فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: كيف كذبتهم آلهتهم ونفوا أنهم عبدوهمن مع أن الواقع خلاف ما قالوا، وأنهم كانوا يعبدونهم في دار الدنيا من دون الله!
فالجواب-أن تكذيبهم لهم منصب على زعمهم أنهم آلهة، وان عبادتهم حق، وأنها تقربهم إلى الله زلفى، ولا شك أن كل ذلك من أعظم الكذب واشنع الافتراء، ولذلك هم صادقون فيما ألقوا إليهم من القول، ونطقوا فيه بأنهم كاذبون، ومراد الكفار بقولهم لربهم: هؤلاء شركاؤنا، قيل ليحملوا شركاءهم تبعة ذنبهم، وقيل: ليكونوا شركاءهم في العذاب، كما قال تعالى: {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النار} [الأعراف: 38]، وقد نص تعالى على أنهم وما يعبدونه من دون الله في النار جميعًا في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. الآية، وأخرج من ذلك الملائكة وعيسى وعزيزًا بقوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. الآية، لأنهم ما عبدوهم برضاهم. لل لو أطاعوهم لأخلصوا العبادة لله وحده جلَّ وعلا.
قوله تعالى: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}.
إلقاؤهم إلى الله السلم: هو انقيادهم له، وخضوعهم. حيث لا ينفعهم ذلك كما تقدم في قوله: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} [النحل: 28]، والآيات الدالة على ذلك كثيرة. كقوله: {بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 26]، وقوله: {وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم} [طه: 111]، ونحو ذلك من الآيات، وقد قدمنا طرفًا من ذلك في الكلام على قوله: {فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء}.
وقوله: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي غاب عنهم عنهم واضمحل ما كانوا يفترونه. من أن شركاءهم تشفع لهم وتقربهم إلى الله زلفى. كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤنَا عِندَ الله} [يونس: 18]. الآية، وكقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3]، وضلال ذلك عنهم مذكور في آيات كثيرة. كقوله تعالى: {وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [يونس: 30]، وقوله: {فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [القصص: 75]، وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن وفي اللغة بشواهدها.
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)}.
اعلم اولًا أن صد تيتعمل في اللغة العربية استعمالين: أحدهما- أن تستعمل متعدية إلى المفعلو، كقوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25]. الآية، ومضارع هذه المتعدية يصد بالضم على القياس، ومصدرها الصد على القياس أيضًا، والثاني: أن تستعمل صد لازمة غير متعدية إلى المفعول، ومصدر هذه الصدود على القياس، وفي مضارعها الكسر على القياس، والضم على السماع، وعليهما القراءتان السبعيتان في قوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]. بالكسر والضم.
فإذا عرفت ذلك- فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} محتمل لأن تكون صد متعدية، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه. على حد قوله في الخلاصة:
وحذف فضلة أجز أن لم يضر ** كحذف ما سيق جوابًا أو حصر

ومحتمل لأن تكون صد لازمة غير متعدية إلى المفعول، ولكن في الآية الكريمة ثلاث قرائن تدل على أن صد متعدية، والمفعول محذوف، اي وصدوا الناس عن سبيل الله.
الأولى: أنا لو قدرنا صد لازمة، وأن معناها: صدودهم في أنفسهم عن الإسلام- لكان ذلك تكرارًا من غير فائدة مع قوله: {الذين كفروا} بل معنى الآية: كفروا في أنفسهم، وصدوا غيرهم عن الدين فحملوه على الكفر ايضًا.
القرينة الثانية- قوله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العذاب} [النحل: 88]. فإن هذه الزيادة من العذاب لأجل إضلالهم غيرهم، والعذاب المزيدة فوقه: هو عذابهم على كفرهم في أنفسهم. بدليل قوله في المضلين الذين أضلوا غيرهم: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُم} [النحل: 25]. الآية، وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]. الآية كما تقدم إيضاحه.
القرينة الثالثة- قوله: {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} فإنه يدل على أنهم كانوا يفسدون على غيرهم مع ضلالهم في أنفسهم، وقوله: {فَوْقَ العذاب} اي الذي استحقوه بضلالهم وكفرهم، وعن ابن مسعود. أن هذا العذاب المزيد: عقار أنيابها كالنخل الطوال، وحيات مثل أعناق الإبل، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم. أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها! والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)}.
الواو عاطفة جملة {يوم نبعث} إلخ. على جملة {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين} [سورة النحل: 82]. بتقدير: واذكر يوم نبعث من كل أمّة شهيدًا.
فالتذكير بذلك اليوم من البلاغ المبين.
والمعنى: فإن تولّوا فإنما عليك البلاغ المبين، وسنجازي يوم نبعث من كل أمّة شهيدًا عليها.
ذلك أن وصف شهيد يقتضي أنه شاهد على المؤمنين به وعلى الكافرين، أي شهيد لأنه بلّغهم رسالة الله.
وبعْثُ شهيدٍ من كل أمّة يفيد أن محمدًا شهيد على هؤلاء الكافرين كما سيجيء عقبه قوله تعالى: {وجئنا بك شهيدًا على هؤلاء} [سورة النساء: 41]، وبذلك انتظم أمر العطف والتخلّص إلى وصف يوم الحساب وإلى التّنويه بشأنه.
وانتصب {يوم نبعث} على المفعول به للفعل المقدّر.
ولك أن تجعل {يوم} منصوبًا على الظرفية لعامل محذوف يدلّ عليه الكلام المذكور يقدرّ بما يسمح به المعنى، مثل: نحاسبهم حسابًا لا يستعتبون منه، أو وقعوا فيما وقعوا من الخطب العظيم.
والذي دعا إلى هذا الحذف هو أن ما حقّه أن يكون عاملًا في الظرف وهو {لا يؤذن للذين كفروا} قد حوّل إلى جعله معطوفًا على جملة الظرف بحرف {ثمّ} الدال على التراخي الرتبي، إذ الأصْل: ويوم نبعث من كل أمّة شهيدًا لا يؤذن للذين كفروا، إلى آخره، فبقي الظرف بدون متعلّق فلم يكن للسامع بُدّ من تقديره بما تذهب إليه نفسه وذلك يفيد التهويل والتفظيع وهو من بديع الإيجاز.
والشّهيد: الشّاهد وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد} في سورة النساء (41).
والبعث: إحضاره في الموقف.
و{ثم} للترتيب الرتبي، لأن إلجامهم عن الكلام مع تعذّر الاستعتاب أشدّ هولًا من الإتيان بالشهيد عليهم.
وليست {ثم} للتراخي في الزمن، لأن عدم الإذن لهم مقارن لبعث الشّهيد عليهم.
والمعنى: لا يؤذن لهم بالمجادلة عن أنفسهم، فحذف متعلق {يؤذن} لظهوره من قوله تعالى: {ولا هم يستعتبون}.
ويجوز أن يكون نفي الإذن كناية عن الطّرد كما كان الإذن كناية عن الإكرام، كما في حديث جرير بن عبد الله «ما استأذنتُ رسول الله منذ أسلمت إلا أذن لي».
وحينئذٍ لا يقدّر له متعلّق أو لا يؤذن لهم في الخروج من جهنّم حين يسألونه بقولهم: {ادعوا ربّكم يخفّف عنّا يومًا من العذاب} [سورة غافر: 49]. فهو كقوله تعالى: {فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون} [سورة الجاثية: 35].
والاستعتاب: أصله طلب العُتبى، والعتبى: الرضى بعد الغضب، يقال: استعتب فلان فلانًا فأعتبه، إذا أرضاه، قال تعالى: {وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} [سورة فصلت: 24].
وإذا بُني للمجهول فالأصل أن يكون نائب فاعله هو المطلوبَ منه الرضى، تقول: استُعتِب فلانٌ فلم يُعْتب.
وأما ما وقع في القرآن منه مبنيًّا للمجهول فقد وقع نائب فاعله ضمير المستعتبين كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى في سورة الروم (57): {فيومئذٍ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون} وفي سورة الجاثية (35): {فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون} ففسّره الراغب فقال: الاستعتاب أن يُطلب من الإنسان أن يَطلب العُتبى. اهـ.
وعليه فيقال: استُعتِبَ فلم يَسْتَعْتِب، ويقال: على الأصل استُعتب فلان فلم يُعْتب.
وهذا استعمال نشأ عن الحذف.
وأصله: استعتب له، أي طلب منه أن يستعتب، فكثر في الاستعمال حتى قلّ استعمال استُعتِب مبنيًّا للمجهول في غير هذا المعنى.
وعطف {ولا هم يستعتبون} على {لا يؤذن للذين كفروا} وإن كان أخصّ منه، فهو عطف خاص على عام، للاهتمام بخصوصه للدّلالة على أنهم مأيوس من الرضى عنهم عند سائر أهل الموقف بحيث يعلمون أن لا طائل في استعتابهم، فلذلك لا يشير أحد عليهم بأن يستعتبوا.
فإن جعلتَ {لا يؤذن} كناية عن الطّرد فالمعنى: أنهم يطردون ولا يجدون من يشير عليهم بأن يستعتبوا.
{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)}.
عطف على جملة {ثم لا يؤذن للذين كفروا} [سورة النحل: 84].
و{إذا} شرطية ظرفية.
وجملة {فلا يخفف} جواب {إذا}.
وقرن بالفاء لتأكيد معنى الشرطية والجوابية لدفع احتمال الاستئناف.
وصاحب الكشاف جعل {إذا} ظرفًا مجرّدًا عن معنى الشرطية منصوبًا بفعل محذوف لقصد التهويل يقتضي تقديره عدمُ وجود متعلّق للظرف ليقدّر له متعلّق بما يناسب، كما قدّر في قوله تعالى: {ويوم نبعث} [سورة النحل: 84].
والتقدير: إذا رأى الذين ظلموا العذاب ثقل عليهم وبغتهم، وعلى هذا فالفاء في قوله: {فلا يخفف} فصيحة وليست رابطة للجواب.
و{الذين ظلموا} هم الذين كفروا، فالتعبير به من الإظهار في مقام الإضمار لقصد إجراء الصفات المتلبّسين بها عليهم.
والمعنى: فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون، ثم يساقون إلى العذاب فإذا رأوه لا يخفّف عنهم، أي يسألون تخفيفه أو تأخير الإقحام فيه فلا يستجاب لهم شيء من ذلك.
وأطلق العذاب على آلاته ومكانه.
وجاء المسند إليه مُخبرًا عنه بالجملة الفعلية، لأن الإخبار بالجملة الفعلية عن الاسم يفيد تقوّي الحكم، فأريد تقوّي حكم النفي، أي أن عدم تخفيف العذاب عنهم محقّق الوقوع لا طماعية في إخلافه، فحصل تأكيد هذه الجملة كما حصل تأكيد الجملة التي قبلها بالفاء، أي فهم يلقون بسرعة في العذاب.
{وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاء شُرَكَاؤنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ}.
{الذين أشركوا} هم الذين ظلموا الذين يرون العذاب، وهم الذين كفروا الذين لا يؤذن لهم.
وإجراء هذه الصّلات الثلاث عليهم لزيادة التسجيل عليهم بأنواع إجرامهم الراجعة إلى تكذيب ما دعاهم الله إليه، وهو نكتة الإظهار في مقام الإضمار هنا، كما تقدّم في قوله تعالى: {وإذا رءا الذين ظلموا العذاب} [سورة النحل: 85].
فالإشراك المقصود هنا هو إشراكهم الأصنام في صفة الإلهية مع الله تعالى، فيتعيّن أن يكون المراد بالشركاء الأصنام، أي الشركاء لله حسب اعتقادهم.
وبهذا الاعتبار أضيف لفظ شركاء إلى ضمير {الذين ظلموا} في قوله تعالى: {شركاءهم}، كقول خالد بن الصقعب النهدي لعمرو بن معدي كرب وقد تحدّث عَمْرو في مجلس قوم بأنه أغار على بني نهد وقتل خالدًا، وكان خالد حاضرًا في ذلك المجلس فناداه: مهلًا أبا ثور قتيلُك يسمع، أي قتيلك المزعوم، فالإضافة للتهكّم.
والمعنى: إذا رأى الذين أشركوا الشركاء عندهم، أي في ظنّهم.
ولك أن تجعل لفظ {شركاء} لقبًا زال منه معنى الوصف بالشركة وصار لقبًا للأصنام، فتكون الإضافة على أصلها.
والمعنى: أنهم يرون الأصنام حين تقذف معهم في النار، قال تعالى: {وقودها الناس والحجارة} [سورة البقرة: 24].
وقولهم: {ربنا هؤلاء شركاؤنا} إما من قبيل الاعتراف عن غير إرادة فضحًا لهم، كقوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم} [سورة النور: 24]، وإما من قبيل التنصّل وإلقاء التّبعة على المعبودات كأنهم يقولون هؤلاء أغروَنا بعبادتهم من قبيل قوله تعالى: {وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرّأوا منا} [سورة البقرة: 167].
والفاء في {فألقوا} للتّعقيب للدّلالة على المبادرة بتكذيب ما تضمّنه مقالهم، أنطق الله تلك الأصنام فكذّبت ما تضمّنه مقالهم من كون الأصنام شركاء لله، أو من كون عبادتهم بإغراء منها تفضيحًا لهم وحسرة عليهم.
والجمع في اسم الإشارة واسم الموصول جمعُ العقلاء جريًا على اعتقادهم إلهية الأصنام.
ولما كان نطق الأصنام غير جار على المتعارف عبّر عنه بالإلقاء المؤذن بكون القول أجراه الله على أفواه الأصنام من دون أن يكونوا ناطقين فكأنه سقط منها.
وإسناد الإلقاء إلى ضمير الشركاء مجاز عقلي لأنها مَظهره.
وأجرى عليهم ضمير جمع العقلاء في فعل {ألقوا} مُشاكلةً لاسم الإشارة واسم الموصول للعقلاء.
ووصفهم بالكذب متعلّق بما تضمّنه كلامهم أن أولئك آلهة يُدعون من دون الله على نحو ما وقع في الحديث: «فيقال للنّصارى: ما كنتم تعبدون، فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتّخذَ الله من ولد».
وأما صريح كلامهم وهو قولهم: {هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك} فهم صادقون فيه.
وجملة {إنكم لكاذبون} بدل من {القول}.
وأعيد فعل {ألقَوا} في قوله: {وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم} لاختلاف فاعل الإلقاء، فضمير القول الثاني عائد إلى {الذين أشركوا}.
ولك أن تجعل فعل {ألقوا} الثاني مماثلًا لفعل {ألقوا} السابق.
ولك أن تجعل الإلقاء تمثيلًا لحالهم بحال المحارب إذا غُلب إذ يلقي سلاحه بين يدي غالبه، ففي قوله: {ألقوا} مكنية تمثيلية مع ما في لفظ {ألقوا} من المشاكلة.
و{السلم} بفتح اللام: الاستسلام، أي الطاعة وترك العناد.
{وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي غاب عنهم وزايلهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من الاختلافات للأصنام من أنها تسمع لهم ونحو ذلك.
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)}.
لما ذكر العذاب الذين هم لاقوه على كفرهم استأنف هنا بذكر زيادة العذاب لهم على الزّيادة في كفرهم بأنهم يصدّون الناس عن اتّباع الإسلام، وهو المراد بالصدّ عن سبيل الله، أي السبيل الموصلة إلى الله، أي إلى الكون في أوليائه وحزبه.
والمقصود: تنبيه المسلمين إلى كيدهم وإفسادهم، والتّعريض بالتّحذير من الوقوع في شراكهم.
وزيادة العذاب: مضاعفته.
والتّعريف في قوله تعالى: {فوق العذاب} تعريف الجنس المعهود حيث تقدّم ذكره في قوله تعالى: {وإذا رأى الذين ظلموا العذاب} [سورة النحل: 85]، لأن عذاب كفرهم لما كان معلومًا بكثرة الحديث عنه صار كالمعهود؛ وأما عذاب صدّهم الناس فلا يخطر بالبال فكان مجهولًا فناسبه التنكير.
والباء في {بما كانوا يفسدون} للسببية.
والمراد: إفسادهم الراغبين في الإسلام بتسويل البقاء على الكفر، كما فعلوا مع الأعشى حين جاء مكّة راغبًا في الإسلام مادحًا الرسول عليه الصلاة والسلام بقصيدة:
هَل اغتمضَتْ عيناك ليلةَ أرْمَدَا

وقصّته في كتب السيرة والأدب.
وكما فعلوا مع عامر بن الطّفيل الدّوسي فإنه قدم مكّة فمشى إليه رجال من قريش فقالوا: يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وقد فرّق جماعتنا وشتّت أمرنا وإنما قوله كالسحر، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنّه ولا تسمعَنّ منه.
وقد ذكر في قصة إسلام أبي ذرّ كيف تعرّضوا له بالأذى في المسجد الحرام حين علموا إسلامه. اهـ.