فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الجصاص:

قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ}.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكَافِرِ الَّذِي لَا خَيْرَ عِنْدَهُ وَالْمُؤْمِنِ الَّذِي يَكْتَسِبُ الْخَيْرَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ لِعِبَادَتِهِمْ الْأَوْثَانَ الَّتِي لَا تَمْلِكُ شَيْئًا وَالْعُدُولِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ الَّذِي يَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ضُرُوبًا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ: أَحَدَهَا: قَوْلُهُ: {عَبْدًا مَمْلُوكًا} نَكِرَةً، فَهُوَ شَائِعٌ فِي جِنْسِ الْعَبِيدِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَا تُكَلِّمْ عَبْدًا وَأَعْطِ هَذَا عَبْدًا، أَنَّ ذَلِكَ يَنْتَظِمُ كُلَّ مَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} فَكُلُّ مَنْ لَحِقَهُ هَذَا الِاسْمُ قَدْ انْتَظَمَهُ الْحُكْمُ؛ إذْ كَانَ لَفْظًا مَنْكُورًا، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: {عَبْدًا مَمْلُوكًا} قَدْ انْتَظَمَ سَائِرَ الْعَبِيدِ.
ثُمَّ قَالَ: {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْقُدْرَةِ أَوْ نَفْيَ الْمِلْكِ أَوْ نَفْيَهُمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْقُدْرَةِ؛ إذْ كَانَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْقُدْرَةِ مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ أَقْدَرَ مِنْ الْحُرِّ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْقُدْرَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْمِلْكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ.
وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ مَثَلًا لِلْأَصْنَامِ فَشَبَّهَهَا بِالْعَبِيدِ الْمَمْلُوكِينَ فِي نَفْيِ الْمِلْكِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَإِلَّا زَالَتْ فَائِدَةُ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِهِ، وَكَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ ضَرْبُ الْمَثَلِ بِالْعَبْدِ وَالْحُرِّ سَوَاء وَأَيْضًا لَوْ أَرَادَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَبِيدِ مَنْ يَمْلِكُ لَقَالَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَلَمَّا خَصَّ الْعَبْدَ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَمْلِكُ.
فَإِنْ قِيلَ: رَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ يُعَلَّى بْنِ مُنْيَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رِجْلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَعَبْدِهِ ثُمَّ أَسْلَمَا، فَنَزَلَتْ الْأُخْرَى فِي رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ إلَى قوله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قَالَ: كَانَ مَوْلًى لِعُثْمَانَ كَانَ عُثْمَانُ يَكْفُلُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَعُثْمَانُ الَّذِي يُنْفِقُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَالْآخَرُ أَبْكَمُ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَبِيدِ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا كَمَا يَكُونُ فِي الْأَحْرَارِ مَنْ لَا يَمْلِكُ.
قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَنْفِيهَا لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لَعَرَّفَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِلَفْظٍ مَنْكُورٍ.
وَأَيْضًا مَعْلُومٌ أَنَّ الْخِطَابَ فِي ذِكْرِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ثُمَّ قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّ مَثَلَ مَا يَعْبُدُونَ مَثَلُ الْعَبِيدِ الْمَمَالِيكِ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَمْلِكُوا تَأْكِيدًا لِنَفْيِ أَمْلَاكِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ وَكَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ، مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ فَرْقٌ وَكَانَ تَخْصِيصُهُ الْعَبْدَ بِالذِّكْرِ لَغْوًا فَثَبَتَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ نَفْيُ مِلْكِ الْعَبِيدِ رَأْسًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْأَبْكَمَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أَرَادَ بِهِ عَبْدًا أَبْكَمَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} فَذِكْرُ الْمَوْلَى وَتَوْجِيهُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْعَبْدُ، كَأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا عَبْدًا غَيْرَ أَبْكَمَ وَجَعَلَهُ مَثَلًا لِلصَّنَمِ فِي نَفْيِ الْمِلْكِ، ثُمَّ زَادَهُ نَقْصًا بِقوله: {أَبْكَمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ عَبْدًا أَبْكَمَ مُبَالَغَةً فِي وَصْفِ الْأَصْنَامِ بِالنَّقْصِ وَقِلَّةِ الْخَيْرِ وَأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مُتَصَرَّفٌ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} ابْنَ عَمِّهِ لِأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ يُسَمَّى مَوْلًى.
قِيلَ لَهُ: هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّ ابْنَ الْعَمِّ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ ابْنِ عَمِّهِ وَلَا أَنْ يَكُونَ كَلًّا عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ تَوْجِيهُهُ فِي أُمُورِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لِلْأَبْكَمِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحُرَّ الَّذِي لَهُ ابْنُ عَمٍّ وَأَنَّهُ أَرَادَ عَبْدًا مَمْلُوكًا أَبْكَمَ وَعَلَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِذِكْرِ ابْنِ الْعَمِّ هاهنا لِأَنَّ الْأَبَ وَالْأَخَ وَالْعَمَّ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ ابْنِ الْعَمِّ وَأَوْلَى بِهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ يُزِيلُ فَائِدَتَهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أُطْلِقَ يَقْتَضِي مَوْلَى الرِّقِّ أَوْ مَوْلَى النِّعْمَةِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى ابْنِ الْعَمِّ إلَّا بِدَلَالَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَصْنَامَ لِأَنَّهُ قَالَ: عَبْدًا مَمْلُوكًا وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلصَّنَمِ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ أَغْفَلْت مَوْضِعَ الدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ عَبْدًا مَمْلُوكًا لَنَا وَجَعَلَهُ مَثَلًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَمَالِيكِنَا الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا، فَكَمَا أَنَّ الصَّنَمَ لَا يَمْلِكُ بِحَالٍ كَذَلِكَ الْعَبْدُ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْأَصْنَامَ عِبَادًا بِقَوْلِهِ: {إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي مِلْكِ الْعَبْدِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيُّ: الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ وَلَا يَتَسَرَّى.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَمْلِكُ وَيَتَسَرَّى.
وَقَدْ رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَكِّيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَا يَحِلُّ فَرْجُ الْمَمْلُوكِ إلَّا لِمَنْ إنْ بَاعَ أَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ أَوْ أَعْتَقَ جَازَ، يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَمْلُوكَ وَكَذَلِكَ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَكَمِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَسَرَّى.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْعَبْدَ يَتَسَرَّى، وَرَوَى يَعْمُرُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ يَرَى بَعْضَ رَقِيقِهِ يَتَّخِذُ السُّرِّيَّةَ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: يَتَسَرَّى الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ.
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ الْعَلَاء بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «الْعَبْدُ لَا يَتَسَرَّى» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ لَجَازَ لَهُ التَّسَرِّي بِقَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ جَعَلَهُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَخْرَجَ الْعَبْدَ مِنْهُ صِفْرًا بِلَا شَيْءٍ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ لِلْمَوْلَى أَخْذَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ لِأَجْلِ مِلْكِهِ لِرَقَبَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مِمَّنْ يَمْلِكُ لَمَا كَانَ لَهُ أَخْذُ مَا فِي يَدِهِ لِأَنَّ مَا بَانَ بِهِ الْعَبْدُ عَنْ مَوْلَاهُ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا مَلَكَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَوَطْءَ زَوْجَتِهِ فَهِيَ أَمَةٌ لِلْمَوْلَى لَمْ يَمْلِكْهُ الْمَوْلَى؟ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمَوْلَى مِنْهُ، فَلَوْ مَلَكَ الْعَبْدُ الْمَالَ لَمَا كَانَ لِلْمَوْلَى أَخْذُهُ مِنْهُ لِأَجْلِ مِلْكِهِ لَهُ كَمَا لَمْ يَمْلِكْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ.
فَإِنْ قِيلَ جَوَازُ أَخْذِ الْمَوْلَى مَالَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِأَنَّ لِلْغَرِيمِ أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي يَدِ الْمَدِينِ بِدَيْنِهِ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَ غَيْرُ مَالِكٍ.
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ لَا لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَدِينِ بَلْ لِأَجْلِ دَيْنِهِ الَّذِي عَلَيْهِ، وَالْمَوْلَى يَسْتَحِقُّهُ لِأَجْلِ مِلْكِهِ لِرَقَبَتِهِ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَالِكًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْلَى لِأَجْلِ مِلْكِهِ لِرَقَبَتِهِ كَمَا لَمْ يَمْلِكْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ لِرَقَبَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ.
وَدَلِيلٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَأَدَّاهُ أَنَّهُ يُعْتَقُ وَيَكُونُ الْوَلَاء لِلْمَوْلَى وَأَنَّهُ مُعْتَقٌ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ، فَلَوْ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ لِمِلْكِ رَقَبَتِهِ بِالْمَالِ الَّذِي أَدَّاهُ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ كَمَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُعْتِقَهُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ وَلَوْ مَلَكَ رَقَبَتَهُ لَعَتَقَ عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ لَا يَكُونُ الْوَلَاء لِلْمَوْلَى بَلْ كَانَ يَكُونُ وَلَاؤهُ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ انْتِقَالُ مِلْكِ رَقَبَتِهِ إلَيْهِ بِالْمَالِ وَعَتَقَ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَمْلِكُ لَكَانَ بِمِلْكِ رَقَبَتِهِ أَوْلَى إذْ كَانَتْ رَقَبَتُهُ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ التَّمْلِيكُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لِإِضَافَتِهِ الْمَالَ إلَيْهِ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ أَثْبَتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَالَ لِلْبَائِعِ فِي حَالِ الْبَيْعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى وَمِلْكًا لِلْعَبْدِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَمْلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ جَمِيعُ الْمَالِ فَفِي هَذَا الْخَبَرِ بِعَيْنِهِ إثْبَاتُ مَا أَضَافَ إلَى الْعَبْدِ مِلْكًا لِلْبَائِعِ، فَثَبَتَ أَنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْعَبْدِ عَلَى وَجْهِ الْيَدِ كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ دَارُ فُلَانٍ وَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا وَلَيْسَ بِمَالِكٍ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَلَمْ يُرِدْ إثْبَاتَ مِلْكِ الْأَبِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ بِكِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ السَّيِّدُ مَالَهُ فَيَكُونُ لَهُ».
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ قَبْلَ الْعِتْقِ لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدَهُ.
قِيلَ لَهُ: لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِأَنَّ مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الثِّيَابِ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عِنْدَ الْعِتْقِ، جَعَلَهُ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ وَجَعَلَ تَرْكَ الْمَوْلَى لِأَخْذِهِ مِنْهُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْهُ بِتَمْلِيكِهِ إيَّاهُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَأَيْضًا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ تَضْعِيفُهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ غَلِطَ فِي رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِي مَتْنِهِ، وَإِنَّ أَصْلَهُ مَا رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنْ نَافِعِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا لَمْ يَعْرِضْ لِمَالِهِ، فَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْحَدِيثِ، فَأَخْطَأَعُبَيْدُ اللَّهِ فِي رَفْعِهِ وَفِي لَفْظِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ خِلَافُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو مُسْلِمِ الْكَجِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ أَبِي الْمَسَاوِرِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَكَانَ مَمْلُوكًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: يَا عُمَيْرُ بَيِّنْ لِي مَالَك فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَك، إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي أَعْتَقَ} وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا.
وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْمَسْعُودِيَّ رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَلِكَ لَا يُفْسِدُهُ عِنْدَنَا.
فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وَذَلِكَ عَائِدٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ الْأَيَامَى وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاء، فَأَثْبَتَ لِلْعَبْدِ الْغِنَى وَالْفَقْرَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَمْلِكْ لَكَانَ أَبَدًا فَقِيرًا.
قِيلَ لَهُ: لَا يَخْلُو قَوْلُهُ: {إنْ يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْغِنَى بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ عَنْ الْحَرَامِ أَوْ الْغِنَى بِالْمَالِ فَلَمَّا وَجَدْنَا كَثِيرًا مِنْ الْمُتَزَوِّجِينَ لَا يَسْتَغْنُونَ بِالْمَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُخْبِرَ أَخْبَارِ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ كَائِنٌ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْغِنَى بِالْمَالِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْغِنَى بِالْوَطْءِ الْحَلَالِ عَنْ الْحَرَامِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ الْغِنَى بِالْمَالِ فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْأَيَامَى وَالْأَحْرَارِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ دُونَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي بِالْمَالِ عِنْدَ مُخَالِفِنَا لِأَنَّ الْمَوْلَى أَوْلَى بِجَمِيعِ مَالِهِ مِنْهُ، فَأَيُّ غِنًى فِي مَالٍ يَحْصُلُ لَهُ وَغَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، فَالْغِنَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنَّمَا يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى دُونَ الْعَبْدِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ غَنِيًّا بِالْمَالِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدُّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ».
وَعِنْدَ مُخَالِفِنَا أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ، فَلَوْ كَانَ غَنِيًّا لَوَجَبَ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ؛ إذْ هُوَ مُسْلِمٌ غَنِيٌّ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ وَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ كَالْحُرِّ.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا مَلَكَ الْعَبْدُ الطَّلَاقَ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُهُ مِنْهُ، فَلَوْ مَلَكَ الْعَبْدُ الْمَالَ وَجَبَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمَوْلَى مِنْهُ وَأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَخْذُهُ مِنْهُ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُهُ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الرِّقِّ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِهِ لَزِمَهُ؟ وَكَذَلِكَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْنًى يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْهُ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِقِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ؛ إذْ لَوْ مَلَكَهُ لَمَا جَازَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ كَمَا لَا يَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ حِينَ كَانَ الْعَبْدُ يَمْلِكُهُ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأولى:
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي قَوْلٍ، وَلِلْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فِي قَوْلٍ آخَرَ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هُوَ الْكَافِرُ، وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا هُوَ الْمُؤْمِنُ، آتَاهُمَا اللَّهُ مَالًا كَثِيرًا وَرِزْقًا وَاسِعًا، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَبَخِلَ بِهِ وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَقَلَّبَ بِهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ يَمِينًا وَشِمَالًا هَكَذَا وَهَكَذَا سِرًّا وَجِهَارًا.
وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمَخْلُوقِ وَالْخَالِقِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ هُوَ الصَّبِيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لِغِرَارَتِهِ وَجَهَالَتِهِ، كَمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}.
وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} لِلَّهِ.
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ بَيَّنَّاهُ فِي قَانُونِ التَّأْوِيلِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ فِيهِ، وَقَالَ: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} يَعْنِي لَا تَضْرِبُوا أَنْتُمْ الْأَمْثَالَ لِلَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ وَيُرِيدُ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا تَقُولُونَ وَمَا تُرِيدُونَ، إلَّا إذَا عَلِمْتُمْ وَأَذِنَ لَكُمْ فِي الْقَوْلِ.
المسألة الثانية:
قَوْلُهُ: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، فَلَيْسَ يَقْتَضِي الشُّمُولَ، وَلَا يُعْطِي الْعُمُومَ؛ وَإِنَّمَا يُفِيدُ وَاحِدًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ يَقْدِرُ بِأَنْ يُقْدِرَهُ مَوْلَاهُ، فَيَنْقَسِمُ حَالُ الْعَبِيدِ الْمَمَالِيكِ إلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ لَا يَقْدِرُ.
الثَّانِي: أَنْ يَقْدِرَ بِأَنْ تُوضَعَ لَهُ الْقُدْرَةُ، وَيُمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَقْدِرُ وَإِنْ أُقْدِرَ وَلَا يَمْلِكُ وَإِنْ مُلِّكَ.
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ.
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ، فَلَا يَمْلِكُ.
أَصْلُهُ الْبَهِيمَةُ قَالَ أَهْلُ خُرَاسَانَ: وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تُنَافِي الْمَالِكِيَّةَ؛ فَإِنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تَقْتَضِي الْحَجْرَ وَالْمَنْعَ، وَالْمَالِكِيَّةَ تَقْتَضِي الْإِذْنَ وَالْإِطْلَاقَ؛ فَلَمَّا تَنَاقَضَا لَمْ يَجْتَمِعَا.
وَقَالَ عُلَمَاؤنَا: إنَّ الْحَيَاةَ وَالْآدَمِيَّةَ عِلَّةُ الْمِلْكِ، فَهُوَ آدَمِيٌّ حَيٌّ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَ كَالْحُرِّ، وَإِنَّمَا طَرَأَعَلَيْهِ الرِّقُّ عُقُوبَةً، فَصَارَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ حَقُّ الْحَجْرِ، وَذِمَّتُهُ خَالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ وَفَكَّ الْحَجْرَ عَنْهُ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فِي الْمَالِكِيَّةِ بِعِلَّةِ الْحَيَاةِ وَالْآدَمِيَّةِ وَبَقَاء ذِمَّتِهِ خَالِيَةً عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ»، فَأَضَافَ الْمَالَ إلَى الْعَبْدِ، وَمَلَّكَهُ إيَّاهُ، وَجَعَلَهُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ إضَافَةُ مَحَلٍّ، كَمَا يُقَالُ سَرْجُ الدَّابَّةِ وَبَابُ الدَّارِ، فَيُضَافُ ذَلِكَ إلَيْهَا، إضَافَةَ مَحَلٍّ لَا إضَافَةَ تَمْلِيكٍ.
قُلْنَا: إنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ إضَافَةُ مَحَلٍّ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ وَالدَّارَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْمِلْكُ وَلَا يَصِحُّ لَهُمَا التَّمْلِيكُ؛ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ آدَمِيٌّ حَيٌّ، فَصَحَّ أَنْ يَمْلِكَ وَيُمَلَّكَ، وَجَازَ أَنْ يَقْدِرَ وَيُقْدَرَ.
وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لِرَأْيِهِمْ الْمُفْسِدُ لِكَلَامِهِمْ أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي النِّكَاحِ جَازَ، فَنَقُولُ: مَنْ مَلَكَ الْأَبْضَاعَ مَلَكَ الْمَتَاعَ كَالْحُرِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبُضْعَ أَشْرَفُ مِنْ الْمَالِ، فَإِذَا مَلَكَ الْبُضْعَ بِالْإِذْنِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْحُرْمَةِ بِالْإِذْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا جَازَ لَهُ النِّكَاحُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يَشْتَهِي طَبْعًا؛ فَلَوْ مَنَعْنَاهُ اسْتِيفَاء شَهْوَتِهِ الْجِبِلِّيَّةِ لَأَضْرَرْنَا بِهِ، وَلَوْ سَلَّطْنَاهُ عَلَى اقْتِضَائِهَا بِصِفَةِ الْبَهَائِمِ، لَعَطَّلْنَا التَّكْلِيفَ؛ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ لَهُ؛ إذْ لَا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِالْبُضْعِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ الْمَالِ، فَإِنَّهُ يُسْتَبَاحُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِالْأَكْلِ وَاللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ، وَيَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَهَذِهِ عُمْدَتُهُمْ.
وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا عُلَمَاؤنَا بِأَجْوِبَةٍ كَثِيرَةٍ؛ عُمْدَتُهَا أَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تُبِيحُ الْفُرُوجَ، وَإِنَّمَا إبَاحَتُهَا فِي الْأَصْلِ طَلَبًا لِلنَّسْلِ بِتَكْثِيرِ الْخَلْقِ، وَتَنْفِيذًا لِلْوَعْدِ؛ فَبِهَذِهِ الْحِكْمَةِ وُضِعَتْ إبَاحَتُهَا، وَشُرِعَ النِّكَاحُ لِاسْتِبْقَائِهَا.
فَقَوْلُهُمْ: إنَّهَا أُبِيحَتْ ضَرُورَةً غَلَطٌ.
وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ مُبَاحًا لَهُ بِالضَّرُورَةِ لَتَقَدَّرَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إلَّا نِكَاحُ وَاحِدَةٍ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهَا رُبَّمَا لَا تَعْصِمُهُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تُبَلِّغُوهُ إلَى أَرْبَعٍ، كَمَا قَالَ عُلَمَاؤنَا، فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا جَرَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، لَا بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تُنَاقِضُ الْمَالِكِيَّةَ عَلَى مَا بَسَطُوهُ، فَلَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُنَاقِضُهَا إذَا تَقَابَلَتَا بِالْبُدَاءةِ.
فَأَمَّا إذْ كَانَ الْحَجْرُ طَارِئًا بِالرِّقِّ، وَكَانَ الْأَصْلُ بِالْحَيَاةِ وَالْآدَمِيَّةِ الْإِطْلَاقُ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْفَعَ الْمَالِكُ لِلْحَجْرِ حُكْمَهُ بِالْإِذْنِ، كَمَا يَرْتَفِعُ فِي النِّكَاحِ.
وَلَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْ هَذَا. اهـ.