فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا}.
يشهد لهم بالإيمان والطاعةِ وعليهم بالكفر والعصيان وهو نبيها {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} في الاعتذار إذ لا عذرَ لهم وثم للدَّلالة على أن ابتلأَهم بالمنع عن الاعتذار المنبىء عن الإقناط الكليِّ وهو عندما يقال لهم: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} أشدُّ من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام عليهم وأطمُّ {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يُسترضَون أي لا يقال لهم: ارضُوا ربكم إذ الآخرةُ دارُ الجزاء لا دارُ العمل، وانتصابُ الظرف بمحذوف تقديرُه اذكرْ أو خوِّفْهم يوم نبعث إلخ، أو يوم نبعث بهم ما يحيق مما لا يوصف وكذا قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذابُ جهنم {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} ذلك {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يُمهلون كقوله تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ}. {وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ} الذين كانوا يدعونهم في الدنيا وهم الأوثانُ أو الشياطينُ الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه وقارنوهم في الغيّ والضلال {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ} أي نعبدهم أو نطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعًا في توزيع العذابِ بينهم كما ينبىء عنه قوله سبحانه: {فَأَلْقَوُاْ} أي شركاؤهم {إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون} فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ليس إلا للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه، وإنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم ويطيعونهم لأن الأوثانَ ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتَهم لهم كما قالت الملائكةُ عليهم السلام: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} يعنون أن الجنَّ هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهةً تنزيهًا لله سبحانه عن الشريك، والشياطينُ وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاء كما قال إبليسُ: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} فكأنهم قالوا: ما عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم.
{وَأَلْقَوْاْ} أي الذين أشركوا {إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} الاستسلامَ والانقيادَ لحُكمه العزيز الغالب بعد الاستكبار عنه في الدنيا {وَضَلَّ عَنْهُم} أي ضاع وبطل {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن لله سبحانه شركاء وأنهم ينصُرون ويشفعون لهم وذلك حين كذبوهم وتبرؤا منهم.
{الذين كَفَرُواْ} في أنفسهم {وَصُدُّواْ} غيرهم {عَن سَبِيلِ الله} بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} الذي كانوا يستحقونه بكفرهم، قيل في زيادة عذابهم: حياتٌ أمثالُ البُخْت وعقاربُ أمثالُ البغال تلسَع إحداهن فيجد صاحبها حُمَتَها أربعين خريفًا، وقيل: يُخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} متعلق بقوله: {زدناهم} أي زدنا عذابَهم بسبب استمرارِهم على الإفساد وهو الصدّ المذكور. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ}.
جماعة من الناس {شَهِيدًا} يثشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان، والمراد به كما روى ابن المنذر وغيره عن قتادة نبي تلك الأمة {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي في الاعتذار كما قال سبحانه: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36]، والظاهر أنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم، ويحتمل أنهم لا استئذان منهم ولاإذن إلا لا حجة لهم حتى تذكر ولا عذر حتى يعتذر، وقال أبو مسلم: المعنى لا يسمع كلامهم بعد شهادة الشهداء ولا يلتفت إليه كما في قول عدي بن زيد:
في سماع يأذن الشيخ له ** وحديث مثل ماذي مشار

وقيل: لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا، والأول مروي عن ابن عباس وأبي العالية وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بعدم الإذن المنبىء عن الاقناط الكلي وذلك عندما يقال لهم: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108]. أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام فهي للتراخي الرتبي {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة والعمل الصالح إذ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون، وقول الزمخشري: أي لا يقال لهم ارضوا ربكم تفسير باللازم، وقيل: المعنى ولا يطلب رضاهم في أنفسهم بالتلطف بهم من استعتبه كأعتبه إذا أعطاه العتبي وهي الرضا وأيًا ما كان فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وانتصاب الظرف على ما قال الحوفي وغيره بمحذوف تقديره اذكر وقدره بعضهم خوفهم وهو في ذلك مفعول به، وقيل: وهو نصب على الظرفية بمحذوف أي يوم نبعث يحيث بهم ما يحيق، وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العالم فيه ينكرونها أي ثم ينكرونها اليوم ويوم نبعث من كل أمة شهيدًا فيشهد عليهم ويكذبهم وليس بشيء وتجري هذه الاحتمالات في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} أي الذين يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم، والمراد من الذين ظلموا الذين كفروا وكان الظاهر الضمير إلا أنه أقيم المظهر مقامه للنعي عليهم بما ذكر في حيز الصلة وتعليق الرؤية بالعذاب للمبالغة، وقيل: المراد به جهنم نفسها مجازًا، ويراد بضميره في قوله تعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} معناه الحقيقي على سبيل الاستخدام وليس بذاك وهذه الجملة قيل: مستأنفة، وقيل: جواب إذا بتقدير فهو لا يخفف لأن المضارع مثبتًا كان أو منفيًا إذا وقع جواب إذا لا يقترن بالفاء، واستظهره ذلك أبو حيان ونقل عن الحوفي القول بأنه جواب وأنه العامل في {إِذَا} ثم قال: وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في {إِذَا} ثم قال: وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في {إِذَا} الفعل الذي يليلها كسائر أدوات الشرط وإن كان ليس قول الجمهور تعقب الخفاجي القول بالجوابية بأنه محتاج إلى ما سمعت من التقدير وهو مع كونه خلاف الأصل مناف للغرض في تغاير الجملتين في النظم يعني قوله تعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} وقوله سبحانه: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يمهلون وهو أن عدم التخفيف واقع بعد رؤية العذاب فلذا لم يؤت بجملة اسمية بخلاف عدم الإمهال فإنه ثابت لهم في تلك الحالة. اهـ.
وفي كلام الزمخشري كما في الكشف إشعار بأن الناصب المحذوف لإذا بغتهم وإنه هو الجواب حيث قال بعد أن بين وجه انتصاب اليوم وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون كقوله تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء: 40]. الآية، وفيه إشعار أيضًا بأن عدم التخفيف والأنظار يدل على أثقاله ومباغتته كما صرح به الآية الأخرى حيث أبت الإتيان بغتة والبهت هو الأثقال وزيادة ورتب عليه {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء: 40]، ومثل هذه الفاء فصيحة عندهم فافهم، وفي التفسير الكبير قال المتكلمون إن العذاب يجب أن يكون خالصًا عن شوائب النفع وهو المراد بقوله تعالى: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} ويجب أن يكون دائميًا وهو المراد من قوله سبحانه: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} وفيه نظر.
{وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ} الذين كانوا يزعمونهم شركاء لله سبحانه وتعالى ويعبدونهم معه عز وجل؛ والمراد بهم كل من اتخذوه شريكًا له جل وعلا من صنم ووثن وشيطان وآدمي وملك وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ، وقيل: أريد بهم معبوداتهم الباطلة كما تقدم، والإضافة إليهم لأنهم جعلوا لهم نصيبًا من أموالهم وأنعامهم، واقتصر بعضهم على الأصنام ولعل التعميم أولى، وقال الحسن: شركاؤهم الشياطين شركوهم في الأموال والأولاد، وقيل: شركوهم في الكفر أي كفروا مثل كفرهم، وقيل: شركوهم في وبال ذلك حيث حملوهم عليه {قَالُواْ} أي بألسنتهم وقيل: ختم الله تعالى على أفواههم وأنطق جوارحهم فقالت عنهم {رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ} أي نعبدهم ونطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعًا في توزيع العذاب بينهم.
واعترض بأنه لا يناسب تفسير الشركاء بالأصنام وفيه أنها تجيء على حالة يعقل معها عذابها فلا بأس في ذلك سواء فسرت الشركاء بالأصنام فقط أو بما يعمها وغيرها، وقال أبو مسلم: مقصودهم من ذلك إحالة الذنب على الشركاء طنًا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم شيئًا.
وتعقبه القاضي بأنه بعيد لأن الكفار يعلمون علمًا ضروريًا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ولا نصرة ولا فدية ولا شفاعة، وأورد نحوه على ما ذكرنا بناء على أنهم يعلمون علمًا ضروريًا أيضًا أنه لا يحمل أحد من عذابهم شيئًا.
وأجيب بأنه على تقدير تسليم حصول العلم الضروري لهم بذلك إذ ذاك يجوز أن يدهشوا فيغفلوا عن ذلك فيقولوا ما يقولون طامعين فيما ذكر وهو نظير قولهم: {يخفف عنا يومًا من العذاب} [غافر: 49]. {يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77]. {ربنا أخرجنا نعمل صالحًا} [فاطر: 37]. إلى غير ذلك مما لهم علم ضروري عند بعضهم بأنه لا يكون.
وقيل: إن القوم مع علمهم بأن ما يرجونه ويطمعون فيه لا يحصل لهم أصلًاوعدم غفلتهم عن ذلك تغلبهم أنفسهم بمقتضى الطبيعة لشدة ما هم فيه والعياذ بالله تعالى حتى تعلق آمالها بالمحال، وقيل: قالوا ذلك اعترافًا بأنهم كانوا مخطئين في عبادتهم.
وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى: {مِن دُونِكَ} وفيه تأمل.
نعم قوله تعالى: {فَأَلْقَوُاْ} أي شركاؤهم {إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون} أظهر ملاءمة للأول فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ظاهر في كونه للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه والظاهر أن التكذيب راجع إلى دعوى أنهم كانوا يعبدونهم أو يطيعونهم من دون الله تعالى ومرادهم على ما قيل: إنكم ما عبدتمونتا حقيقة وإنما عبدتم أشياء تصورتموها بأذهانكم الفاسدة وزعمتم أنا هاتيك الأشياء وهيهات هيهات ليس بيننا وبينها جهة جامعة ولا علاقة نافعة، وقيل: إنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم السلام: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41]. يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والالجاء كما قال إبليس: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [إبراهيم: 22]. فكأنهم قالوا: ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم، وقيل: يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في أخبارهم بكذب من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله: {إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: 22]، وجوز أن يكون التكذيب راجعًا إلى أنهم شركاء لله سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في ذلك الموقف، وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين من الشركاء فافهم، والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك، وجوز على التعميم أن يكون القائل بعضهم وهو من يعقل منهم؛ وكان الظاهر فقالوا لهم أنكم لكاذبون إلا أنه عدل إلى ما في النظم الكريم للإشارة إلى أنهم قالوا ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن غيره، وفيه من الإشعار بالحرص على تكذيبهم ما فيه، ويؤيد ذلك تأكيدهم الجملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد، وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون.
{وَأَلْقَوْاْ} أي الذين أشركوا، وقيل: هم وشركاؤهم جميعًا، والأكثرون على الأول {إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} الاستسلام الانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذا ذاك حيلة ولا دفع.
وروى يعقوب عن أبي عمرو أنه قرأ: {السلام} بإسكان اللام، قرأ مجاهد السلم بضم السين واللام {وَضَلَّ عَنْهُم} ضاع وبطل {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن لله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54]. بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه {لِيَكْفُرُواْ بِمَا ءاتيناهم} من النعمة بالغفلة عن منعها {فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55]، وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي {نَصِيبًا مّمَّا رزقناهم} [النحل: 56]. فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا {وَإِنَّ لَكُمْ في الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا في بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]. الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين، والإشارة في قوله تعالى: {وَمِن ثمرات النخيل والاعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67]. على ما فيه أيضًا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والانس الآخذة بها إلى حضيرة القدس:
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت ** لعادت إليه الروح وانتعش الجسم

{وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} قيل أي نحل الأرواح {أَنِ اتخذى مِنَ الجبال} أي جبال أنوار الذات {بُيُوتًا} مقار لتسكنين فيها {وَمِنَ الشجر} أي ومن أشجار أنوار الصفات {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68]. أنوار عروش الأفعال {ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات} أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الأفعالية {فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ} وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه {ذُلُلًا} منقادة لما أمرت به {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ} وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} باختلاف الثمرات {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ} [النحل: 69]. لكل مريض المحبة وسقيم الألفة ولديغ الشوق، وقيل: الإشارة بالنحل إلى الذين هم في مبادىء السلوك من أرباب الاستعداد، ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره حين سئل عنه: نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولًا أن يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروض في الارتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين، وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لاسيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي.