فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ حمزة: بكسر الهمزة، والميم هنا وفي النور، والزمر، والنجم، والكسائي بكسر الهمزة فيهن، والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم.
قال أبو حاتم: حذف الهمزة رديء، ولكنّ قراءة ابن أبيّ أصوب انتهى.
وإنما كانت أصوب لأنّ كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة، فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الاتباع، بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقرّ الميم على حركتها.
ولا تعلمون جملة حالية أي: غير عالمين.
وقالوا: لا تعلمون شيئًا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، أو شيئًا مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة، أو شيئًا من منافعكم.
والأولى عموم لفظ شيء، ولاسيما في سياق النفي.
وقال وهب: يولد المولود حذرًا إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألمًا.
ويحتمل وجعل أن يكون معطوفًا على أخرجكم، فيكون واحدًا في حيز خبر المبتدأ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفًا على الجملة الابتدائية كاستئنافها.
والمراد بالسمع والأبصار والأفئدة إحساسها وإدراكها، فعبر عن ذلك بالآية.
وقال أبو عبد الله الرازي ما معناه: إنما جمع الفؤاد جمع قلة، لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية اليقينية، وأكثر الخلق مشغولون بالأفعال البهيمية، فكان فؤادهم ليس بفؤاد، فلذلك ذكر في جمعه جمع القلة انتهى ملخصًا.
وهو قول هذياني، ولولا جلاله قائله وتسطيره في الكتب ما ذكرته، وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري: أنه من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة والقلة، إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء: شسوع في جمع شسع لا غير، فجرى ذلك المجرى انتهى.
إلا أنّ دعوى الزمخشري أنه لم يجئ في جمع شسع إلا شسع لا غير، ليس بصحيح، بل جاء فيه جمع القلة قالوا: أشساع، فكان ينبغي له أن يقول: غلب شسوع.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وطلحة، والأعمش، وابن هرمز: {ألم تروا} بتاء الخطاب، وباقي السبعة بالياء.
قال ابن عطية: واختلف عن الحسن، وعيسى الثقفي، وعاصم، وأبي عمرو.
ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة: السمع، والنظر، والعقل، والأوّلان مدرك المحسوس، والثالث مدرك المعقول، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر، فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك.
وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر، فإنّ طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به.
وتضمنت الآية أيضًا ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط، إذ ليس تحته ما يدعمه، ولا فوقه ما يتعلق به، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله تعالى، كما قال تعالى: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير} فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل.
ومعنى مسخرات: مذللات، وبني للمفعول دلالة على أن له مسخرًا.
وقال أبو عبد الله الرازي: هذا دليل على كمال قدرة الله وحكمته، فإنه تعالى خلق الطائر خلقه معها يمكنه الطيران، أعطاه جناحًا يبسطه مرة، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجو خلقه معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنًا انتهى.
وكلامه منتزع من كلام القاضي قال: إنما أضاف الإمساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال، فلما كان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى.
والذي نقوله: إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح، وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى، وأن الممسك له في جو السماء هو الله تعالى.
وقد قام الدليل على أنّ جميع الأفعال كلها مخلوقة لله، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار، فلا نقول: إنه لولا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران، ولا لولا الآلات ما أمكن.
وقال الزمخشري: ما يوافق كلامهما قال: مسخرات، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة، والأسباب المواتية لذلك.
ثم أحسن أخيرًا في قوله: ما يمسكهن في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إلا الله بقدرته انتهى.
لآيات: جمع ولم يفرد، لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها، وثقله الذي جعله فيه لأن ينزل، والفضاء الذي بين السماء والأرض، والإمساك الذي لله تعالى، أو جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال: لقوم يؤمنون، فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار، ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله، فهو إخبار منه تعالى ما يصدق به إلا المؤمن. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)}.
قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلًا} لما قال سبحانه: {إن الله يعلم} أي: بالمعلومات التي من جملتها كيف يضرب الأمثال، وأنتم لا تعلمون؟ علمهم سبحانه كيف تضرب الأمثال، فقال: {ضرب الله مثلًا} أي: ذكر شيئًا يستدلّ به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه، وبين ما جعلوه شريكًا له من الأصنام.
ثم ذكر ذلك فقال: {عَبْدًا مَّمْلُوكًا} والمثل في الحقيقة هي حالة للعبد عارضة له، وهي المملوكية والعجز عن التصرف، فقوله: {عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} تفسير للمثل وبدل منه، ووصفه بكونه مملوكًا؛ لأن العبد والحرّ مشتركان في كون كل واحد منهما عبد الله سبحانه.
ووصفه بكونه لا يقدر على شيء؛ لأن المكاتب والمأذون يقدران على بعض التصرفات.
فهذا الوصف لتمييزه عنهما {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} {من} هي الموصولة، وهي معطوفة على {عبدًا} أي: والذي رزقناه {مِنَّا} أي: من جهتنا {رِزْقًا حَسَنًا} من الأحرار الذين يملكون الأموال ويتصرفون بها كيف شاءوا، والمراد بكون الرزق حسنًا: أنه مما يحسن في عيون الناس، لكونه رزقًا كثيرًا مشتملًا على أشياء مستحسنة نفيسة تروق الناظرين إليها.
والفاء في قوله: {فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ} لترتيب الإنفاق على الرزق، أي: ينفق منه في وجوه الخير ويصرف منه إلى أنواع البرّ والمعروف، وانتصاب {سِرّا وَجَهْرًا} على الحال، أي: ينفق منه في حال السرّ وحال الجهر.
والمراد: بيان عموم الإنفاق للأوقات، وتقديم السرّ على الجهر مشعر بفضيلته عليه، وأن الثواب فيه أكثر.
وقيل: إن {من} في {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} موصوفة، كأنه قيل: وحرًّا رزقناه، ليطابق عبدًا.
{هَلْ يَسْتَوُونَ} أي: الحرّ والعبد الموصوفان بالصفات المتقدّمة، وجمع الضمير لمكان من، لأنه اسم مبهم يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث.
وقيل: إنه أريد بالعبد والموصول الذي هو عبارة عن الحرّ الجنس؛ أي من اتصف بتلك الأوصاف من الجنسين، والاستفهام للإنكار، أي: هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر، ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم، فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضرًّا ولا نفعًا، ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه؟ وحاصل المعنى: أنه كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حرّ قد رزقه الله رزقًا حسنًا، فهو ينفق منه، كذلك لا يستوي الربّ الخالق الرازق، والجمادات من الأصنام التي تعبدونها، وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضرّ ولا تنفع.
وقيل: المراد بالعبد المملوك في الآية: هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته، والآخر: هو المؤمن.
والغرض: أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف، وقيل: العبد: هو الصنم، والثاني: عابد الصنم، والمراد: أنهما لا يستويان في القدرة والتصرّف؛ لأن الأوّل جماد، والثاني إنسان.
{الحمد للَّهِ} أي: الحمد لله كله، لأنه المنعم، لا يستحق غيره من العباد شيئًا منه، فكيف تستحق الأصنام منه شيئًا ولا نعمة منها أصلًا لا بالأصالة ولا بالتوسط؛ وقيل: أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد؛ وقيل: أراد قل الحمد لله، والخطاب إما لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لمن رزقه الله رزقًا حسنًا، وقيل: إنه لما ذكر مثلًا مطابقًا للغرض كاشفًا عن المقصود، قال: الحمد لله أي: على قوّة هذه الحجة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك حتى يعبدوا من تحقّ له العبادة، ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة، ونفي العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم، أو هم يتركون الحق عنادًا مع علمهم به، فكانوا كمن لا علم له، وخصّ الأكثر بنفي العلم: إما لكونه يريد الخلق جميعًا، وأكثرهم المشركون، أو ذكر الأكثر، وهو يريد الكلّ، أو المراد أكثر المشركين؛ لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم.
ثم ذكر سبحانه مثلًا ثانيًا ضربه لنفسه، ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضرّ ولا تنفع فقال: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا} أي: مثلًا آخر أوضح مما قبله وأظهر منه، و{رَّجُلَيْنِ} بدل من مثل وتفسير له، والأبكم العييّ المفحم.
وقيل: هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر، ثمّ وصف الأبكم فقال: {لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه، وعدم قدرته على النطق، ومعنى {كَلٌّ على مَوْلاهُ} ثقيل على وليه وقرابته وعيال على من يلي أمره ويعوله، ووبال على إخوانه، وقد يسمى اليتيم: كلا؛ لثقله على من يكفله، ومنه قول الشاعر:
أكول لمال الكلّ قبل شبابه ** إذا كان عظم الكلّ غير شديد

وفي هذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقًا، ثم وصفه بصفة رابعة فقال: {أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي: إذا وجهه إلى أيّ جهة لا يأت بخير قط؛ لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له ولا يمكنه أن يقول.
وقرأ يحيى بن وثاب {أينما يوجه} على البناء للمجهول، وقرأ ابن مسعود: {أينما توجه} على صيغة الماضي {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ} في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتصف بها {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} أي: يأمر الناس بالعدل مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم.
ويقدر على التصرّف في الأشياء.
{وَهُوَ} في نفسه {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} على دين قويم، وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط، قابل أوصاف الأوّل بهذين الوصفين المذكورين للآخر، لأن حاصل أوصاف الأوّل عدم استحقاقه لشيء، وحاصل وصفي هذا أنه مستحق أكمل استحقاق، والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يجعلونه شريكًا له.
ولما فرغ سبحانه من ذكر المثلين، مدح نفسه بقوله: {وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض} أي: يختصّ ذلك به، لا يشاركه فيه غيره، ولا يستقل به، والمراد: علم ما غاب عن العباد فيهما، أو أراد بغيبهما يوم القيامة، لأن علمه غائب عن العباد، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما.
والمعنى: التوبيخ للمشركين والتقريع لهم، أي: أن العبادة إنما يستحقها من كانت هذه صفته لا من كان جاهلًا عاجزًا لا يضرّ ولا ينفع ولا يعلم بشيء من أنواع العلم {وَمَا أَمْرُ الساعة} التي هي أعظم ما وقعت فيه المماراة من الغيوب المختصة به سبحانه {إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} اللمح: النظر بسرعة، ولابد فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي، وكل زمان قابل للتجزئة، ولذا قال: {أَوْ هُوَ} أي: أمرهما {أَقْرَبُ} وليس هذا من قبيل المبالغة، بل هو كلام في غاية الصدق، لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية، ومنها إلى الأبد غير متناه، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي.
أو يقال: إن الساعة لما كانت آتية ولابد جعلت من القرب كلمح البصر.
وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها، لأنه يقول للشيء كن فيكون، وقيل: المعنى هي عند الله كذلك وإن لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة.
ومثله قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6- 7].
ولفظ: {أو} في {أو هو أقرب} ليس للشك، بل للتمثيل.
وقيل: دخلت لشك المخاطب، وقيل: هي بمنزلة بل {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} ومجيء الساعة بسرعة من جملة مقدوراته.
ثم إنه سبحانه ذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته، ونهاية رأفته، فقال: {والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} وهذا معطوف على قوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} منتظم معه في سلك أدلة التوحيد، أي: أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالًا لا علم لكم بشيء، وجملة {لا تعلمون شيئًا} في محل نصب على الحال، وقيل: المراد: لا تعلمون شيئًا مما أخذ عليكم من الميثاق.
وقيل: لا تعلمون شيئًا مما قضي به عليكم من السعادة والشقاوة.
وقيل: لا تعلمون شيئًا من منافعكم.
والأولى التعميم لتشمل الآية هذه الأمور وغيرها اعتبارًا بعموم اللفظ، فإن {شيئًا} نكرة واقعة في سياق النفي.
وقرأ الأعمش، وابن وثاب، وحمزة: {إمهاتكم} بكسر الهمزة والميم هنا، وفي النور، والزمر، والنجم.
وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم.
وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.
{وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} أي: ركب فيكم هذه الأشياء، وهو معطوف على {أخرجكم} وليس فيه دلالة على تأخير هذا الجعل عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو مطلق الجمع.
والمعنى: جعل لكم هذه الأشياء لتحصلوا بها العلم الذي كان مسلوبًا عنكم عند إخراجكم من بطون أمهاتكم، وتعملوا بموجب ذلك العلم من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه، والأفئدة: جمع فؤاد، وهو وسط القلب، منزل منه بمنزلة القلب من الصدر، وقد قدّمنا الوجه في إفراد السمع، وجمع الأبصار والأفئدة، وهو أن إفراد السمع لكونه مصدرًا في الأصل يتناول القليل والكثير {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لكي تصرفوا كل آلة فيما خلقت له، فعند ذلك تعرفون مقدار ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه، أو أن هذا الصرف هو نفس الشكر.
ثم ذكر سبحانه دليلًا آخر على كمال قدرته، فقال: {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات} أي: ألم ينظروا إليها حال كونها مسخرات أي: مذللات للطيران بما خلق الله لها من الأجنحة، وسائر الأسباب المواتية لذلك، كرقة قوام الهواء وإلهامها بسط الجناح وقبضه، كما يفعل السابح في الماء {فِى جَوّ السماء} أي: في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو، وإضافته إلى السماء لكونه في جانبها {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجوّ {إِلاَّ الله} سبحانه بقدرته الباهرة، فإن ثقل أجسامها، ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها، لأنها لم تتعلق بشيء من فوقها، ولا اعتمدت على شيء تحتها.
وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، وابن عامر، وحمزة، ويعقوب {ألم تروا} بالفوقية على الخطاب.
واختار هذه القراءة أبو عبيد.