالصًا بياضه.
قال النابغة:
بخَالصة الأرْدان خُضْرِ المناكب

أي بيض الأكمام.
وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة.
السادسة قال النقاش: في هذا دليل على أن المَنِيّ ليس بنجس.
وقاله أيضًا غيره واحتج بأن قال: كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغًا خالصًا كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهرًا.
قال ابن العربي: إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع.
اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة، وليس المنِيّ من هذه الحالة حتى يكون ملحقًا به أو مَقِيسًا عليه.
قلت: قد يعارَض هذا بأن يقال: وأيّ مِنّة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم؛ وقد قال تعالى: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب}، وقال: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} وهذا غاية في الامتنان.
فإن قيل: إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول، قلنا: هو ما أردناه، فالنّجاسة عارضة وأصله طاهر؛ وقد قيل: إن مَخْرَجه غير مخرج البول وخاصّةً المرأة؛ فإن مَدخل الذكر منها ومخرج الولد غيرُ مخرج البول على ما قاله العلماء.
وقد تقدّم في البقرة.
فإن قيل: أصله دم فهو نجس، قلنا ينتقض بالمسك، فإن أصله دم وهو طاهر.
وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسًا بظفري.
قال الشافعيّ: فإن لم يُفْرَك فلا بأس به.
وكان سعد بن أبي وَقّاص يفرك المنيّ من ثوبه.
وقال ابن عباس: هو كالنُّخامة أمِطْه عنك بإذْخِرة وامسحه بخرقة.
فإن قيل: فقد ثبت عن عائشة أنها قالت: كنت أغسل المنيّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه.
قلنا: يحتمل أن تكون غسلته استقذارًا كالأشياء التي تزال من الثوب لا لنجاسة، ويكون هذا جَمْعًا بين الأحاديث. والله أعلم.