فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام، وأيضًا هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه، و{مِنْ} للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان، وقيل: المراد بها ما أتى من غير نصب، وقيل: الغنائم، وليس بشيء.
{أفبالباطل} وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ} وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن {وَبِنِعْمَتِ الله} المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان {هُمْ يَكْفُرُونَ} أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم، وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم.
والآية على هذا ظاهرة التعلق بقوله سبحانه: {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} فقط دون ما قبله أيضًا والظاهر تعلقها بهما، ومن ذلك يظهر حال ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري، واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لاسيما وقد حصروا، وأيضًا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم بمنزلة المتيقن وبالعكس، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في الكشف، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيدًا وتخصيصًا، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول، وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفًا عليه تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد، وأما التأكيد في الثاني فمن بناء {يَكْفُرُونَ} على هم المفيد لتقوى الحكم، وجعل كلام الزمخشري مشيرًا إلى ذلك كله فتدبر.
وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد، والعلامة البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفًا.
ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالباطل كان إيمانهم بغيره بمنزلة العدم وإن النعم كلها من الله تعالى إما بالذات أوب الواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل لا يشكر الله من لا يشكر الناس بقي المخالفة.
وأجيب بأنه إذا نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائيًا وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف، وجوز أن يكون التقديم للاهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق له الكلام تعلق كفرانهم بنعمة الله تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان والكفران، وأن يكون لرعاية الفواصل وهو دون النكتتين، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبًا لهم مما فعلوه.
وفي البحر أن السلمي قرأ: {تُؤْمِنُونَ} بالتاء على الخطاب وأنه روى ذلك عن عاصم، والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في البحر مجردًا عن الكفرة غير مندرج في التقريع.
هذا بقي أنه وقع في العنكبوت (67) {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ} بدون ضمير ووقع هنا ما سمعتب الضمير، وبين الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]. أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكرارًا بحسب الظاهر فأتى بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقيًا في الذم بعيدًا عن اللغوية، ثم قال: وقيل إنه أجرى على عادة العباد إذا أخبروا عن أحد بمنكر يجدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام آكد من الأول، ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل: {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 67]. بدون ضمير وقيل: {وبنعمة الله هم يكفرون} به، وأما في الفرق بين ما هنا وما هناك فلا، وقيل: آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب، وتخصيص هذه بالزيادة دون {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة الفاصلة الأولى على الثانية، واعترض عليه بأنه لا يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير.
وقد يقال: إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير وينبى الفعل عليه إفادة للتقوى استغناء بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع قربه من تلك الآية عن ذلك، على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك قوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} [العنكبوت: 52]، ولما لم تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جىء فيها بما يفيد التقوى، أو يقال: إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في وصولها إليهم والامتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما فيه بما ذكر، ولعل التعبير هنا بيكفرن وفيما قبل {يَجْحَدُونَ} [النحل: 71]. لأن ما قبل كان مسبوقًا على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق بذلك لما أن كمال القبح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا قيل فافهم والله تعالى بأسرار كتابه أعلم.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} قال أبو حيان: هو استئناف اخبار عن حالهم في عبادة الأصنام وفيه تبيين لقوله تعالى: {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} [النحل: 72]، وقال بعض أجلة المحققين: لعله عطف على {يَكْفُرُونَ} [النحل: 72]. داخل تحت الإنكار التوبيخي أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون من دونه سبحانه {مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السموات والأرض شَيْئًا} أي ما لا يقدر أن يرزقهم شيئًا لا من السموات مطرًا ولا من الأرض نباتًا فرزقًا مصدر، و{شَيْئًا} نصب على المفعولية له وإلى ذلك ذهب أبو علي وغيره.
وتعقبه ابن الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن والمصدر إنما هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن.
ورد عليه بأن مكسور الراء مصدر أيضًا كالعلم وسمع ذلك فيه فصح أن يعمل في المفعول، وقيل: هو اسم مصدر والكوفي يجوز عمله في المفعول فشيئًا مفعوله على رأيهم، وجوز أن يكون بمعنى مرزوق و{شَيْئًا} بدل منه أي لا يملك لهم شيئًا.
وأورد عليه السمين وأبو حيان أنه غير مفيد إذ من المعلوم أن الرزق من الأشياء والبدل يأتي لأحد شيئين البيان والتأكيد وليسا بموجودين هنا.
وأجيب بأن تنوين {شَيْئًا} للتقليل والتحقير فإن كان تنوين {رِزْقًا} كذلك فهو مؤكد وإلا فمبين وحينئذٍ فيصح فيه أن يكون بدل بعض أو كل ولا إشكال.
وجوز أن يكون {شَيْئًا} مفعولًا مطلقًا ليملك أي لا يملك شيئًا من الملك و{مِنْ السموات} اما متعلق بقوله تعالى: {لاَ يَمْلِكُ} أو بمحذوف وقع صفة لرزقا أي رزقًا كائنًا منهما، واطلاق الرزق على المطر لأنه ينشأ عنه.
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} جوز أن يكون عطفًا على صلة {مَا} وأن يكون مستأنفًا للأخبار عن حالة الآلهة؛ واستطاع متعد ومفعوله محذوف هو ضمير الملك أي لا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم، فالكلام تتميم لسابقه وفيه من الترقي ما فيه فلا يكون نفي استطاعة الملك بعد نفي ملك الرزق غير محتاج إليه، وان جعل المفعول ضمير الرزق كما جوزه في الكشاف يكون هذا النفي تأكيدًا لما قبله.
وأورد عليه أنه قد قرر في المعاني أن حرف العطف لا يدخل بين المؤكد والمأكد لما بينهما من كمال الاتصال.
ودفع بأن ذلك غير مسلم عند النحاة وليس مطلقًا عند أهل المعاني ألا ترى قوله تعالى: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4، 5]. نعم يرد عليه حديث أن التأسيس خير من التأكيد، ويجوز ولعله الأولى أن يكون الفعل منزلًا منزلة اللازم فيكون المراد نفي الاستطاعة عنهم مطلقًا على حد يعطي ويمنع المعنى أنهم أموات لا قدرة لهم أصلًا فيكون تذييلًا للكلام السابق، وفيه ما فيه على الوجه الأول وزيادة.
وجمع الضمير فيه وتوحيده في {لا يملك} لرعاية جانب اللفظ أولا والمعنى ثانيًا فإن {ما} مفرد بمعنى الآلهة ومثل هذه الرعاية وارد في الفصيح وان أنكره بعضهم لما يلزمه من الإجمال بعد البيان المخالف للبلاغة فإنه مردود كما بين في محله، وقد روعي أيضًا في التعبير حال معبوداتهم في نفس الأمر فإنها أحجار وجمدات فعبر عنها بما الموضوعة في المشهور لغير العالم وحالها باعتبار اعتقادهم فيها أنها آلهة فعبر عنها بضمير الجمع الموضوع لذوي العلم، هذا إذا كان المراد بما الأصنام، ولا يخفى عليك الحال إذا كان المراد بها المعبودات الباطلة مطلقًا ملكًا كانت أو بشرًا أو حجرًا أو غيرها.
وجوز أن يكون ضمير الجمع عائدًا على الكفار كضمير {يَعْبُدُونَ} و{مَا} على المعنى المشهور فيها على معنى أنهم مع كونهم أحياء متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئًا فكيف بالجماد الذي لا حس له، فجملة {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} معترضة لتأكيد نفي الملك عن الآلهة والمفعول محذوف كما أشير إليه، وهذا وان كان خلاف الظاهر لكنه سالم عن مخالفة المشهور في العود على المعنى بعد مراعاة اللفظ.
{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ}.
التفات إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي، والفاء للدلالة على ترتيب النهي على ما عدد من النعم الفائضة عليهم منه تعالى وكون آلهتهم بمعزل من أن يملكوا لهم رزقًا فضلًا عما فضل، والأمثال جمع مثل كعلم، والمراد من الضرب الجعل فكأنه قيل: فلا تجعلوا لله تعالى الأمثال والاكفاء فالآية كقوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} [البقرة: 22]، وهذا ما يقتضيه ظاهر كلام ابن عباس، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية: يقول سبحانه لا تجعلوا معي إلهًا غيري فإنه لا إله غيري.
وجعل كثير الأمثال جمع مثل بالتحريك، والمراد من ضرب المثل لله سبحانه الإشراك والتشبيه به جل وعلا من باب الاستعارة التمثيلية، ففي الكشف إن الله تعالى جعل المشرك به الذي يشبهه تعالى بخلقه بمنزلة ضارب المثل فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة وذاتًا بذات كما ان ضارب المثل كذلك فكأنه قيل: ولا تشركوا بالله سبحانه، وعدل عنه إلى المنزل دلالة على التعميم في النهي عن التشبية وصفًا وذاتًا، وفي لفظ {الامثال} لمن لا مثال له أصلًا نعى عظيم عليهم بسوء فعلهم، وفيه ادماج أن الأسماء توقيفية وهذا هو الظاهر لدلالة الفاء وعدم ذكر ضرب مثل منهم سابقًا، وهذا الوجه هو الذي اختاره الزمخشري وكلام الحبر رضي الله تعالى عنه لا يأباه فقوله تاعلى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} تعليل للنهي أي أنه تعالى يعلم كنه ما تفعلون وعظمه وهو سبحانه معاقبكم عليه أعظم العقاب وأنتم لا تعلمون كنهه وكنه عقابه فلذا صدر منكم وتجاسر تم عليه.
وجوز أن يكون المراد النهي عن قياس الله تعالى على غيره بجعل ضرب المثل استعارة للقياس، فإن القياس الحاق شيء بشيء وهو عند التحقيق تشبيه مركب بمركب، والفرق بينه وبين الوجه السابق قليل، وأمر التعليل على حاله، وجوز الزمخشري وغيره أن يكون المراد النهي عن ضرب الأمثال لله سبحانه حقيقة والمعنى فلا تضربوا لله تعالى الأمثال التي يضربها بعضكم لبعض ان الله تعالى يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، ووجه التعليل ظاهر، واللام على سائر الأوجه متعلقة بتضربوا وعزم ابن المنير تعلقها بالأمثال فيما إذا كان المراد التمثيل للإشراك والتشبيه ثم قال: كأنه قيل فلا تمثلوا الله تعالى ولا تشبهوه، وتعلقها بتضربوا على هذا الوجه ثم قال كأنه قيل فلا تمثلوا لله تعالى الأمثال فإن ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير العالم ليبين له ما خفي عنه والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة، وليس بشيء؛ والمعنى الذي ذكره على تقدير تعلقه بالفعل خلاف ما يقتضيه السياق وان كان التعليل عليه أظهر، ومن هنا قال العلامة المدقق في الكشف في ذلك بعد أن قال إنه نهى عن ضرب الأمثال حقيقة: كأنه أريد المبالغة في أن لا يلحدوا في أسمائه تعالى وصفاته فإنه إذا لم يجز ضرب المثل والاستعارات يكفي فيها سبه ما والإطلاق لتلك العلاقة كاف فعدم جواز إطلاق الأسماء من غير سبق تعليم منه تعالى وإثبات الصفات أولى وأولى. اهـ.

.قال الشوكاني:

{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}.
لما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان، وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة، وخصائص القدرة القاهرة، أتبعه بعجائب خلق الإنسان، وما فيه من العبر فقال: {والله خَلَقَكُمْ} ولم تكونوا شيئًا {ثُمَّ يتوفاكم} عند انقضاء آجالكم {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} يقال: رذل يرذل رذالة، والأرذل والرذالة: أردأ الشيء وأوضعه.
قال النيسابوري: واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع: أولاها سنّ النشوّ، وثانيها: سنّ الوقوف، وهو سنّ الشباب، وثالثها: سنّ الانحطاط اليسير، وهو سنّ الكهولة، ورابعها: سنّ الانحطاط الظاهر، وهو سنّ الشيخوخة.
قيل: وأرذل العمر هو عند أن يصير الإنسان إلى الخرف، وهو أن يصير بمنزلة الصبيّ الذي لا عقل له؛ وقيل: خمس وسبعون سنة، وقيل: تسعون سنة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} [التين: 4- 5]. ثم علل سبحانه ردّ من يرده إلى أرذل العمر بقوله: {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ} كان قد حصل له {شَيْئًا} من العلم، لا كثيرًا ولا قليلًا، أو شيئًا من المعلومات إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم.
وقيل: المراد: بالعلم هنا العقل، وقيل: المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك.
ثم لما بين سبحانه خلق الإنسان وتقلبه في أطوار العمر، ذكر طرفًا من أحواله، لعله يتذكر عند ذلك، فقال: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ في الرزق} فجعلكم متفاوتين فيه، فوسع على بعض عباده حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفًا مؤلفة من بني آدم، وضيقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلاّ بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها، وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم وقوّة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال، وقيل: معنى الآية: أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم، بدليل قوله: {فَمَا الذين فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم} أي: فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادّي رزقهم الذي رزقهم الله إياه على ما ملكت أيمانهم من المماليك {فَهُمُ} أي: المالكون والمماليك {فِيهِ} أي: في الرزق {سَوَاء} أي: لا يردّونه عليهم بحيث يساوونهم، فالفاء على هذا للدلالة على أن التساوي مترتب على الترادّ، أي: لا يردّونه عليهم ردًا مستتبعًا للتساوي، وإنما يردّون عليهم منه شيئًا يسيرًا، وهذا مثل ضربه الله سبحانه بعبدة الأصنام، أي: إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء، ولا ترضون بذلك، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء.