فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنهم لا يعرفون.. لا يُفرِّقون بين الفساد والصلاح.
وفي القرآن أمثلة للناس الذين يُفسِدون في الأرض ويحسَبون أنهم يُحسِنون صُنْعًا، يقول تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالًا الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103-104].
فالذي اخترع السيارة وهذه الآلات التي تنفث سمومها وتُلوّث البيئة التي خلقها الله.. صحيح وفَّر لنا الوقت والمجهود في الحمل والتنقُّل، ولكن انظر إلى ما أصاب الناس من عَطَب بسبب هذه الآلات.. انظر إلى عوادم السيارات وآثارها على صحة الإنسان.
كان يجب على مخترع هذه الآلات أنْ يوازنَ بين ما تؤديه من منفعة وما تُسبِّبه من ضرر، وأضاف إلى الأضرار الصحية ما يحدث من تصادمات وحوادث مُروّعة تزهق بسببها الأرواح.، وبالله هل رأيت أن تصادمَ جملان في يوم من الأيام.. فلابد إذن أن نقيسَ المنافع والأضرار قبل أنْ نُقدِم على الشيء حتى لا نُفِسد الطبيعة التي خلقها الله لنا.
وقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ}. [النحل: 69].
الناس: جَمْعٌ مختلفُ الداءات باختلاف الأفراد وتعاطيهم لأسباب الداءات، فكيف يكون هذا الشراب شفاء لجميع الداءات على اختلاف أنواعها؟.. نقول: لأن هذا الشراب الذي أعدَّه الله لنا بقدرته سبحانه جاء مختلفًا ألوانه.. من رحيق مُتعدِّد الأنواع والأشكال والطُّعوم والعناصر.. ليس مزيجًا واحدًا يشربه كل الناس، بل جاء مختلفًا متنوعًا باختلاف الناس، وتنوّع الداءات عندهم.، وكأن كل عنصر منه يُداوِي داء من هذه الدَّاءات.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69]. التفكّر: أنْ تُفكّر فيما أنت بصدده لتستنبطَ منه شيئًا لستَ بصدده، وبذلك تُثري المعلومات؛ لأن المعلومات إذا لم تتلاقح، إذا لم يحدث فيها توالد تقف وتتجمّد، ويُصاب الإنسان بالجمود الطموحي، وإذا أصيب الإنسان بهذا الجمود توقّف الارتقاء؛ لأن الارتقاءات التي نراها في الكون هي نتيجة التفكُّر وإعمال العقل.
لذلك فالحق سبحانه يُنبِّهنا حينما نمرُّ على ظاهرة من ظواهر الكون، ألا نمر عليها غافلين مُعرضين، بل نفكر فيها ونأخذها بعين الاعتبار.. يقول تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
ففي الآية حَثٌّ على التفكّر في ظواهر الكون، وفيها تحذير من الإعراض والغفلة عن آيات الله، فبالفكر نستنبط من الكون ما نستفيد به.
ولو أخذنا مثلًا الذي اخترع الآلة البخارية.. كيف توصل إلى هذا الاختراع الذي أفاد البشرية؟ نجد أنه توصل إليه حينما رأى القِدْر الذي يغلي على النار يرتفع غطاؤه مع بخار الماء المتصاعد أثناء الغليان.. فسأل نفسه: لماذا يرتفع الغطاء؟ واستعمل عقله وأعمل تفكيره حتى توصَّل إلى قوة البخار المتصاعد، واستطاع توظيف هذه القوة في تسيير ودفع العربات.
وكذلك أرشميدس وغيره كثيرون توصلوا بالاعتبار والتفكُّر في ظواهر الكون، إلى قوانين في الطبيعة أدت إلى اختراعات نافعة نتمتع نحن بها الآن، فالذي اخترع العجلة، كم كانت مشقة الإنسان في حَمْل الأثقال؟ وما أقصى ما يمكن أنْ يحمله؟ فبعد أنْ اخترعوا العجلات واستُخدِمت في الحمل تمكّن الإنسان من حَمْل وتحريك أضعاف أضعاف ما كان يحمله.
الذي اخترع خزانات المياه.. كم كانت المشقة في استخراج الماء من البئر؟ أو من النهر؟ فبعد عمل الخزانات وضَخِّ المياه أصبحنا نجد الماء في المنازل بمجرد فَتْح الصنبور.
هذه كلها ثمرات العقل حينما يتدبَّر، وحينما يُفكِّر في ظواهر الكون، ويستخدم المادة الخام التي خلقها الله وحثَّنا على التفكُّر فيها والاستنباط منها.، وكأن الحق سبحانه يقول لنا: لقد أعطيتكم ضروريات الحياة، فإنْ أردتُم ترفَ الحياة وكمالياتها فاستخدموا نعمة العقل والتفكير والتدبّر لتصلوا إلى هذه الكماليات.
وهنا الحق سبحانه يلفتنا لَفْتةً أخرى.، وهي أنه سبحانه يجعل من المحسّات ما يُقرّب لنا المعنويّات ليلفتنا إلى منهجه سبحانه؛ ولذلك ينقلنا هذه النَّقْلة من المحسوس إلى المعنوي، فيقول تعالى: {والله خَلَقَكُمْ}.
قوله: {والله خَلَقَكُمْ} [النحل: 70].
هذه حقيقة لا يُنكرها أحد، ولم يَدّعِها أحدٌ لنفسه، وقد أمدّكم بمقوِّمات حياتكم في الأرض والنبات والحيوان، والأنعام التي تعطينا اللبن صافيًا سائغًا للشاربين، ثم النحل الذي فيه شفاء للناس.
فالحق سبحانه أعطانا الحياة، وأعطانا مٌقوِّمات الحياة، وأعطانا ما يُزيل معاطبَ الحياة.، وما دُمْتم صدَّقتم بهذه المحسَّات فاسمعوا: {والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} [النحل: 70].
وساعة أن نسمع {خلقكم}، فنحن نعترف أن الله خلقنا، ولكنْ كيف خلقنا؟ هذه لا نعرفها نحن؛ لأنها ليستْ عملية معملية.. فالذين خلق هو الحق سبحانه وحده، وهو الذي يُخبرنا كيف خلق.. أما أنْ يتدخَّل الإنسان ويُقحِمَ نفسه في مسألة لا يعرفُها، فنرى مَنْ يقول إن الإنسان أَصلْه قرد.. إلى آخر هذا الهُراء الذي لا أَصْلَ له في الحقيقة.
ولذلك، فالحق سبحانه يقول لنا: إذا أردتُمْ أن تعرفوا كيف خُلِقْتُم فاسمعوا مِمَّنْ خلقكم.. إياكم أنْ تسمعوا من غيره؛ ذلك لأنني: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف: 51].
هذه عملية لم يُطلع الله عليها أحدًا: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُدًا} [الكهف: 51].
أي: ما اتخذتُ مساعدًا يعاونني في مسألة الخَلْق.
وما هو المضلّ؟ المضِلّ هو الذي يقول لك الكلام على أنه حقيقة، وهو يُضلُّك.
إذن: ربنا سبحانه وتعالى هنا يعطينا فكرة مُقدّمًا: احذروا، فسوف يأتي أناس يُضلونكم في موضوع الخَلْق، وسوف يُغيّرون الحقيقة، فإياكم أنْ تُصدِّقوهم؛ لأنهم ما كانوا معي وقت أنْ خلقتكم فيدَّعُون العلم بهذه المسألة.
ونفس هذه القضية في مسألة خَلْق السموات والأرض، فالله سبحانه هو الذي خلقهما، وهو سبحانه الذي يُخبرنا كيف خلق.
فحين يقول سبحانه: {والله خَلَقَكُمْ} [النحل: 70].
فعلينا أن نقول: سَمْعًا وطاعة، وعلى العين والرأس.. يا ربِّ أنت خلقتنا، وأنت تعلم كيف خلقتنا، ولا نسأل في هذا غيرك، ولا نُصدِّق في هذا غير قَوْلك سبحانك.
ثم يقول تعالى: {ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} [النحل: 70].
أي: منه سبحانه كان المبدأ، وإليه سبحانه يعود المرجع.، وما دام المبدأ من عنده والمرجع إليه، وحياتك بين هذين القوسين؛ فلا تتمرد على الله فيما بين القوسين؛ لأنه لا يليق بك ذلك، فأنت منه وإليه.. فلماذا التمرد؟
ربُّنا سبحانه وتعالى هنا يُعطينا دليلًا على طلاقة قدرته سبحانه في أمر الموت، فالموت ليس له قاعدة، بل قد يموت الجنين في بطن أمه، وقد يموت وهو طفل، وقد يموت شابًا أو شيخًا، وقد يرد إلى أرذل العمر، أي: يعيش عمرًا طويلًا.، وماذا في أرذل العمر؟!
يُرَدُّ الإنسان بعد القوة والشباب، بعد المهابة والمكان، بعد أنْ كان يأمر وينهي ويسير على الأرض مُخْتالًا، يُرَدُّ إلى الضَّعْف في كل شيء، حتى في أَمْيز شيء في تكوينه، في فكره، فبعد العِلْم والحِفْظ وقوة الذاكرة يعود كالطفل الصغير، لا يذكر شيئًا ولا يقدر على شيء.
ذلك لتعلم أن المسألة ليست ذاتية فيك، بل موهوبة لك من خالقك سبحانه، ولتعلم أنه سبحانه حينما يقضي علينا بالموت فهذا رحمة بنا وستْر لنا من الضعف والشيخوخة، قبل أن نحتاج لمن يساعدنا ويُعينُنا على أبسط أمور الحياة ويأمر فينا مَنْ كُنّا نأمره.
ومن هنا كان التوفّي نعمة من نِعَم الله علينا، ولكي تتأكد من هذه الحقيقة انظر إلى مَنْ أمدّ الله في أعمارهم حتى بلغوا ما سماه القرآن {أرذل العمر} وما يعانونه من ضعف وما يعانيه ذووهم في خدمتهم حتى يتمنى له الوفاة أقرب الناس إليه.
الوفاة إذن نعمة، خاصة عند المؤمن الذي قدّم صالحًا يرجو جزاءه من الله، فتراه مُسْتبشرًا بالموت؛ لأنه عمَّر آخرته فهو يُحب القدوم عليها، على عكس المسرف على نفسه الذي لم يُعِدّ العُدّة لهذا اليوم، فتراه خائفًا جَزِعًا لعلمه بما هو قادم عليه.
و{ثُمَّ} حَرْف للعطف يفيد الترتيب مع التراخي.. أي: مرور وقت بين الحدثين.. فهو سبحانه خلقكم، ثم بعد وقت وتراخٍ يحدث الحدَث الثاني {يتوفّاكم}. على خلاف حرف الفاء، فهو حرف عطف يفيد الترتيب مع التعقيب أي: تتابع الحدثين، كما في قوله تعالى: {أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21].
فبعد الموت يكون الإقبار دون تأخير.
وقوله تعالى: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} [النحل: 70].
وأرذل العمر: أردؤه وأقلّه وأخسُّه؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخرج الإنسان من بطن أمه لا يعلم شيئًا، فقال: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78].
وهذه هي وسائل العلم في الإنسان، فإذا رُدَّ إلى أرذل العمر فقدتْ هذه الحواسّ قدرتها، وضَعُفَ عملها، وعاد الإنسان كما بدأ لا يعلم شيئًا بعد ما أصابه من الخَرف والهرم، فقد توقفتْ آلات المعرفة، وبدأ الإنسان ينسى، وتضعف ذاكرته عن استرجاع ما كان يعلمه.
وقوله: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70].
لذلك يُسمُّون هذه الحواس الوارث.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70].
لأنه سبحانه بيده الخَلْق من بدايته، وبيده سبحانه الوفاة والمرجع، وهذا يتطلَّب عِلْمًا، كما قال سبحانه: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14].
فلا بُدَّ من عِلم، لأن الذي يصنع صَنْعة لابد أن يعرفَ ما يُصلحها وما يُفسِدها، وذلك يتطلَّب قدرة للإدراك، فالعلم وحده لا يكفي. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)}.
التفسير:
لما حكى عن القوم عظيم كفرهم وفظيع قولهم بين غاية كرمه وسعة رحمته حيث إنه لا يعاجلهم بالعقوبة فقال: {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم} الآية. فزعم بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء أنه أضاف الظلم إلى ضمير الناس والأنبياء من جملة الناس فوجب أن يكونوا ظالمين عاصين ويؤكد هذا قوله: {ما ترك عليها من دابة} فإنه لو لم يصدر من الأنبياء ذنب لم يكن لإفنائهم وجه وحينئذ لم يصدق أنه لم يبق على الأرض واحد، والجواب لا نسلم عموم الناس في الآية لقوله سبحانه في موضع آخر {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} [لقمان: 32]، ولا ريب أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين، فإذن المراد بالناس إما كل العصاة الذين استحقوا العقاب، أو الذين تقدم ذكرهم من المشركين، وأما قوله: {من دابة} فعن ابن عباس أنه أراد من مشرك يدب عليها نظيره قوله: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا} [الأنفال: 55]، ولو سلم أن المراد بها كل من يدب عليها فلعل الهلاك في حق الظلمة يكون عذابًا وفي غيرهم امتحانًا فقد وقعت هذه الواقعة في زمان نوح عليه السلام، وأيضًا من المعلوم أنه لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العذاب، فلو أهلكوا لبطل نسلهم ولأدى إلى إفناء الناس، بل الدواب كلها لأن الدواب مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم. عن أبي هريرة أنه سمع رجلًا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال: بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم، وعن ابن مسعود: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم، وقيل: لو يؤاخذهم لانقطع القطر وفي انقطاعه انقطاع النبت وفي انقطاع النبت فناء الدواب. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن الظلم والمعاصي ليست من أفعال الله تعالى وإلا لم يؤاخذهم بها فرضًا، ولم يضف الظلم إليهم ولم يذمهم على ذلك، وفي قوله: {بظلمهم} دليل على أن الظلم هو المؤثر في العقاب، فإن الباء للعلية.
وجواب الأشاعرة معلوم وهو أنه لا يسأل عما يفعل، وأيضًا المعارضة بالعلم والدواعي ووجوب انتهاء الكل إليه. قال بعض الأصوليين: الأصل في المضار الحرمة لأن الضرر لا يجوز أن يكون مشروعًا ابتداء بالإجماع ولقوله تعالى: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. {يريد الله بكم اليسر} [البقرة: 185]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ملعون من ضر مسلمًا» ولا أن يكون مشروعًا على وجه يكون جزاء عن جرم سابق بهذه الآية لأن كلمة {لو} وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره. فالآية تقتضي أنه تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة كما هو المشاهد إذا ثبت هذا الأصل فنقول: إذا وقعت حادثة مشتملة على المضار فإن وجدنا نصًّا على كونها مشروعة قضينا به تقديمًا للخاص على العام وإلا قضينا عليها بالحرمة بناء على هذا الأصل، ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون الضرر مشروعًا على وجه يقع جزاء عن جرم سابق والآية لا تنافي ذلك لأنها لا تدل إلا على أنه سبحانه لا يؤاخذ بكل ظلم. أما على أنه لا يؤاخذ ببعض أنواع الظلم فلا، دليلة قوله: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} [الشورى: 30]، ومنهم من قال: بناء على القاعدة المذكورة إن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون مشروعًا في حقه لأن المنع منه ضرر والضرر غير مشروع، وكل ما يكرهه الإنسان لزم أن يكون محرمًا لأن وجوده ضرر وأنه غير مشروع. فالذي يتمسك به في إثبات الأحكام من القياس إما أن يكون على وفق هذه القاعدة أو على خلافها والأول باطل، لأن هذا الأصل يغني عنه، وكذا الثاني لأن النص راجح على القياس، ولقائل أن يقول: توارد الأدلة على المدلول الواحد غير ممتنع. أما قوله: {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه يريد أجل القيامة لأن معظم العذاب يوافيهم يومئذ، وقيل: أراد منتهى العمر لأن المشركين يؤاخذون بالذنوب إذا خرجوا من الدنيا، وباقي الآية قد مر تفسيرها في أوائل سورة الأعراف.
واعلم أنه سبحانه قال في هذه السورة {ما ترك عليها من دابة} وفي سورة الملائكة {ما ترك على ظهرها} [فاطر: 45]. فالهاء كناية عن الأرض ولم يتقدم ذكرها هاهنا والعرب تجوّز ذلك في كلمات لحصولها بين يدي كل متكلم وسامع منها الأرض والسماء: فلان أفضل من عليها وأكرم من تحتها، ومنها الغداة إنها اليوم لباردة، ومنها الأصابع يقول: والذي شقهن خمسًا من واحدة يعني الأصابع من اليد، وإنما لم يذكر الظهر في هذه السورة لئلا يلتبس بظهر الداب فكثيرًا ما يستعمل الظهر بمعنى الدابة بخلاف سورة الملائكة فإنه قد تقدم ذكر الأرض في قوله: {أو لم يسيروا في الأرض} [الآية: 44]، وفي قوله: {ولا في الأرض} [الآية: 44]. فلم يكن ملتبسًا، ويمكن أن يقال: لما قال هاهنا {بظلمهم} لم يقل: {على ظهرها} وحين قال هنالك {بما كسبوا} قال: {على ظهرها} احترازًا عن الجمع بين الظاءين لأنها تقل في الكلام وليست لأمة من الأمم سوى العرب، فلم يجمع بينهما في شرطية واحدة. ثم عاد إلى حكاية كلمتهم الحمقاء فقال: {ويجعلون لله ما يكرهون} لأنفسهم من البنات ولا يبعد أن يندرج فيه سائر ما يكرهون من الشركاء في الرياسة ومن الاستخفاف والتهاون برسلهم ورسالتهم، وأنهم يجعلون أرذل أموالهم لله وأكرمها للأصنام، وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوي اليسار كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة، وإذا قال هاتوا ما دفع إليّ فيؤتى بالكسر والخرق وما لا يؤبه له، أما تستحيي من ذلك الموقف؟ ثم قال: {وتصف ألسنتهم الكذب} قال الفراء والزجاج: أبدل منه قوله: {أن لهم الحسنى} عن مجاهد أن الحسنى البنون كانت قريش يقولون لله البنات ولنا البنون، وقال غيره: هي الجنة أي إنهم مع جعلهم لله ما يكرهون حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله، وأنهم يفوزون برضوان الله بسبب هذا القول زعمًا منهم أنهم على الدين الحق والمذهب الحسن، وكيف يحكمون بذلك وكانوا منكرين للقيامة؟ الجواب أنه كان فيهم من يقر بالبعث ولذلك كانوا يربطون البعير على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ظنًا منهم أن الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه، وبتقدير أنهم كانوا منكرين فلعلهم قالوا إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقًا في دعوى الحشر والقيامة فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه نظيره {ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى} [فصلت: 50]، ومن الناس من رجح هذا القول لأنه تعالى ردّ عليهم بعد ذلك بقوله: {لا جرم أن لهم النار} قال الزجاج: لا ردّ لقولهم أي ليس الأمر كما وصفوا. جرم أي كسب ذلك القول أن لهم النار ف {أنَّ} مع ما بعده في محل النصب لوقوع الكسب عليه، وقال قطرب: {أن} في موضع رفع والمعنى حق أن لهم الافتراء على الله، وجوّز أبو علي الفارسي أن يكون من أفرط أي صار ذا فرط مثل أجرب أي صار ذا جرب، ومن قرأ بفتحها مخففة فهو من أفرطت فلانًا خلفى إذا خلفته ونسيته، فالمعنى أنهم متروكون في النار منسيون، ومن قرأ بكسر الراء المشددة فهو من التفريط في الطاعات.