فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا}.
أعقب زجرهم عن أن يشبّهوا الله بخلقه أو أن يشبّهوا الخلق بربّهم بتمثيل حالهم في ذلك بحال من مثل عبدًا بسيّده في الإنفاق، فجملة: {ضرب الله مثلًا عبدًا} إلخ. مستأنفة استئنافًا بيانيًا ناشئًا عن قوله تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يملك رزقًا من السموات والأرض شيئًا ولا يستطيعون} [سورة النحل: 73].
فشبّه حال أصنامهم في العجز عن رزقهم بحال مملوك لا يقدر على تصرّف في نفسه ولا يملك مالًا، وشبّه شأن الله تعالى في رَزقه إيّاهم بحال الغنيّ المالك أمر نفسه بما شاء من إنفاق وغيره، ومعرفة الحالين المشبّهتين يدلّ عليها المقام، والمقصود نفي المماثلة بين الحالتيْن، فكيف يزعمون مماثلة أصنامهم لله تعالى في الإلهية، ولذلك أعقب بجملة {هل يستوون}.
وذيّل هذا التمثيل بقوله تعالى: {بل أكثرهم لا يعلمون} كما في سورة إبراهيم (26) {ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة} إلى قوله تعالى: {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة} الآية، فإن المقصود في المقامين متّحد، والاختلافُ في الأسلوب إنما يومىء إلى الفرق بين المقصود أولًا والمقصود ثانيًا كما أشرنا إليه هنالك.
والعبد: الإنسان الذي يملكه إنسان آخر بالأسر أو بالشّراء أو بالإرث.
وقد وُصف {عبدًا} هنا بقوله: {مملوكًا} تأكيدًا للمعنى المقصود وإشعارًا لما في لفظ عبد من معنى المملوكية المقتضية أنه لا يتصرّف في عمله تصرف الحرّية.
وانتصب {عبدًا} على البدلية من قوله تعالى: {مثلًا} وهو على تقدير مضاف، أي حال بعد، لأن المثل هو للهيئة المنتزعة من مجموع هذه الصّفات.
وجملة {لا يقدر على شيء} صفة {عبدًا}، أي عاجزًا عن كلّ ما يقدر عليه الناس، كأن يكون أعمى وزمنًا وأصمّ، بحيث يكون أقل العبيد فائدة.
فهذا مَثَل لأصنامهم، كما قال تعالى: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون أموات غير أحياء} [سورة النحل: 20]، وقوله تعالى: {إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقًا} [سورة العنكبوت: 17].
و{من} موصولة ما صدْقها حُرّ، بقرينة أنه وقع في مقابلة عبد مملوك، وأنه وصف بالرزق الحسن فهو ينفق منه سرًّا وجهرًا، أي كيف شاء.
وهذا من تصرّفات الأحرار، لأن العبيد لا يملكون رزقًا في عرف العرب.
وأما حكم تملّك العبد مالًا في الإسلام فذلك يرجع إلى أدلّة أخرى من أصول الشريعة الإسلامية ولا علاقة لهذه الآية به.
والرزق: هنا اسم للشيء المرزوق به.
والحَسن: الذي لا يشوبه قبح في نوعه مثل قِلّة وجدان وقت الحاجة، أو إسراع فسادٍ إليه كسوس البُرّ، أو رداءة كالحشف.
ووجه الشبه هو المعنى الحاصل في حال المشبّه به من الحقارة وعدم أهليّة التصرّف والعجز عن كل عمل، ومن حال الحرية والغنى والتصرّف كيف يشاء.
وجعلت جملة {فهو ينفق منه} مفرّعة على التي قبلها دون أن تجعل صفة للرزق للدّلالة على أن مضمون كلتا الجملتين مقصودٌ لذاته كمالٌ في موصوفه، فكونه صاحب رزق حَسَن كمال، وكونه يتصرّف في رزقه بالإعطاء كمال آخر، وكلاهما بضدّ نقائص المملوك الذي لا يقدر على شيء من الإنفاق ولا ما ينفق منه.
وجعل المسند فعلًا للدّلالة على التقوّي، أي ينفق إنفاقًا ثابتًا.
وجعل الفعل مضارعًا للدّلالة على التجدّد والتكرر.
أي ينفق ويزيد.
و{سرًا وجهرًا} حالان من ضمير {ينفق}، وهما مصدران مؤوّلان بالصّفة، أي مُسرًّا وجاهرًا بإنفاقه.
والمقصود من ذكرهما تعميم الإنفاق، كناية عن استقلال التصرّف وعدم الوقاية من مانع إيّاه عن الإنفاق.
وهذا مثَل لغنى الله تعالى وجوده على الناس.
وجملة {هل يستوون} بيان لجملة {ضرب الله مثلًا}، فبُيّن غرض التشبيه بأنّ المثل مراد منه عدم تساوي الحالتين ليستدلّ به على عدم مساواة أصحاب الحالة الأولى لصاحب الصّفة المشبّهة بالحالة الثانية.
والاستفهام مستعمل في الإنكار.
وأما جملة {الحمد لله} فمعترضة بين الاستفهام المفيد للنفي وبين الإضراب بـ {بل} الانتقالية.
والمقصود من هذه الجملة أنه تبيّن من المثل اختصاص الله بالإنعام فوجب أن يختصّ بالشكر وأن أصنامهم لا تستحقّ أن تشكر.
ولما كان الحمد مظهرًا من مظاهر الشكر في مظهر النّطق جعل كناية عن الشكر هنا، إذ كان الكلام على إخلال المشركين بواجب الشكر إذْ أثنوا على الأصنام وتركوا الثناء على الله، وفي الحديث: «الحمدُ رأس الشّكر».
جيء بهذه الجملة البليغة الدّلالة المفيدة انحصار الحمد في مِلْك الله تعالى، وهو إما حصر ادّعائي لأن الحمد إنما يكون على نعمة، وغير الله إذا أنعم فإنما إنعامه مظهر لنعمة الله تعالى التي جرت على يديه، كما تقدم في صدر سورة الفاتحة، وإما قصر إضافي قصرَ إفراد للردّ على المشركين إذ قسموا حمدهم بين الله وبين آلهتهم.
ومناسبة هذا الاعتراض هنا تقدُّم قوله تعالى: {وبنعمت الله هم يكفرون} [سورة النحل: 72]. {ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقًا} [سورة النحل: 73].
فلما ضرب لهم المثل المبيّن لخطئهم وأعقب بجملة {هل يستوون} ثُني عنان الكلام إلى الحمد لله لا للأصنام.
وجملة {بل أكثرهم لا يعلمون} إضراب للانتقال من الاستدلال عليهم إلى تجهيلهم في عقيدتهم.
وأسند نفي العلم إلى أكثرهم لأن منهم من يعلم الحقّ ويكابر استبقاء للسيادة واستجلابًا لطاعة دهمائهم، فهذا ذَمّ لأكثرهم بالصراحة وهو ذمّ لأقلّهم بوصمة المكابرة والعناد بطريق التعريض.
وهذا نظير قوله تعالى في سورة الزمر (29): {ضرب الله مثلًا رجلًا فيه شركاء متشاكسون ورجلًا سلَما لرجل هل يستويان مثلًا الحمدُ لله بل أكثرهم لا يعلمون} وإنما جاءت صيغة الجمع في قوله تعالى: {هل يستوون} لمراعاة أصحاب الهيئة المشبّهة، لأنها أصنام كثيرة كل واحد منها مشبّه بعبد مملوك لا يقدر على شيء، فصيغة الجمع هنا تجريد للتمثيلية، أي هل يستوي أولئك مع الإله الحقّ القادر المتصرّف.
وإنما أجري ضمير جمعهم على صيغة جمع العالم تغليبًا لجانب أحد التمثيلين وهو جانب الإله القادر.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}.
هذا تمثيل ثانٍ للحالتين بحالتين باختلاف وجه الشبّه.
فاعتبر هنا المعنى الحاصل من حال الأبكم، وهو العجز عن الإدراك، وعن العمل، وتعذّر الفائدة منه في سائر أحواله؛ والمعنى الحاصل من حال الرجل الكامل العقل والنّطق في إدراكه الخيرَ وهديه إليه وإتقاننِ عمله وعمل من يهديه، ضربه الله مثلًا لكماله وإرشاده الناس إلى الحقّ، ومثلًا للأصنام الجامدة التي لا تنفع ولا تضرّ.
وقد قرن في التمثيل هنا حال الرجلين ابتداء، ثم فصل في آخر الكلام مع ذكر عدم التّسوية بينهما بأسلوب من نظم الكلام بديع الإيجاز، إذ حذف من صدر التمثيل ذكر الرجل الثاني للاقتصار على ذكره في استنتاج عدم التسوية تفنّنًا في المخالفة بين أسلوب هذا التمثيل وأسلوب سابقه الذي في قوله تعالى: {ضرب الله مثلًا عبدًا مملوكًا} [سورة النحل: 75].
ومثْل هذا التفنّن من مقاصد البلغاء كراهية للتكرير لأن تكرير الأسلوب بمنزلة تكرير الألفاظ.
والأبكم: الموصوف بالبَكم بفتح الباء والكاف وهو الخَرَس في أصل الخلقة من وقت الولادة بحيث لا يفهم ولا يُفهم.
وزيد في وصفه أنه زَمِنٌ لا يقدر على شيء.
وتقدّم عند قوله تعالى: {صم بكم عمي} في أول سورة البقرة (18).
والكَلّ بفتح الكاف العالَة على الناس.
وفي الحديث مَن تَرَك كَلاّ فعلينا، أي من ترك عِيالًا فنحن نكفلهم.
وأصل الكلّ: الثّقَل.
ونشأت عنه معانٍ مجازية اشتهرت فساوت الحقيقة.
والمولى: الذي يلي أمر غيره.
والمعنى: هو عالة على كافله لا يدبّر أمر نفسه.
وتقدّم عند قوله تعالى: {بل الله مولاكم} في سورة آل عمران (15)، وقوله تعالى: {وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ} في سورة يونس (30).
ثم زاد وصفه بقلّة الجدوى بقوله تعالى: {أينما يوجّهه}، أي مولاه في عمل ليعمله أو يأتي به لا يأتتِ بخير، أي لا يهتدي إلى ما وجّه إليه، لأن الخير هو ما فيه تحصيل الغرض من الفعل ونفعه.
ودلّت صلة {يأمر بالعدل} على أنه حكيم عالم بالحقائق ناصح للناس يأمرهم بالعدل لأنه لا يأمر بذلك إلا وقد علمه وتبصّر فيه.
والعدل: الحقّ والصواب الموافق للواقع.
والصراط المستقيم: المحجّة التي لا التواء فيها.
وأطلق هنا على العمل الصالح، لأن العمل يشبّه بالسيرة والسلوك فإذا كان صالحًا كان كالسلوك في طريق موصلة للمقصود واضحة فهو لا يستوي مع من لا يعرف هدى ولا يستطيع إرشادًا، بل هو محتاج إلى من يكفله.
فالأول مثَل الأصنام الجامدة التي لا تفقه وهي محتاجة إلى من يحرسها وينفض عنها الغبار والوسخ، والثاني مثل لكماله تعالى في ذاته وإفاضته الخير على عباده. اهـ.

.قال الشعراوي:

وبعد أنْ هيّأنا ربنا سبحانه لتلقِّي الأمثال، وأعدَّ أذهاننا لاستقبال الأمثال منه سبحانه.. أتى بهذا المثل.
فيقول الحق سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا}.
الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلًا له طرفان:
الطرف الأول: عبد: أي مَوْلى، وصفه بأنه مملوك التصرّف، وأنه لا يقدر على شيء من العمل؛ ذلك لأن العبد قد يكون عَبْدًا ولكنه يعمل، كمَنْ تسمح له بالعمل في التجارة مثلًا وهو عبد، وهناك العبد المكاتب الذي يتفق مع سيده على مال يُؤدّيه إليه لينال حريته، فيتركه سيده يعمل بحريته حتى يجمعَ المال المتفق عليه.. فهذا عَبْد، ومملوك، ولا يقدر على شيء من السَّعْي والعمل.
والطرف الثاني: سيد حُرٌّ، رزقه الله وأعطاه رِزْقًا حَسنًا أي: حلالًا طيّبًا.. ثم وفّقه الله للإنفاق منه بشتى أنواع الإنفاق: سِرًا وجَهْرًا.، وهذه منزلة عالية: رِزْق من الله وصفه بأنه حلال طَيب لا شُبْهة فيه، بعد ذلك وفّقه الله للإنفاق منه.. كُلٌّ حَسْب ما يناسبه، فمن الإنفاق ما يناسبه السِّرّ، ومنه ما يُناسبه الجَهْر: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 271].
هذان هما طَرَفا المثَل المضروب لَنَا.، ويترك لنا السياق القرآني الحكْم بينهما.، وكأن الحق سبحانه يقول: أنا أرتضي حكمكم أنتم: هل يستوون؟
والحق سبحانه لا يترك لنا الجواب، إلا إذا كان الجواب سيأتي على وَفْق ما يريد.، ولا جوابَ يُعقل لهذا السؤال إلا أن نقولَ: لا يستوون.، وكأن الحق سبحانه جعلنا ننطق نحن بهذا الحكم.
وقد ضرب الله هذا المثل لعبدة الأصنام، الذين أكلوا رزق الله وعبدوا غيره، فمثَّل الحق سبحانه الأصنامَ بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء.
وضرب المثل الآخر للسيد الذي رزقه الله رزقًا حسنًا، فهو ينفق منه سِرًّا وجَهْرًا، ألم تَرَ إلى قوله تعالى في آية أخرى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].
ليُبين لهم خطأهم في الانصراف عن عبادة الله مع ما أعطاهم من رزق إلى عبادة الأصنام التي لا تعطيهم شيئًا.
ومن هنا تتضح الحكمة في أن الله تعالى ترك الحكم بنفسه في هذا المثَل، وأتى به على صورة سؤال ليأخذ الحكم من أفواههم ويشهدوا هم على أنفسهم؛ ليقطع عليهم سبيل الإنكار والجدال، ولنا هنا وَقْفة مع قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل: 75].
فالحديث عن مُثّنى، وكان القياس أن يقول: هل يستويان، فلماذا عدل عن المثنى إلى الجمع؟
نقول: لأن المثل وإنْ ضُرِب بمفرد مقابل مفرد إلا أنه ينطبق على عديدين.. مفرد شائع في عديد مملوكين، وفي عديد من السادة أصحاب الرزق الحسن، ذلك لِيُعمّم ضَرْب المثل.
إذن: ليس في اختلاف الضمير هنا ما يتعارض وبلاغة القرآن الكريم، بل هي دِقّة أداء؛ لأن المتكلّم هو الحق سبحانه وتعالى.
وكذلك في قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].
بعضهم يرى في الآية مَأخذًا، حيث تتحدث عن المثنى، ثم بضمير الجمع في {اقْتَتَلُوا}، ثم تعود للمثنى في {بَيْنَهُمَا}.
نقول لهؤلاء: لو تدبرتُم المعنى لَعرفتم أن ما تتخذونه مأخذًا، وتعتبرونه اختلافًا في الأسلوب هو منتهى الدقة في التعبير القرآني.. ذلك أن الحديث عن طائفتين: مُثنّى.. نعم.. فلو تقاتلا، هل ستمسك كل طائفة سَيْفًا لتقاتل الأخرى؟
لا.. بل سيُمسِك كُلُّ جندي منها سَيْفًا.. فالقتال هناك بالمجموع.. مجموع كل طائفة لمجموع الطائفة الأخرى، فناسب أن يقول: اقتتلوا؛ لأن القتال حركة ذاتية من كُلّ فرد في الطائفتين.
فإذا ما جاء وقت الصُلّح، هل نصالح كل جندي من هذه على كل جندي من هذه؟ لا.. بل الصُّلْح شأْنُ السادة والزعماء والقادة لكل طائفة، ففي الصُّلْح نعود للمثنى، حيث ينوب هؤلاء عن طائفة، وهؤلاء عن طائفة، ويتم الصُّلْح بينهما.