فصل: من فوائد ابن الجوزي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين}.
في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن اليهود كانوا لا يسألون النبي عن شيء من التوراة إلا أجابهم، فسألوه عن السحر وخاصموه به، فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية.
والثاني: أنه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبيًا؟! والله ما كان إلا ساحرًا، فنزلت هذه الآية.
قاله ابن إسحاق.
و{تتلوا}، بمعنى: تلت، و{على} بمعنى: في قاله المبرد.
قال الزجاج: وقوله: {على ملك سليمان} أي: على عهد ملك سليمان.
وفي كيفية ما تلت الشياطين على ملك سليمان ستة أقوال.
أحدها: أنه لما خرج سليمان عن ملكه؛ كتبت الشياطين السحر، ودفنته في مصلاه، فلما توفي استخرجوه، وقالوا: بهذا كان يملك الملك، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل.
والثاني: أن آصف كان يكتب ما يأمر به سليمان، ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، استخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكذبًا، وأضافوه إلى سليمان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: أن الشياطين كتبت السحر بعد موت سليمان، ثم أضافته إليه، قاله عكرمة.
والرابع: أن الشياطين ابتدعت السحر، فأخذه سليمان، فدفنه تحت كرسيه لئلا يتعلمه الناس، فلما قبض استخرجته، فعلمته الناس وقالوا: هذا علم سليمان، قاله قتادة.
والخامس: أن سليمان أخذ عهود الدواب، فكانت الدابة إذا أصابت إنسانًا طلب إليها بذلك العهد، فتخلّي عنه، فزاد السحرة السجع والسحر، قاله أبو مجلز.
والسادس: أن الشياطين كانت في عهد سليمان تسترق السمع، فتسمع من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك الكتب في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان؛ جاء شيطان إلى نفر من بني إسرائيل، فدلهم على تلك الكتب وقال: إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا، ففشا في الناس أن سليمان كان ساحرًا، واتخذ بنوا إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد، صلى الله عليه وسلم، خاصموه بها، هذا قول السدي.
وسليمان: اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، وقد جعله النابغة سليمًا ضرورة، فقال: ونسج سليم كل قضّاء ذائل.
واضطر الحطيئة فجعله: سلاَّمًا فقال:
فيه الرماح وفيه كل سابغة ** جدلاءَ محكمة من نسج سلاَّم

وأرادا جميعًا: داود أبا سليمان، فلم يستقم لهما الشعر، فجعلاه: سليمان وغيّراه.
كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي.
وفي قوله: {وما كفر سليمان} دليل على كفر الساحر، لأنهم نسبوا إلى السحر، لا إلى الكفر.
قوله تعالى: {ولكنّ الشياطين كفروا}.
وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم بتشديد نون {ولكنّ} ونصب نون {الشياطين}.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف النون من {لكنْ} ورفع نون {الشياطين}.
قوله تعالى: {وما أُنزل على الملكين} وقرأ ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير والزهري {الملِكين} بكسر اللام، وقراءة الجمهور أصح.
وفي {ما} قولان.
أحدهما: أنها معطوفة على {ما} الأولى، فتقديره: واتبعوا ما تتلوا الشياطين وما أُنزل على الملكين.
والثاني: أنها معطوفة على السحر، فتقديره: يعلّمون الناس السحر، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين.
فإن قيل: إذا كان السحر نزل على الملكين، فلما ذاكره؟ فالجواب من وجهين، ذكرهما، ابن السري، أحدهما: أنهما كانا يعلمان الناس: ما السحر، ويأمران باجتنابه، وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلًا لو قال: ما الزنى؟ لوجب أن يوقف عليه، ويعلم أنه حرام.
والثاني: أنه من الجائز أن يكون الله تعالى امتحن الناس بالملكين، فمن قبل التعلم كان كافرًا، ومن لم يقبله فهو مؤمن، كما امتحن بنهر طالوت.
وفي الذي أنزل على الملكين قولان.
أحدهما: أنه السحر، روي عن ابن مسعود والحسن، وابن زيد.
والثاني: أنه التفرقة بين المرء وزوجه، لا السحر، روي عن مجاهد وقتادة، وعن ابن عباس كالقولين.
قال الزجاج: وهذا من باب السحر أيضًا.

.الإشارة إلى قصة الملكين:

ذكر العلماء أن الملكين إنما أنزلا إلى الأرض لسبب، وهو أنه لما كثرت خطايا بني آدم؛ دعت عليهم الملائكة، فقال الله تعالى: لو أنزلت الشهوة والشياطين منكم منزلتهما من بني آدم، لفعلتم مثل ما فعلوا، فحدثوا أنفسهم أنهم إن ابتلوا، اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا من أفضلكم ملكين، فاختاروا هاروت وماروت.
وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس.
واختلف العلماء: ماذا فعلا من المعصية على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهما زنيا، وقتلا، وشربا الخمرة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهما جارا في الحكم، قاله عبيد الله بن عتبة.
والثالث: أنهما هما بالمعصية فقط.
ونقل عن علي، رضي الله عنه، أن الزهرة كانت امرأة جميلة، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراودها كل واحد منهما على نفسها، ولم يُعلم صاحبه، وكانا يصعدان السماء آخر النهار، فقالت لهما: بم تهبطان وتصعدان؟ قالا: باسم الله الأعظم، فقالت: ما أنا بمواتيتكما إلى ما تريدان حتى تعلمانيه، فعلماها إياه، فطارت إلى السماء، فمسخها الله كوكبًا.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الزهرة، وقال: «إنها فتنت ملَكين» إلا أن هذه الأشياء بعيدة عن الصحة وتأول بعضهم، هذا فقال: إنه لما رأى الكوكب، ذكر تلك المرأة، لا أن المرأة مسخت نجمًا.
واختلف العلماء في كيفية عذابهما؛ فروي عن ابن مسعود أنهما معلقان بشعورهما إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: إن جبًا ملئ نارًا فجعلا فيه.
فأما بابل؛ فروي عن الخليل أن ألسن الناس تبلبلت بها.
واختلفوا في حدها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها: الكوفة وسوادها، قاله ابن مسعود.
والثاني: أنها من نصيبين إلى رأس العين، قاله قتادة.
والثالث: أنها جبل في وهدة من الأرض، قاله السدي.
قوله تعالى: {إنما نحن فتنة} أي: اختبار وابتلاء.
قوله تعالى: {إِلا بإذن الله} يريد: بقضائه.
{ولقد علموا}: إشارة إلى اليهود {لَمن اشتراه}، يعني: اختاره، يريد: السحر.
واللام لام اليمين.
فأما الخلاق؛ فقال الزجاج: هو النصيب الوافر من الخير.
قوله تعالى: {ولبئس ما شروا به أنفسهم} أي: باعوها به {لو كانوا يعلمون} العقاب فيه.

.فصل: حكم الساحر:

اختلف الفقهاء في حكم الساحر؛ فمذهب إمامنا أحمد رضي الله عنه يكفر بسحره، قتل به، أو لم يقتل، وهل تقبل توبته؟ على روايتين.
وقال الشافعي: لا يكفر بسحره، فإن قتل بسحره وقال: سحري يقتل مثله، وتعمدت ذلك قتل قودًا.
وإن قال: قد يقتل، وقد يخطيء، لم يقتل، وفيه الدية.
فأما ساحر أهل الكتاب، فانه لا يقتل عند أحمد إلا أن يضر بالمسلمين، فيقتل لنقض العهد، وسواء في ذلك الرجل والمرأة.
وقال أبو حنيفة: حكم ساحر أهل الكتاب حكم ساحر المسلمين في إيجاب القتل، فأما المرأة الساحرة، فقال: تحبس، ولا تقتل. اهـ.

.من فوائد البغوي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا} يعني اليهود {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} أي: ما تلت، والعرب تضع المستقبل موضع الماضي، والماضي موضع المستقبل، وقيل: ما كنت تتلو أي تقرأ، قال ابن عباس رضي الله عنه: تتبع وتعمل به، وقال عطاء تحدث وتكلم به {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي: في ملكه وعهده.
وقصة الآية أن الشياطين كتبوا السحر، وقصها خلق من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم، الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
وقال القاضي عياض رحمه الله عن هاروت وماروت.. وما ذكر فيها أهل الأخبار ونقلة المفسرين، وما روى عن علي وابن عباس في خيرهما وابتلائهما- بمحبة المرأة وعقابهما على ما فعلا، وما وقع من السحر: فاعلم- أكرمك الله- أن هذه الأخبار لم يرو منها شيء لا سقيم ولا صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو شيئا يؤخذ بقياس. والذي منه في القرآن: اختلف المفسرون في معناه، وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود وافترائهم، كما نصه الله أول الآيات منها وافترائهم بذلك على سليمان وتكفيرهم إياه. وقد انطوت القصة على شنع عظيمة، وهانحن نحبر في ذلك ما يكشف غطاء هذه الإشكالات، إن شاء الله.
ثم ذكر ما يزيف القصة ويبطلها من عدة وجوه انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض: 2/ 853- 859. وبعد أن ذكر ابن عطية في تفسيره الروايات عن القصة قال: وهذا كله ضعيف وبعيدا على ابن عمر رضي الله عنهما انظر: المحرر الوجيز لابن عطية: 1/ 420. وانظر أيضا ما ذكره الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله في تفسيره: وابن العربي في أحكام القرآن: 1/ 27- 30، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 2/ 52. ومع ورود بعض الروايات في المسند للإمام أحمد أو غيره، فإنها روايات ضعيفة، لا تعارض الأخبار الصحيحة والقواعد المقررة عن عصمة الملائكة عليهم السلام وإن سكت عنها الإمام الطبري والثعلبي والبغوي. وانظر: لباب التفسير لمحمود بن حمزة الكرماني 1/ 369. تحقيق د. ناصر بن سليمان العمر.
والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك، ثم دفنوها تحت مصلاه حتى نزع الله الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس: إنما ملكهم سليمان بها فتعلموه فأما علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا من علم الله وأما السفلة، فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعلمه، ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشت الملامة على سليمان فلم يزل هذا حالهم وفعلهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه براءة سليمان، هذا قول الكلبي.
وقال السدي: كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره، فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها فكتب ذلك وفشا في بني إسرائيل أن الجن يعلمون الغيب، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال: لا أسمع أحدا يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب، وخلف من بعدهم خلف، تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفرا من بني إسرائيل فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا قالوا: نعم فذهب معهم فأراهم المكان الذي تحت كرسيه، فحفروا فأقام ناحية فقالوا له: ادن وقال: لا أحضر، فإن لم تجدوه فاقتلوني، وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق، فحفروا وأخرجوا تلك الكتب، فقال الشيطان لعنه الله: إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا، ثم طار الشيطان عنهم، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، وأخذوا تلك الكتب واستعملوها فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله تعالى سليمان من ذلك، وأنزل في عذر سليمان: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} بالسحر، وقيل: لم يكن سليمان كافرا بالسحر ويعمل به {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} قرأ ابن عباس رضي الله عنه والكسائي وحمزة، {لكن} خفيفة النون {والشياطين} رفع، وقرأ الآخرون ولكن مشددة النون {والشياطين} نصب وكذلك {ولكن الله قتلهم} [17- الأنفال] ومعنى لكن: نفي الخبر الماضي وإثبات المستقبل.
{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ} قيل: معنى السحر العلم والحذق بالشيء قال الله تعالى: {وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك} [49- الزخرف] أي العالم، والصحيح: أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة، وعليه أكثر الأمم، ولكن العمل به كفر، حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: السحر يخيل ويمرض وقد يقتل، حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان، يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره، وقيل: إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب، والأصح أن ذلك تخييل قال الله تعالى: {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} [66- طه] لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون، وللكلام تأثير في الطباع والنفوس وقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمى ويغضب وربما يحم منه، وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العوارض والعلل التي تؤثر في الأبدان.
قوله عز وجل: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ} أي ويعلمون الذي أنزل على الملكين أي إلهاما وعلما، فالإنزال بمعنى الإلهام والتعليم، وقيل: واتبعوا ما أنزل على الملكين.
وقرأ ابن عباس والحسن الملكين بكسر اللام، وقال ابن عباس: هما رجلان ساحران كانا ببابل، وقال الحسن: علجان لأن الملائكة لا يعلمون السحر.
وبابل هي بابل العراق سميت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها، قال ابن مسعود: بابل أرض الكوفة، وقيل جبل دماوند، والقراءة المعروفة على الملكين بالفتح. فإن قيل كيف يجوز تعليم السحر من الملائكة؟ قيل: له تأويلان: أحدهما، أنهما لا يتعمدان التعليم لكن يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه، والتعليم بمعنى الإعلام، فالشقي يترك نصيحتهما ويتعلم السحر من صنعتهما.
والتأويل الثاني: وهو الأصح: أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقى يتعلم السحر منهما ويأخذه عنهما ويعمل به فيكفر به، ومن سعد يتركه فيبقى على الإيمان، ويزداد المعلمان بالتعليم عذابا، ففيه ابتلاء للمعلم والمتعلم ولله أن يمتحن عباده بما شاء، فله الأمر والحكم.
قوله عز وجل: {هَارُوتَ وَمَارُوتَ} اسمان سريانيان وهما في محل الخفض على تفسير الملكين إلا أنهما نصبا لعجمتهما ومعرفتهما، وكانت قصتهما على ما ذكر ابن عباس والمفسرون أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام فعيروهم وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض خليفة واخترتهم فهم يعصونك فقال الله تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال لهم الله تعالى: فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم، وقال الكلبي: قال الله تعالى لهم: اختاروا ثلاثة فاختاروا عزا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت- غير اسمهما لما قارفا الذنب- وعزائيل، فركب الله فيهم الشهوة وأهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر، فأما عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقبل ربه وسأله أن يرفعه إلى السماء، فأقاله فسجد أربعين سنة لم يرفع رأسه، ولم يزل بعد مطأطئا رأسه حياء من الله تعالى.
وأما الآخران: فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء، قال قتادة: فما مر عليهما شهر حتى افتتنا. قالوا جميعا إنه اختصمت إليهما ذات يوم الزهرة وكانت من أجمل النساء، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وكانت من أهل فارس وكانت ملكة في بلدها فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها فأبت وانصرفت ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت: لا إلا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها، فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر، وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراوداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا الصلاة لغير الله عظيم، وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر، فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة، فزنيا فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه، قال الربيع بن أنس وسجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكبا- وقال بعضهم: جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها فقال أحدهما للآخر: هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي من حب هذه؟ قال: نعم فقال: وهل لك أن تقضي لها على زوجها بما تقول؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها نفسها، فقالت: لا إلا أن تقتلاه فقال أحدهما: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فقتلاه ثم سألاها نفسها، فقالت: لا إن لي صنما أعبده، إن أنتما صليتما معي له: فعلت، فقال: أحدهما لصاحبه مثل القول الأول فقال صاحبه مثله، فصليا معها له فمسخت شهابا.
قال ابن أبي طالب رضي الله عنه والكلبي والسدي: إنها قالت لهما حين سألاها نفسها: لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا باسم الله الأكبر، قالت: فما أنتم تدركاني حتى تعلمانيه، فقال أحدهما لصاحبه: علمها فقال: إني أخاف الله رب العالمن، قال الآخر: فأين رحمة الله تعالى؟ فعلماها ذلك فتكلمت، فصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكبا، فذهب بعضهم إلى أنها الزهرة بعينها وأنكر الآخرون هذا وقالوا: إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله بها فقال: {فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس} [15- التكوير] والتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى الزهرة لجمالها فلما بغت مسخها الله تعالى شهابا، قالوا: فلما أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حل بهما من الغضب فقصدا إدريس النبي عليه السلام، فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل وقالا له: إنا رأيناك يصعد لك من العبادات مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا، إلى ربك ففعل ذلك إدريس عليه السلام فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع فهما ببابل يعذبان.
واختلفوا في كيفية عذابهما فقال عبد الله بن مسعود: هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة، وقال عطاء بن أبي رباح: رءوسهما مصوبة تحت أجنحتهما، وقال قتادة كبلا من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما، وقال مجاهد: جعلا في جب ملئت نارا، وقال عمر بن سعد: منكوسان يضربان بسياط من الحديد.
وروي أن رجلا قصد هاروت وماروت لتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما، مزرقة أعينهما، مسودة جلودهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش، فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال: لا إله إلا الله، فلما سمعا كلامه قالا له: من أنت؟ قال: رجل من الناس، قالا من أي أمة أنت؟ قال: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا أو قد بعث محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم قالا الحمد لله، وأظهر الاستبشار فقال الرجل: ومم استبشاركما؟ قالا إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا.
قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} أي أحدا، و{من} صلة {حَتَّى} ينصحاه أولا و{يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} ابتلاء ومحنة {فَلا تَكْفُرْ} أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر، وأصل الفتنة: الاختبار والامتحان، من قولهم: فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار، ليتميز الجيد من الرديء وإنما وحد الفتنة وهما اثنان، لأن الفتنة مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع، وقيل: إنهما يقولان {إنما نحن فتنة فلا تكفر} سبع مرات.
قال عطاء والسدي: فإن أبى إلا التعلم قالا له: ائت هذا الرماد وأقبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة، وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى، قال مجاهد: إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة، {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} أن يؤخذ كل واحد عن صاحبه، ويبغض كل واحد إلى صاحبه قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ} قيل أي: السحرة وقيل: الشياطين {بِضَارِّينَ بِهِ} أي بالسحر {مِنْ أَحَدٍ} أي أحدا، {إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بعلمه وتكوينه، فالساحر يسحر والله يكون.
قال سفيان الثوري: معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته، {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} يعني: أن السحر يضرهم {وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا} يعني اليهود {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} أي اختار السحر {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي في الجنة من نصيب {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ} باعوا به {أَنْفُسَهُم} حظ أنفسهم، حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحق {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فإن قيل: أليس قد قال: {ولقد علموا لمن اشتراه} فما معنى قوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} بعدما أخبر أنهم علموا؟ قيل: أراد بقوله: {ولقد علموا} يعني الشياطين وقوله: {لو كانوا يعلمون} يعني اليهود وقيل: كلاهما في اليهود يعني: لكنهم لما لم يعلموا بما علموا فكأنهم لم يعلموا. اهـ.