فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)}.
الحق تبارك وتعالى يُنبّهنا هنا إلى أن المسألة ليست دينًا، وتنتهي القضية آمن مَنْ آمن، وكفر مَنْ كفر.. إنما ينتظرنا بعث وحساب وثواب وعقاب.. مرجع إلى الله تعالى ووقوف بين يديه، فإنْ لم تذكر الله بما أنعم عليك سابقًا فاحتط للقائك به لاحقًا.
والشهيد: هو نبيُّ الأمة الذي يشهد عليهم بما بلّغهم من منهج الله.
وقال تعالى في آية أخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
فكأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعطاها الله أمانة الشهادة على الخَلْق لأنها بلغتهم، فكل مَنْ آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب منه أن يُبلّغ ما بلَّغه الرسول، ليكون شاهدًا على مَنْ بلغه أنه بلَّغه: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} [النحل: 84].
فحينما يشهد عليهم الشهيد لا يُؤْذَن لهم في الاعتذار، كما قال تعالى في آية أخرى: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36].
أو حينما يقول أحدهم: {رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99-100].
فلا يُجَاب لذلك؛ لأنه لو عاد إلى الدنيا لفعل كما كان يفعل من قبل، فيقول تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وقوله: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84].
يستعتبون: مادة استعتب من العتاب، والعتاب مأخوذ من العَتْب، وأصله الغضب والموجدة تجدها على شخص آخر صدر منه نحوك ما لم يكن مُتوقّعًا منه.. فتجد في نفسك موجدة وغضبًا على مَنْ أساء إليك.
فإن استقرّ العَتْب الذي هو الغضب والموجدة في النفس، فأنت إمّا أنْ تعتب على مَنْ أساء إليك وتُوضّح له ما أغضبك، فربما كان له عُذْر، أو أساء عن غير قصد منه، فإن أوضح لك المسألة وأرضاك وأذهب غضبك فقد أعتبك.. فنقول: عتَب فلان على فلان فأعتبه، أي: أزال عَتْبه.
والإنسان لا يُعاتب إلا عزيزًا عليه يحرص على علاقته به، ويضعه موضعًا لا تتأتى منه الإساءة، ومن حقه عليك أن تعاتبه ولا تدعْ هذه الإساءة تهدم ما بينكما.
إذن: معنى: {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84].
أي: لا يطلب أحد منهم أنْ يرجعوا عما أوجب العَتْب وهو كفرهم.. فلم يَعُد هناك وقت لعتاب؛ لأن الآخرة دار حساب، وليست دار عمل أو توبة.. لم تَعُدْ دارَ تكليف.
ويقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ}.
{وإذا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} [النحل: 85].
كأن العذاب سيُنصب أمامهم، فيرونه قبل أن يباشروه، وهكذا يجمع الله عليهم ألوانًا من العذاب؛ لأن إدراكات النفس تتأذى بالمشاهدة قبل أنْ تألم الأحاسيس بالعذاب؛ لذلك قال: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} [النحل: 85].
وقوله: {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [النحل: 85].
أي: لا يُمْهَلُون ولا يُؤجّلون.
ويقول الحق سبحانه: {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ}.
ذلك حينما يجمع الله المشركين وشركاءهم من شياطين الإنس والجن والأصنام، وكل مَنْ أشركوه مع الله وَجْهًا لوجه يوم القيامة، وتكون بينهما هذه الواجهة.. حينما يرى المشركون شركاءهم الذين أضلّوهم وزيّنوا لهم المعصية، وزيّنوا لهم الشرك والكفر بالله.. يقولون: هؤلاء هم سببُ ضلالنا وكُفْرنا.. كما قال تعالى عنهم في آية أخرى: {إِذْ تَبَرَّأَالذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166].
ويقول تعالى: {يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: 31].
وقوله: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} [النحل: 86].
أي: ردُّوا عليهم بالمثل، وناقشوهم بالحجة، كما قال تعالى في حَقِّ الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22].
إذن: ردّوا عليهم القول: ما كان عليكم سلطان. نحن دعوناكم فاستجبتم لنا، ولم يكن لنا قوة تُرغمكم على الفعل، ولا حُجّة تُقنعكم بالكفر؛ ولذلك يتهمونهم بالكذب: {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86] أي: كاذبون في هذه الدعوى.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله}.
السَّلَم: أي الاستسلام.. فقد انتهى وقت الاختيار ومضى زمن المهْلة، تعمل أو لا تعمل. إنما الآن {لِّمَنِ الملك اليوم}؟ الأمر والملك لله، وما داموا لم يُسلِّموا طواعية واختيارًا، فَلْيُسلّموا له قَهْرًا ورَغْمًا عن أنوفهم.
وهنا تتضح لنا مَيْزة من مَيْزات الإيمان، فقد جعلني استسلم لله عز وجل مختارًا، بدل أنْ استسلمَ قَهْرًا يوم أنْ تتكشّف الحقيقة على أنه لا إله إلا الله، وسوف يُواجهني سبحانه وتعالى في يوم لا اختيار لي فيه.
وقوله: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [النحل: 87].
كلمة: الضلال تردُ بمعانٍ متعددة، منها: ضلَّ أي غاب عنهم شفعاؤهم، فأخذوا يبحثون عنهم فلَم يجدوهم، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10].
أي: يغيبوا في الأرض، حيث تأكل الأرض ذرّاتهم، وتُغيِّبهم في بطنها.، وكذلك نقول: الضالة أي الدابة التي ضلَّتْ أي: غابتْ عن صاحبها.
ومن معاني الضلال: النسيان، ومنه قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} [البقرة: 282].
ومن معانيه: التردد، كما في قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَآلًا فهدى} [الضحى: 7].
فلم يكُنْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ثم تركه وانصرف عنه وفارقه، ثم هداه الله.. بل كان صلى الله عليه وسلم مُتحيّرًا مُتردّدًا فيما عليه سادة القوم وأهل العقول الراجحة من أفعال تتنافى مع العقل السليم والفطرة النَّيرة، فكانت حيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يراه من أفعال هؤلاء وهو لا يعرف حقيقتها.
فقوله: {وَضَلَّ عَنْهُم} [النحل: 87].
أي: غاب عنهم: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [النحل: 87].
أي: يكذبون من ادعائهم آلهة وشفعاء من دون الله.
ثم يقول الحق سبحانه: {الذين كَفَرُواْ}.
هنا فرْق بين الكفر والصَّدِّ عن سبيل الله، فالكفر ذنب ذاتيّ يتعلق بالإنسان نفسه، لا يتعدّاه إلى غيره.. فَاكفُرْ كما شئت والعياذ بالله أنت حر!!
أما الصدُّ عن سبيل الله فذنبٌ مُتعدٍّ، يتعدَّى الإنسان إلى غيره، حيث يدعو غيره إلى الكفر، ويحمله عليه ويُزيّنه له.. فالذنب هنا مضاعف، ذنب لكفره في ذاته، وذنب لصدّه غيره عن الإيمان، لذلك يقول تعالى في آية أخرى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13].
فإنْ قال قائل: كيف وقد قال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164].
نقول: لا تعارضَ بين الآيتين، فكل واحد سيحمل وزْره، فالذي صَدَّ عن سبيل الله يحمل وِزْرَيْن، أما مَنْ صدَّه عن سبيل الله فيحمل وِزْر كفره هو.
وقوله: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العذاب} [النحل: 88].
العذاب الأول على كفرهم، وزِدْناهم عذابًا على كفر غيرهم مِمَّنْ صدُّوهم عن سبيل الله.
ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ سَنَّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة، ومَنْ سَنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة».
فإياك أنْ تقعَ عليك عيْن المجتمع أو أُذنه وأنت في حال مخالفة لمنهج الله؛ لأن هذه المخالفة ستؤثر في الآخرين، وستكون سببًا في مخالفة أخرى بل مخالفات، وسوف تحمل أنتَ قِسْطًا من هذا.. فأنت مسكين تحمل سيئاتك وسيئات الآخرين.
وقوله: {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
والإفساد: أنْ تعمدَ إلى شيء صالح أو قريب من الصلاح فتُفسده، ولو تركتَه وشأنه لربما يهتدي إلى منهج الله.. إذن: أنت أفسدتَ الصالح ومنعت القابل للصلاح أن يُصلح. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84]، وفي آية سادسة من هذه: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، ففي الأولى {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} وفي الثانية {فِي كُلِّ أُمَّةٍ}، وفي الأولى: {شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وفي الثانية: {شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاء}، فللسائل أن يسأل عن موجب الاختلاف في الآيتين؟
واعلم أن الآية الأولى متفق فيها على أن المراد بها الأنبياء، عليهم السلام، مع أممهم، وكل نبي شاهد على أمته ولها بإيمان مؤمنها وكفر كافرها، ولم يختلف المفسرون في هذا، وإنما السؤال في الآية الثانية لاختلافهم فيها، فأكثر المفسرين لم يفرق بينها وبين الأولى فيما قصد بها، وأن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم شاهد على أمته كشهدة الرسل على أممهم، ثم إن هذه تضمنت زائدًا على ذلك حسبما نبينه، وأشار بعضهم إلى الفرق بين الآيتين من غير تحرير ولا ركون إلى توجيه يعتمد، فأقول-وأسأل الله توفيقه: إن هذه الآية لثانية المراد بها تخصيص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالإفصاح فيها- ما شاركت فيه الأولى- بما منح من الكتاب العزيز وعظيم النعمة عليه وعلى أمته، فاتسؤنف وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} وكرر ليبنى عليه ما بعد من قوله: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الآية، فهذا من قبيل قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 90]، وقد تقدم هذا قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} (الأعراف: 88)، فكرر: {قَالَ الْمَلَأُ} ليبني عليه ما اتصل به، ونحو هذا قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 150] وقد تقدم أمره عليه السلام بهذا إلا أنه أعيد ليبنى عليه ما بعد من قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة: 150) ليفهم وحيث ما كنتم من البلاد أو المواضع التي خرجتم إليها، ولم تكن الآية المتقدمة لتعطي ذلك إلا باعتماد من غير تحرير، فلم يكن بد من إعادة ما ذكر ليتحرر المعنى المراد من الآية، وقد مر بيان ذلك في سورة البقرة عند ذكر الآية المشار إليها، ومن نحو هذا في الإخبار قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (المؤمنون: 35)، فكرر {أنكم} ليبنى عليه الخبر بالإعادة والإخراج بما بعد من قوله في أول الآية: {إنكم}، وهو مرتكب بليغ متكرر في الكتاب العزيز، فكذا الوارد في هذه الآية من قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ}، تكرر لعظيم ما بني عليه وقصد الإخبار والبشارة من قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. فلما بين هذا الإنعام العظيم وبين الحاصل طي الآية المتقدمة من مخوف الوعيد، أعقب به التعريف فيها بالشهادة، من قوله تعالى: {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84]، إلى ما تلا هذا.
فالآيتان فيما أعقبتا به، وأنيط بكل واحدة منها، معرفتان بالحال في الطرفين، الأولى معقب فيها التخويف والتهديد بأشد الوعيد، والثانية أعقب مخوف تهديدها بترجي السلامة من مهول وعيدها بما اتبعت به، مما يفهم البشارة والتلطف والإنعام بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. بعد ذكر نبينا عليه السلام. المراد بهذا الخطاب التعريف بشهادته لأمته مفصحًا بالإشارة إليه تخويفًا وتعظيمًا، وبالإنعام بما أولاه ومنح أمته من الرحمة بالكتاب المهيمن على سواه من الكتب والمبين لك شيء والهدى والرحمة والبشرى، أوزعنا الله شكر نعمه، وجعلنا من أمة هذا النبي الكريم بمنه.
ولما كان قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاء} [النحل: 89] حاصلًا منه تعقيبه، عليه السلام، وتحقيق كونه الشهيد على أمته، وكونه من أنفسنا ورد ما قبله محررًا فيه ذلك الغرض من تحقيق ذلك الحكم، من أن كل نبي قبله إنما كان من أنفس القوم المرسل إليهم ذلك الرسول لا من غيرهم، وهو الشهيد عليهم، وحقق ذلك في الثانية بما يحرزه حررف الوعاء الذي هو (في) ويقتضيه من استحكام الإخبار بكون الشهيد من نفس الأمة، لأن قوله: {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} يحتمل أن يراد به أن يكون منهم في مذهب أو جامع بينهم وبينه، من غير أن يكون من أنفسهم، أما قوله: {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} فأنص في الاتصال واللزوق، لاسيما بما اتبع به من قوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ}، فطوبق بين المتقابلين من قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 89] وقوله: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاء} [الحل: 89] فقد وضح ما باينت هذه الآية (به الآية)، وبانت جلالة هذا النظم العجيب، وأن ما توهم تكراره ليس بتكرار، إذا كان مقصود ما أعيد مما تقدم ذكره الشهيد لما بني عليه. فتحصل من هذه الآية العظيمة جليل الاعتناء بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تأنيسه، مالآية في قوله تأنيسًا للأمة وإعلامًا بعظيم مكانته صلى الله عليه {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] فهذا-والله أعلم- فصل ما بين الآيتين، وقد بان فيه التناسب، وجلالة النظم، وحسن الالتئام، والله أعلم بما أراد.
فصل:
لم يتعرض لهذه الآية أكثر المفسرين، ومن تعرض منهم لها ألحقها بالأول، وقد وقفت في التفسير الكبير المنسوب للإمام أبي الفضل بن الخطيب، وقد تعرض لهذه الآية فأورد مأخذ الإمامية بأن كل عصر لا يخلو من إمام معصوم، وذكر تخريج الآية عندهم، ثم محله، واتبع بأن قال: فثبت أنه لابد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم، ثم حكى عن أبي بكر الأصم أن المراد بالشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أجزاء الإنسان تشهد عليه، وهي: الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان، قال والتدليل عليه أنه قال في صفة الشهيد: أنه من أنفسهم، وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم وذكر أن القاضي أجاب عن هذا من وجوه: الأول أنه تعالى قال: {شهيد} فيجب أن يكون غيرهم، والثاني أنه من كل أمة فوجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمة وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها بأنه من الأمة، هذا حاصل ما وقع في هذا التفسير، ولم يقع فيه تعرض لشيء من ألفاظ الآية، وتنزيل هذه المآخذ على الآية، وأخذها من أبعد شيء، وقد ذكرت في ذلك منزلًا عن الآية ما أراه الأولى في المراد بها، والله أعلم.
وأما قول الإمامية: إنه لابد في كل عصر وقرن من إمام معصوم يشهد عليها في القيامة فباطل، وقد كفانا وجه فساده من تقدم، وقول الأصم بعيد لما قاله القاضي، وأما ما اعتمده أبو الفضل فبعيد أيضًا، فيه ما يشبه الصغو إلى قول الإمامية، وقد ورد في الصحيح أن الرسل هم الذين يشهدون على أممهم، وعلى ذلك حمل المفسرون قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاء شَهِيدًا} [النساء: 41]، ولا فرق بين هذه الآي، والله أعلم. اهـ.