فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ}.
قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} الآية.
أظهر الأقوال فيها: ان معنى أن الله إذا أراد الإتيان بها فهو قادر علىن ياتي بها في أسرع من لم البصر. لأنه يقول للشيء كن فيكون، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} [القمر: 50].
وقال بعض العلماء: المعنى هي قريب عنده تعالى كلمح البصر وإن كانت بعيدًا عندكم. قل قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6-7]، وقال: {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، واختار أبو حيان {في البحر المحيط}: أن {أو} في قوله: {أو هو أقرب} للإبهام على المخاطب، وتبع في ذلك الزجاج، قال: ونظيره {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، وقوله: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 24].
قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أخرج بين آدم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، وجعل لهم الأسماع والأبصار والأفئدة. لأجل ان يشكروا له نعمه، وقد قدمنا: أن {لعل} للتعليل، ولم يبين هنا هل شكروا أو لم يشكروا، ولكنه بين في مواضع أخر: ان أكثرهم لم يشكروا. كما قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، وقال: {قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23]، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه:
لم يأت السمع في القرآن محموعًا، وإنما يأتي فيه بصيغة الإفراد دائمًا، مع أنه يجمع ما يذكر معه كالأفئدة والأبصار.
وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائمًا: أن أصله مصدر سمع سمعًا، والمصدر إذا جعل اسمًا ذكر وأفرد. كما قال في الخلاصة:
ونعتوا بمصدر كثيرًا ** فالتزموا الإفراد والتذكيرا

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمه: أن تسخيره الطير في والسماء ما يمسكها إلا هو- من آياته الدالة على قدرته، واستحقاقه لأن يعبد وحده، وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19].
تنبيه:
لم يذرعلماء العربية الفعل بفتح فسكون من صيغ جموع التكسير. قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية: أن الفعل بفتح السكون جمع تكسير لفاعل وصفًا لكثرة وروده في اللغة جمعًا له. كقوله هنا: {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير} فالطير جمع طائر، وكالصحب فإنه جمع صاحب. قال امرؤ القيس:
وقوفًا بها صحبي على مطيهم ** يقولون لا تهلك أسى وتجمل

فقوله صحبي أي أصحابي، وكالركب فإنه جمع راكب. قال تعالى: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} [الأنفال: 42] وقال ذو الرمة:
أستحث الركب عن أشياعهم خبرًا ** أو راجع القلب من أطرابه طرب

فالركب جمع راكب، وقد رد عليه ضمير الجماعة في قوله: عن أشياعهم، وكالشرب فإنه جمع شارب، ومن قوله نابغة ذبيان:
كأنه خارجًا من جنب صفحته ** سفود شرب نسوه عند مفتأد

فإنه رد على الشرب ضمير الجماعة في قوله: {نسوه} إلخ، وكالسفر فإنه جمع سافر، ومنه حديث: «أتموا فأنا قوم سفر» وقول الشنفرى:
كأن وغاها حجرتيه وجاله ** اضاميم من سفر القبائل نزل

وكالرجل جمع راجل، ومنه قراءة الجمهور: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]. بسكون الجيم، وأما على قراءة حفص عن عاصم بكسر الجيم فالظاهر أن كسرة الجيم إتباع لكسرة اللام. فمعناه معنى قراءة الجمهور، ونحو هذا كثير جدًا في كلام العرب، فلا نطيل به الكلام، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
كان ممّا حكي من مقالات كفرهم أنهم أقسموا بالله لا يبعث الله من يموت، لأنهم توهّموا أن إفناء هذا العالم العظيم وإحياء العظام وهي رميم أمر مستحيل، وأبطل الله ذلك على الفور بأن الله قادر على كل ما يريده.
ثم انتقل الكلام عقب ذلك إلى بسط الدلائل على الوحدانية والقدرة وتسلسل البيان، وتفنّنت الأغراض بالمناسبات، فكان من ذلك تهديدهم بأن الله لو يؤاخذ الناس بظلمهم ما ترك على الأرض من دابّة، ولكنه يمهلهم ويؤخّرهم إلى أجل عَيّنه في علمه لحكمته وحذّرهم من مفاجأته، فثنى عِنان الكلام إلى الاعتراض بالتذكير بأن الله لا يخرج عن قدرته أعظم فعل مما غاب عن إدراكهم وأن أمر الساعة التي أنكروا إمكانها وغرّهم تأخير حلولها هي مما لا يخرج عن تصرّف الله ومشيئته متى شاءه.
فذلك قوله تعالى: {ولله غيب السموات والأرض} بحيث لم يغادر شيئًا مما حكي عنهم من كفرهم وجدالهم إلا وقد بيّنه لهم استقصاء للإعذار لهم.
ومن مقتِضيات تأخير هذا أنه يشتمل بصريحه على تعليم، وبإيمائه إلى تهديد وتحذير.
فاللام في قوله: {وللّه غيب السماوات والأرض} لام الملك.
والغيب: مصدر بمعنى اسم الفاعل، أي الأشياء الغائبة.
وتقدم في قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} [سورة البقرة: 3].
وهو الغائب عن أعين الناس من الأشياء الخفيّة والعوالم التي لا تصل إلى مشاهدتها حواسّ المخلوقات الأرضية.
والإخبار بأنها ملك لله يقتضي بطريق الكناية أيضًا أنه عالم بها.
وتقديم المجرور أفاد الحصر، أي له لا لغيره.
ولام الملك أفادت الحصر، فيكون التقديم مفيدًا تأكيد الحصر أو هو للاهتمام.
وأمر {الساعة} شأنها العظيم.
فالأمر: الشأن المهمّ، كما في قوله تعالى: {أتى أمر الله} [سورة النحل: 1]، وقول أبي بكر رضي الله عنه: ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، أي شأن وخطب.
و{الساعة} علم بالغلبة على وقت فناء هذا العالم، وهي من جملة غيب الأرض.
ولمح البصر: توجّهه إلى المرئيّ لأن اللّمح هو النظر.
ووجه الشّبه هو كونه مقدورًا بدون كلفة، لأن لَمح البصر هو أمكن وأسرع حركات الجوارح فهو أيسر وأسرع من نقل الأرجل في المشي ومن الإشارة باليد.
وهذا التشبيه أفصح من الذي في قول زهير:
فهُنّ ووادي الرّسّ كاليَد للفم

ووجه الشّبه يجوز أن يكون تحقّق الوقوع بدون مشقّة ولا إنظار عند إرادة الله تعالى وقوعه، وبذلك يكون الكلام إثباتًا لإمكان الوقوع وتحذيرًا من الاغترار بتأخيره.
ويجوز أن يكون وجهُ الشّبه السرعةَ، أي سرعة الحصول عند إرادة الله، أي ذلك يحصل فَجْأة بدون أمارات كقوله تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة} [سورة الأعراف: 187].
والمقصود: إنذارهم وتحذيرهم من أن تبغتهم الساعة ليقلعوا عمّا هم فيه من وقتتِ الإنذار.
ولا يتوهّم أن يكون البصر تشبيهًا في سرعة الحصول إذ احتمال معطّل لأن الواقع حارس منه.
و{أو} في {أو هو أقرب} للإضراب الانتقالي، إضرابًا عن التشبيه الأول بأن المشبّه أقوى في وجه الشبّه من المشبّه به، فالمتكلّم يخيّل للسامع أنه يريد تقريب المعنى إليه بطريق التّشبيه، ثم يعرض عن التّشبيه بأن المشبّه أقوى في وجه الشّبه وأنه لا يجد له شبيهًا فيصرّح بذلك فيحصل التقريب ابتداء ثم الإعراب عن الحقيقة ثانيًا.
ثم المراد بالقرب في قوله تعالى: {أقرب} على الوجه الأول في تفسير لمح البصر هو القرب المكاني كناية عن كونه في المقدوريّة بمنزلة الشيء القريب التّناول كقوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [سورة ق: 16].
وعلى الوجه الثاني في تفسيره يكون القرب قرب الزمان، أي أقرب من لمح البصر حصّة، أي أسرع حُصولًا.
والتذييل بقوله تعالى: {إن الله على كل شيء قدير} صالح لكلا التفسيرين.
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}.
عود إلى إكثار الدلائل على انفراد الله بالتصرّف وإلى تعداد النّعم على البشر عطفًا على جملة {والله جعل لكم من أنفسكم} [النحل: 72]. بعدما فصل بين تعداد النّعم بما اقتضاه الحال من التذكير والإنذار.
وقد اعتبر في هذه النّعم ما فيها من لطف الله تعالى بالناس ليكون من ذلك التخلّص إلى الدعوة إلى الإسلام وبيان أصول دعوة الإسلام في قوله تعالى: {كذلك يتمْ نعمته عليكم لعلّكم تسلمون} [سورة النحل: 81]. إلى آخره.
والمعنى: أنه كما أخرجكم من عدم وجعل فيكم الإدراك وما يتوقّف عليه الإدراك من الحياة فكذلك ينشئكم يوم البعث بعد العدم.
وإذ كان هذا الصّنع دليلًا على إمكان البعث فهو أيضًا باعث على شكر الله بتوحيده ونبذ الإشراك فإن الإنعام يبعث العاقل على الشكر.
وافتتاح الكلام باسم الجلالة وجعل الخبر عنه فعلًا تقدم بيانه عند قوله تعالى: {والله أنزل من السماء ماء} [سورة النحل: 65]، والآيات بعدهُ.
والإخراج الإبراز من مكان إلى آخر.
والأمّهات: جمع أمّ.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {حرّمت عليكم أمّهاتكم} في سورة النساء (23).
والبَطن: ما بين ضلوع الصدر إلى العانة، وفيه الأمعاء والمعدة والكبد والرحم.
وجملة {لا تعلمون شيئًا} حال من الضمير المنصوب في {أخرجكم}.
وذلك أن الطفل حين يولد لم يكن له علم بشيء ثم تأخذ حواسّه تنقل الأشياء تدريجًا فجعل الله في الطفل آلات الإدراك وأصول التفكّر.
فقوله تعالى: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} تفسيره أنه أوجد فيكم إدراك السمع والبصر والعقل، أي كوّنها في الناس حتى بلغت مبلغ كمالها الذي ينتهي بها إلى علم أشياء كثيرة، كما دلّت عليه مقابلته بقوله تعالى: {لا تعلمون شيئًا}، أي فعلمتم أشياء.
ووجه إفراد السّمع وجمع الأبصار تقدم عند قوله تعالى: {أمّن يملك السمع والأبصار} في سورة يونس (31)، وقوله تعالى؛ {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم} في سورة الأنعام (46).
و{الأفئدة} جمع الفؤاد، وأصله القلب.
ويطلق كثيرًا على العقل وهو المراد هنا.
فالسمع والبصر أعظم آلات الإدراك إذ بهما إدراك أهم الجزئيّات، وهما أقوى الوسائل لإدراك العلوم الضرورية.
فالمراد بالسمع: الإحساس الذي به إدراك الأصوات الذي آلته الصمّاخ، وبالإبصار: الإحساسُ المدرك للذّوات الذي آلته الحدقة.
واقتصر عليهما من بين الحواس لأنهما أهمّ، ولأن بهما إدراك دلائل الاعتقاد الحقّ.
ثم ذكر بعدهما الأفئدة، أي العقل مقرّ الإدراك كلّه، فهو الذي تنقل إليه الحواس مدركاتِها، وهي العلم بالتصوّرات المفردة.
وللعقل إدراك آخر وهو إدراك اقتران أحد المعلومين بالآخر، وهو التصديقات المنقسمة إلى البديهيّات: ككون نفي الشيء وإثباته من سائر الوجوه لا يجتمعان، وككون الكلّ أعظم من الجزء.
وإلى النظريات وتُسمّى الكسبيّات، وهي العلم بانتساب أحد المعلومين إلى الآخر بعد حركة العقل في الجمع بينهما أو التّفريق، مثل أن يحضر في العقل: أن الجسم ما هو، وأن المحدَث بفتح الدال ما هو.
فإن مجرد هذين التصوّرين في الذهن لا يكفي في جزم العقل بأن الجسم محدث بل لابد فيه من علوم أخرى سابقة وهي ما يدلّ على المقارنة بين ماهية الجسمية وصفةِ الحدوث.
فالعلوم الكسبية لا يمكن اكتسابها إلا بواسطة العلوم البديهية.
وحصول هذه العلوم البديهية إنما يحصل عند حدوث تصوّر موضوعاتها وتصوّر محمولاتها.
وحدوث هذه التصوّرات إنما هو بسبب إعانة الحواس على جزئياتها، فكانت الحواس الخمس هي السبب الأصلي لحدوث هذه العلوم، وكان السمع والبصر أول الحواس تحصيلًا للتصوّرات وأهمّها.