فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

ثم علمهم كيفيةَ ضرب الأمثال في هذا الباب فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلًا} أي ذكر وأورد شيئًا يُستدل به على تباين الحالِ بين جنابه عز وجل وبين ما أشركوا به، وعلى تباعدهما بحيث ينادى بفساد ما ارتكبوه نداء جليًا {عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} بدلٌ من مثلًا وتفسيرٌ له، والمثَلُ في الحقيقة حالتُه العارضة له من المملوكية والعجزِ التامّ، وبحسَبها ضربُ نفسِه مثلًا، ووصفُ العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدين لله سبحانه وقد أُدمج فيه أن الكل عبيدٌ له تعالى، وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتَب والمأذون اللَّذين لهما التصرّف في الجملة، وفي إبهام المثلِ أولًا ثم بيانِه بما ذكر ما لا يخفى من الفخامة والجزالة {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} مَنْ موصوفةٌ معطوفة على عبدًا أي رزقناه بطريق المُلك، والالتفاتُ إلى التكلم للإشعار باختلاف حالَيْ ضرب المثل والرزق {مِنَّا} من جنابنا الكبير المتعالي {رِزْقًا حَسَنًا} حلالًا طيبًا أو مستحسَنًا عند الناس مرضيًا {فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ} تفضّلًا وإحسانًا، والفاء لترتيب الإنفاق على الرزق كأنه قيل: ومَنْ رزقناه منا رزقًا حسنًا فأنفق، وإيثارُ ما عليه النظم الكريم من الجلمة الاسميةِ الفعليةِ الخبر للدِلالة على ثبات الإنفاقِ واستمرارِه التجدديّ {سِرّا وَجَهْرًا} أي حالَ السر والجهر أو إنفاقَ سرَ وإنفاقَ جهر، والمرادُ بيانُ عمومِ إنفاقِه للأوقات وشمولِ إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهرًا، والإشارةُ إلى أصناف نعمِ الله تعالى الباطنةِ والظاهرةِ وتقديمُ السر على الجهر للإيذان بفضله عليه، والعدولُ عن تطبيق القرينيتن بأن يقال وحرًّا مالكًا للأموال مع كونه أدلَّ على تباين الحالِ بينه وبين قسميه لتوخّي تحقيقِ الحقِّ بأن الأحرارَ أيضًا تحت ربقة عبوديتِه سبحانه وتعالى وأن مالكيتَهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزُقَهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخلٌ في ذلك مع محاولة المبالغة في الدِلالة على ما قُصد بالمثل من تباين الحالِ بين الممثَّلين فإن العبدَ المملوك حيث لم يكن مثلَ العبد المالكِ فما ظنُّك بالجماد ومالكِ المُلك خلاّق العالمين.
{هَلْ يَسْتَوُونَ} جمعُ الضمير للإيذان بأن المرادَ بما ذكر مَن اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما أي يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيانِ في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما ينفقه الأحرارُ ليس مما لهم دخلٌ في إيجاده ولا في تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستوِ الفريقان فما ظنُّكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليلَ أذلُّ منه وهو الأصنام {الحمد للَّهِ} أي كلُّه له لأنه مولى جميع النعم لا يستحقه أحدٌ غيرُه وإن ظهرت على أيدي بعض الوسايط فضلًا عن استحقاق العبادة، وفيه إرشادٌ إلى ما هو الحقُّ من أنّ ما يظهر على يد مَنْ ينفق مما ذكر ارجعٌ إليه سبحانه كما لوح به قوله تعالى: {رَّزَقْنَاهُ} {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ما ذكر فيُضيفون نعمَه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها، ونفيُ العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لا يعملون بموجبه عنادًا كقوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون}.
{وَضَرَبَ الله مَثَلًا} أي مثلًا آخرَ يدل على ما دل عليه المثلُ السابقُ على وجه أوضحَ وأظهرَ وبعد ما أبهم ذلك لتنتظرَ النفسُ إلى وروده وتترقبه حتى يتمكّن لديها عند ورودِه {فضل تمكن} بيّن فقيل: {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} وهو من وُلد أخرسَ {لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} من الأشياء المتعلّقةِ بنفسه أو بغيره بحدْس أو فراسة لقِلة فهمِه وسوءِ إدراكِه {وَهُوَ كَلٌّ} ثِقَلٌ وعِيالٌ {على مَوْلاهُ} على مَن يعوله ويلي أمرَه، وهذا بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ نفسه بعد ذكر عدم قدرتِه على شيء مطلقًا، وقوله تعالى: {أَيْنَمَا يُوَجّههُّ} أي حيث يرسله مولاه في أمر، بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ مولاه ولو كانت مصلحةً يسيرة، وقرئ على البناء للمفعول وعلى صيغة الماضي من التوجه {لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} بنُجْح وكفايةِ مُهمّ البتةَ.
{هَلْ يَسْتَوِى هُوَ} مع ما فيه من الأوصاف المذكورةِ {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} أي مَنْ هو مِنطيقٌ فهِمٌ ذو رأي وكفاية ورشد ينفع الناسَ بحثهم على العدل الجامع لمجامعِ الفضائل {وَهُوَ} في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام للخاص والعام {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} ومقابلةُ الصفاتِ المذكورة عدمُ استحقاقِ المأمورية، وملخصُ هذين استحقاقُ كمالِ الآمرية المستتبِعِ لحيازة المحاسنِ بأجمعها، وتغييرُ الأسلوب حيث لم يقل: والآخر آمرٌ بالعدل الآية، لمراعاة الملاءمةِ بينه وبين ما هو المقصودُ من بيان التبايُنِ بين القرينتين، واعلم أن كلًا من الفعلين ليس المرادُ بهما حكايةَ الضربِ الماضي بل المرادُ إنشاؤه بما ذُكر عَقيبه، ولا يبعُد أن يقال: إن الله تعالى ضرب مثلًا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقُهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يشركون، فيكون كلٌّ من الفعلين حكايةً للضرب الماضي. اهـ.

.قال الألوسي:

ووجه ربط قوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلًا} إلخ. على هذا عند المدقق أنه تعالى بعد أن نهاهم عن ضرب الأمثال له سبحانه ضرب مثلًا دل به على أنهم ليسوا أهلًا لذلك وانهم إذا كانوا على هذا الحد من المعرفة والتقليد أو المكابرة فليس لهم إلى ضرب الأمثال المطابقة المستدعي ذكاء وهداية سبيل، وقال غيره في ذلك ولعله أظهر منه: إنه تعالى لما ذكر أنه يعلم كيف تضرب الأمثال وانهم لا يعلمون علمهم كيف تضرب الأمثال في هذا الباب فقال تعالى: {ضَرَبَ} إلخ..
ووجه الربط على ما تقدم من أن انلهي عن الإشراك أنه سبحانه لما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك عقبه بالكشف لذي البصيرة عن فساد ما ارتكبوه بقوله سبحانه: {ضَرَبَ} إلخ. أي أورد وذكر ما يستدل به على تباين الحال بين جنابه تعالى شأنه وبين ما أشركوه به سبحانه وينادي بفساد ما هم عليه نداء جليًا {عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} بدل من مثلا وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام وبحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدًا الله تعالى، وقد أدمج فيه على ما قيل إن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدر لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة، وفي إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر ما لا يخفى من الجزالة {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} {مِنْ} نكرة موصوفة على ما استظهره الزمخشري ليطابق {عَبْدًا} فإنه أيضًا نكرة موصوفة وإلى ذلك ذهب أبو البقاء، وقال الحوفي: هي موصولة واستظهره أبو حيان، وزعم بعضهم ان ذلك لكون استعمالها موصولة أكثر من استعمالها موصوفة، والأول مختار الأكثرين أي حرا رزقناه بطريق الملك؛ والالتفات إلى التكلم للإشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق، وفي اختيار ضمير العظمة تعظيم لأمر ذلك الرزق ويزيد ذلك تعظيمًا قوله سبحانه: {مِنَّا} أي من جنابنا الكبير المتعالي {رِزْقًا حَسَنًا} حلالًا طيبًا أو مستحسنًا عند الناس مرضيًا ويؤخذ منه على ما قيل كونه كثيرًا بناء على أن القلة التي هي أخت العدم لا حسن في ذتها {فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ} تفضلًا وإحسانًا، والفاء لترتب الانفاق على الرزق كأنه قيل: ومن رزقناه منا رزقًا حسنًا فأنفق وإيثار المنزل من الجملة الاسمية الفعلية الخبر للدلالة على ثبات الإنفاق واستمراره التجددي {سِرّا وَجَهْرًا} أي حال السر وحال الجهر أو إنفاق سر وإنفاق جهر والمراد بيان عموم انفاقه للأوقات وشمول انعامة لمن يجتنب عن قبوله جهرًا.
وجوز أن يكون وصفه بالكثرة مأخوذًا من هذا بناء أن المراد منه كيف يشاء وهو يدل على انحاء التصرف وسعة المتصرف منه، وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه، وقد مر الكلام في ذلك؛ والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال: وحرا مالكًا للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لما في ارشاد العقل السليم من توخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضًا تحت ربقة عبوديته تعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين {هَلْ يَسْتَوُونَ} جمع الضمير وأن تقدمه اثنان وكان الظاهر يستويان للإيذان بأن المراد بما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما وان أخرج ابن عساكر وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سرًا وجهرًا وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان بنهاه والله تعالى أعلم بصحته.
وقيل نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وعبد له ولا يصح إسناده كما في البحر، وفيه أنه يحتمل أن يكون الجمع باعتبار أن المراد بمن الجمع وأن يكون باعتبار عود الضمير على العبيد والأحرار وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة {عَبْدُ شيء وَمَن رَّزَقْنَاهُ} عليهما، والمعول عليه ما ذكر أولًا، والمعنى هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده ولا تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذله منه وهو الاصنام، وقيل: إن هذا تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق شبه الأول بمملوك لا تصرف له لأنه لا حباط عمله وعدم الاعتداد بأفعاله واتباعه لهواه كالعبد المنقاد الملحق بالبهائم بخلاف المؤمن الموفق، وجعله تمثيلًا لذلك مروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقتادة ولا تعيين أيضًا وإن قيل: إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأبي جهل، على أن أبا حيان قال إنه لا يصح إسناد ذلك، هذا ثم أعلم أنهم اختلفوا في العبد هل يصح له ملك أم لا قال في الكشاف: المذهب الظاهر أنه لا يصح وبه قال الشافعي، وقال ابن المنير على ما لخصه في الكشف من كلام طويل إنه يصح له الملك عند مالك: وظاهر الآية تشهد له لأنه أثبت له العجز بقوله تعالى: {مَّمْلُوكًا} ثم نفى القدرة العارضة بتمليك السيد بقوله سبحانه: {لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} وليس المعنى القدرة على التصرف لأن مقابله {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} والحمل على إخراج المكاتب مع شذوذه إيجاز مع اخلال كما قال امام الحرمين رحمه الله تعالى في «أيما أمرأة نكحت بغير اذن وليها» الحمل على المكاتبة بعيد لا يجوز والمأذون لم يخرج لما مر من أن المراد بالقدرة ما هو، وليس لقائل أن يقول: إنه صفة لازمة موضحة فالأصل في الصفات التقييد. اهـ.
وتعقبه المدقق بقوله: والجواب أن المعنى على نفي القدرة عن التصرف فالآية واردة في تمثيل حال الاصنام به تعالى عن ذلك علوا كبيرًا وكلما بولغ في حال عجز المشبه به وكمال المقابل دل في المشبه به أيضًا على ذلك فالذي يطابق المقام القدرة على التصرف وهو في مقابلة قوله تعالى: {يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا} وما ذكره لا حاصل له ولا إخلال في إخراج المكاتب لشمول اللفظ مع أن المقام مقام مبالغة فما يتوهم دخوله بوجه ينبغي أن ينفي وأين هذا مما نقله عن إمام الحرمين. اهـ.
واستدل بالآية أيضًا على أن العبد لا يملك الطلاق أيضًا وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: ليس للعبد طلاق إلا باذن سيده وقرأ الآية؛ وقد فصلت أحكام العبيد في حكم الفقه على أتم وجه {الحمد للَّهِ} أي كله له سبحانه لا يستحقه أحد غيره تعالى لأنه جل شأنه الملوى للنعم وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائل فضلًا عن استحقاق العبادة.
وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق فيما ذكر راجع إليه تعالى كما لوج به {رَّزَقْنَاهُ} وقال غير واحد هذا حمد على ظهور المحجة وقوة هذه الحجة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجل أو لا يعلمون ظهور ذلك وقوة ما هنالك فيبقون على شركهم وضلالهم، ونفي العلم عن أكثرهم للاشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لم يعملوا بموجبه عنادًا؛ وقيل: المراد بالأكثر الكل فكأنه قيل: هم لا يعلمون، وقيل: ضمير {هُمْ} للخلق والأكثر هم المشركون، وكلا القولين خلاف الظاهر.
{وَضَرَبَ الله مَثَلًا} أي مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح، وأبهم ثم بين بقوله تعالى: {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا} لما تقدم والبكم الخرس المقارن للخلقة ويلزمه الصمم فصاحبه لا يفهم لعدم السمع ولا يفهم غيره لعدم النطق، والإشارة لا يعتد بها لعدم تفهيمها حق التفهيم لكل أحد فكأنه قيل: أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم {مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} من الأشياء المتعلقة بنفسه أو غيره بحدس أو فراسة لسوء فهمه وإدراكه {وَهُوَ كَلٌّ} ثقيل وعيال {على مَوْلاهُ} على من يعوله ويلي أمره، وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصاله نفسه بعد ذكر عدم قدرته مطلقًا، وقوله سبحانه: {أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي حيثما برسله مولاه في أمر لا يأت بنجح وكفاية مهم، بيان لعدم قدرته على مصالح مولاه.
وقرأ عبد الله في رواية {توجهه} على الخطاب، وقرأ علقمة وابن وئاب ومجاهد وطلحة وهي رواية أخرى عن عبد الله: {يوجه} بالبناء للفاعل والجزم، وخرج على أن الفاعل يعود على المولى والمفعول محذوف وهو ضمير الا بكم أي يوجهه، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدًا على الا بكم ويكون الفعل لازم وجه بمعنى توجه، وعلى ذلك جاء قول الاضبط بن قريع السعدي:
أينما أوجه ألق سعدا

وعن علقمة وطلحة وابن وثاب أيضًا {يوجه} بالجزم والبناء للمفعول، وفي رواية أخرى عن علقمة.
وطلحة أنهما قرءا {يوجه} بكسر الجيم وضم الهاء، قال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك فالهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارًا من التضعيف أو لم يرد بأينما الشرط، والمراد أينما هو يوجه وقد حذف منه ضمير المفعول به فيكون حذف الياء من آخر {لَمْ يَأْتِ} للتخفيف، وتعقبه أبو حيان بأن أين لا تخرج عن الشرط أو الاستفهام.
ونقل عن أبي حاتم أن هذه القراءة ضعيفة لأن الجزم لازم، ثم قال: والذي توجه به هذه القراءة أن {أَيْنَمَا} شرط حملت على إذا بجامع ما اشتركا فيه من الشرط ثم حذفت ياء {يَأْتِ} تخفيفًا أو جزم على توهم أنه جيء بأينما جازمة كقراءة من قرأ: {إنه من يتقي ويصبر} [يوسف: 90]. في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه كما مر آنفًا {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ} أي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات المذكورة {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} ومن هو منطيق فهم ذو رأي ورشد يكفي الناس في مهماتهم وينفعهم بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل {وَهُوَ} في نفسه مع ما ذكر من نفعه الخاص والعام {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي، فالجملة حالية مبينة لكماله في نفسه ولما كان ذلك مقدمًا على تكميل الغير أتى بها اسمية فإنها تشعر بذلك مع الثبوت إلى مقارنة ذي الحال، فلا يقال الأنسب تقديمها في النظم الكريم، ومقابلة تلك الصفات الأربع بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلها ونهايته فاختير آخر صفات الكامل المستدعية لما ذكر وأزيد حيث جعل هاديًا مهديًا، وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: والآخر يأمر بالعدل الآية لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين الفريقين، ويقال هنا كما قيل في المثل السابق: إنه حيث لم يستو الفريقان في الفضل والشرف مع استوائهما في الماهية والصورة فلأن يحكم بأن الصنم الذي لا ينطق ولا يسمع وهو عاجز لا يقدر على شيء كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويمسح عنه الأذى إذا وقع عليه ويخدمه وإن وجهه إلى أي مهم من مهماته لا ينفعه ولا يأت له به لا يساوي رب العالمين وهو هو في استحقاق المعبودية أحرى وأولى، وقيل: هذا تمثيل للمؤمن والكافر فالأبكم هو الكافر ومن يأمر بالعدل هو المؤمن، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإيامًا كان فليس المراد برجلين رجلان متصفان بما ذكر من الصفات مطلقاف، وما روي من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار أو الأبكم أبي ابن خلف والآمر عثمان بن مظعون فقال أبو حيان: لا يصح إسناده، وما أخرج ابن جرير وابن عساكر وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية {وَضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلَيْنِ} إلخ. في عثمان بن عفان ومولى له كافر وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤنة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما فبعد تحقق صحته لا يضرنا في إرادة الموصوفين مطلقًا بحيث يدخل فيهما من ذكر.
فقد صرحوا بأن خصوص السبب لا ينافي العمون.
هذا وقد اقتصر شيخ الإسلام على كون الغرض من التمثيلين نفي المساواة بينه جل جلاله وبين ما يشركون، وهو دليل على أنه مختاره ثم قال: اعلم أن كلا الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب الماضي بل المراد انشاؤه بما ذكر عقيبه، ولا يبعد أن يقال: إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وتعالى وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضي اه، ولا يخفى أنه لا كلام في حسن اختياره لكن في النفس من قوله لا يبعد شيء. اهـ.