فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاء}.
تكرير لجملة {ويوم نبعث من كل أمةٍ شهيدًا ثم لا يؤذن للذين كفروا} [سورة النحل: 84]. ليبنى عليه عطف جملة {وجئنا بك شهيدًا على هؤلاء وَيَوْمَ نَبْعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا على هؤلاء} على جملة {ويوم نبعث في كل أمةٍ شهيدًا عليهم}.
ولما كان تكريرًا أعيد نظير الجملة على صورة الجملة المؤكّدة مقترنة بالواو، ولأن في هذه الجملة زيادة وصف {من أنفسهم} فحصلت مغايرة مع الجملة السابقة والمغايرة مقتضية للعطف أيضًا.
ومن دواعي تكرير مضمون الجملة السابقة أنه لبعد ما بين الجملتين بما اعترض بينهما من قوله تعالى: {ثم لا يؤذن للذين كفروا} إلى قوله: {بما كانوا يفسدون} [سورة النحل: 84، 88]، فهو كالإعادة في قول لبيد:
فتنازعا سبطًا يطير طلالُه ** كدخان مشعلة يشبّ ضِرامها

مشمولةٍ غلثت بنابت عرفج ** كدخان نار ساطع أسنامها

مع أن الإعادة هنا أجدر لأن الفصل أطول.
وقد حصل من هذه الإعادة تأكيد التهديد والتسجيل.
وعُدّي فعل {نبعث} هنا بحرف {في}، وعُدّي نظيره في الجملة السابقة بحرف {من} ليحصل التفنّن بين المكرّرين تجديدًا لنشاط السامعين.
وزيد في هذه الجملة أن الشهيد يكون من أنفسهم زيادة في التذكير بأن شهادة الرسل على الأمم شهادة لا مطعن لهم فيها لأنها شهود من قومهم لا يجد المشهود عليهم فيها مساغًا للطعن.
ولم تخل أيضًا بعد التعريض بالتحذير من صدّ الكافرين عن سبيل الله من حسن موقع تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم إذ بعث فيهم شهيدًا يشهد لهم بما ينفعهم وبما يضرّ أعداءهم.
والقول في بقيّة هذه الجملة مثل ما سبق في نظيرتها.
ولما كان بعث الشهداء للأمم الماضية مرادًا به بعثهم يوم القيامة عبّر عنه بالمضارع.
وجملة {وجئنا بك شهيدًا} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {ويوم نبعث} كلّها.
فالمعنى: وجئنا بك لما أرسلناك إلى أمّتك شهيدًا عليهم، أي مقدّرًا أن تكون شهيدًا عليهم يوم القيامة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان حيًّا في آن نزول هذه الآية كان شهيدًا في الحال والاستقبال، فاختير لفظ الماضي في {جئنا} للإشارة إلى أنه مجيء حصل من يوم بعثته.
ويعلم من ذلك أنه يحصل يوم القيامة بطريق المساواة لبقيّة إخوانه الشهداء على الأمم، إذ المقصود من ذلك كلّه تهديد قومه وتحذيرهم.
وهذا الوجه شديد المناسبة بأن يعطف عليه قوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب} [سورة النحل: 89]. الآية.
وقد علمت من هذا أن جملة {وجئنا بك شهيدًا} ليست معطوفة على {نبعث} بحيث تدخل في حيّز الظرف وهو {يوم}، بل معطوفة على مجموع جملة {يوم نبعث}، لأن المقصود وجئنا بك شهيدًا من وقت إرسالك.
وعلى هذا يكون الكلام تَمّ عند قوله: {من أنفسهم}، فيحسن الوقف عليه لذلك.
ويجوز أن تعطف على جملة {نبعث في كل أمّة شهيدًا} فتدخل في حيّز الظرف ويكون الماضي مستعملًا في معنى الاستقبال مجازًا لتحقّق وقوعه، فشابه به ما حصل ومضى، فيكون الوقف على قوله: {شهيدًا}.
ويتحصّل من تغيير صيغة الفعل عن المضارع إلى الماضي تهيئة عطف {ونزلنا عليك الكتاب}.
ولم يوصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه من أنفسهم لأنه مبعوث إلى جميع الأمم، وشهيد عليهم جميعًا، وأما وصفه بذلك في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفُسكم} في سورة التوبة (128) فذلك وصف كاشف اقتضاه مقام التّذكير للمخاطبين من المنافقين الذين ضَمّوا إلى الكفر بالله كفران نعمة بعث رسول إليهم من قومهم.
وليس في قوله: {على هؤلاء} ما يقتضي تخصيص شهادته بكونها شهادة على المتحدّث عنهم من أهل الشرك، ولكن اقتصر عليهم لأن الكلام جار في تهديدهم وتحذيرهم.
و{هؤلاء} إشارة إلى حاضر في الذّهن وهم المشركون الذين أكثر الحديث عليهم.
وقد تتبّعتُ مواقع أمثال اسم الإشارة هذا في القرآن فرأيته يعني به المشركون من أهل مكّة.
وتقدّم بيانه عند قوله تعالى: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} في سورة النساء (41)، وقوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء} في سورة الأنعام (89).
عطف على جملة {وجئنا بك شهيدًا} أي أرسلناك شهيدًا على المشركين وأنزلنا عليك القرآن لينتفع به المسلمون، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شهيد على المكذّبين ومرشد للمؤمنين.
وهذا تخلّص للشروع في تعداد النّعم على المؤمنين من نعم الإرشاد ونعم الجزاء على الامتثال وبيان بركات هذا الكتاب المنزّل لهم.
وتعريف الكتاب للعهد، وهو القرآن.
و{تبيانًا} مفعول لأجله.
والتّبيان مصدر دالّ على المبالغة في المصدرية، ثم أريد به اسم الفاعل فحصلت مبالغتان، وهو بكسر التاء، ولا يوجد مصدر بوزن تفعال بكسر التاء إلا تِبيان بمعنى البيان كما هنا.
وتِلقاء بمعنى اللّقاء لا بمعنى المكان، وما سوى ذلك من المصادر الواردة على هذه الزّنة فهي بفتح التاء.
وأما أسماء الذوات والصفاتُ الواردة على هذه الزنة فهي بكسر التاء وهي قليلة، عدّ منها: تمثال، وتنبال، للقصير.
وأنهاها ابن مالك في نظم الفوائد إلى أربع عشرة كلمة.
و{كلّ شيء} يفيد العموم؛ إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشّرائع: من إصلاح النفوس، وإكمال الأخلاق، وتقويم المجتمع المدنيّ، وتبيّن الحقوق، وما تتوقّف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما يأتي في خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية، ووصف أحوال الأمم، وأسباب فلاحها وخسارها، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ، وما يتخلّل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم.
وفي خلال ذلك كلّه أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بيانًا لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول صلى الله عليه وسلم وما قفّاه به أصحابه وعلماء أمّته، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعدّ للطائعين وما أعدّ للمعرضين، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة.
ففي كل ذلك بيان لكل شيء يقصد بيانه للتبصّر في هذا الغرض الجليل، فيؤول ذلك العموم العرفي بصريحه إلى عموم حقيقي بضمنه ولوازمه.
وهذا من أبدع الإعجاز.
وخصّ بالذّكر الهدى والرحمة والبُشرى لأهميتها؛ فالهدى ما يرجع من التّبيان إلى تقويم العقائد والأفهام والإنقاذ من الضلال.
والرحمة ما يرجع منه إلى سعادة الحياتين الدنيا والأخرى، والبُشرى ما فيه من الوعد بالحسنيين الدنيوية والأخروية.
وكل ذلك للمسلمين دون غيرهم لأن غيرهم لما أعرضوا عنه حَرموا أنفسهم الانتفاع بخواصّه كلها.
فاللام في {لكل شيء} متعلق بالتبيان، وهي لام التقوية، لأن {كل شيء} في معنى المفعول به ل {تبيانًا}.
واللام في {للمسلمين} لام العلّة يتنازع تعلّقها {تبيان وهدى ورحمة وبُشرى} وهذا هو الوجه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاء}.
قوله: {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 89].
يعني من جنسهم، والمراد: أهل الدعوة إلى الله من الدُّعَاة والوعاظ والأئمة الذين بلّغوا الناس منهج الله، هؤلاء سوف يشهدون أمام الله سبحانه على مَنْ قصّر في منهج الله.
وقد يكون معنى: {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 89].
أي: جزء من أجزائهم وعضوًا من أعضائهم، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24].
وقوله: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21].
والشهيد إذا كان من ذات الإنسان وبعض من أبعاضه فلا شكَّ أن حجته قوية وبيّنته واضحة.
وقوله: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا على هؤلاء} [النحل: 89].
أي: شهيدًا على أمتك كأنه صلى الله عليه وسلم شهيد على الشهداء.
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].
الكتاب: القرآن الكريم.. تبيانًا: أي بيانًا تامًا لكل ما يحتاجه الإنسان، وكلمة {شيء} تُسمّى جنس الأجناس. أي: كل ما يُسمّى {شيء} فبيانُه في كتاب الله تعالى.
فإنْ قال قائل: إنْ كان الأمر كذلك، فلماذا نطلب من العلماء أن يجتهدوا لِيُخرجوا لنا حُكْمًا مُعيّنًا؟
نقول: القرآن جاء معجزة، وجاء منهجًا في الأصول، وقد أعطى الحق تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حق التشريع، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
إذن: فسُنة الرسول صلى الله عليه وسلم قَوْلًا أو فِعْلًا أو تقريرًا ثابتة بالكتاب، وهي شارحة له ومُوضّحة، فصلاة المغرب مثلًا ثلاث ركعات، فأين هذا في كتاب الله؟ نقول في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القضية حينما أرسل معاذ بن جبل رضي الله عنه قاضيًا لأهل اليمن، وأراد أن يستوثق من إمكانياته في القضاء. فسأله: «بِمَ تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإنْ لم تجد؟ قال: فبُسنة رسول الله، قال: فإنْ لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو أي لا أُقصّر في الاجتهاد. فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي الله ورسوله».
إذن: فالاجتهاد مأخوذ من كتاب الله، وكل ما يستجد أمامنا من قضايا لا نصّ فيها، لا في الكتاب ولا في السنة، فقد أبيح لنا الاجتهادُ فيها.
ونذكر هنا أن الإمام محمد عبده رحمه الله حُدِّث عنه وهو في باريس أن أحد المستشرقين قال له: أليس في آيات القرآن: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
قال: بلى، قال له: فهات لي من القرآن: كم رغيفًا يوجد في أردب القمح؟
فقال الشيخ: نسأل الخباز فعنده إجابة هذا السؤال.. فقال المستشرق: أريد الجواب من القرآن الذي ما فرط في شيء، فقال الشيخ: هذا القرآن هو الذي علَّمنا فيما لا نعلم أن نسأل أهل الذكر فقال: {فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].
إذن: القرآن أعطاني الحجة، وأعطاني ما أستند إليه حينما لا أجد نصًّا في كتاب الله، فالقرآن ذكر القواعد والأصول، وأعطاني حَقَّ الاجتهاد فيما يعِنّ لي من الفروع، وما يستجدّ من قضايا، وإذا وُجِد في القرآن حكم عام وجب أن يُؤخذ في طيّه ما يُؤخذ منه من أحكام صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله وكله.
فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
وكذلك الإجماع من الأمة؛ لأن الله تعالى قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى} [النساء: 115].
وكل اجتهاد يُرَدُّ إلى أهل الاجتهاد: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
إذن: فكلّ ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الإجماع وعن الأئمة المجتهدين موجود في القرآن، فهو إذن صادق.
ويجب هنا أن نُفرّق بين الأشياء والقضايا فهي كثيرة، فما الذي يتعرّض له القرآن؟ يتعرض القرآن للأحكام التكليفية المطلوبة من العبد الذي آمن بالله، وهناك أمور كونية لا يتأثر انتفاع الإنسان بها بأنْ يعلمها، فهو ينتفع بها سواء علمها أو جهلها، فكوْنُ الأرض كُروية الشكل، وكَوْنها تدور حول الشمس، وغير هذه الأمور من الكونيات إنْ علمها فبها ونعمتْ، وإنْ جهلها لا يمنعه جهله من الانتفاع بها.
فالأُميّ الذي يعيش في الريف مثلًا ينتفع بالكهرباء، وهو لا يعلم شيئًا عن طبيعتها وكيفية عملها، ومع ذلك ينتفع بها، مجرد أن يضع أصبعه على زِرّ الكهرباء تُضيء له.
فلو أن الحق تبارك وتعالى أبان الآيات الكونية إبانةً واضحة ربما صَدَّ العرب الذين لا يعرفون شيئًا عن حركة الكون، وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مقاصد القرآن حول الآيات الكونية؛ ولذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهِلّة، كما حكى القرآن الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} [البقرة: 189].
والأهلة: جمع هلال، وهو ما يظهر من القمر في بداية الشهر حيث يبدو مثل قلامة الظفر، ثم يزداد تدريجيًا إلى أنْ يصل إلى مرحلة البدر عند تمام استدارته، ثم يتناقص تدريجيًا أيضًا إلى أنْ يعودَ إلى ما كان عليه، هذه عجيبة يرونها بأعينهم، ويسألون عنها.
ولكن، كيف رَدَّ عليهم القرآن؟ لم يُوضح لهم القرآن الكريم كيف يحدث الهلال، وأن الأرض إذا حالتْ بين الشمس والقمر وحجبت عنه ضوء الشمس نتج عن ذلك وجود الهلال ومراحله المختلفة.
فهذا التفصيل لا تستوعبه عقولهم، وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مثل هذه القضايا الكونية؛ لذلك يقول لهم: اصرفوا نظركم عن هذه، وانظروا إلى حكمة الخالق سبحانه في الأهلة: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189].
فردّهم إلى أمر يتعلق بدينهم التقليدي، فاهتمّ ببيان الحكمة منها، وفي نفس الوقت ترك هذه المسألة للزمن يشرحها لهم، حيث سيجدون في القرآن ما يُعينهم على فَهْم هذا الموضوع.
إذن: قوله تعالى: {مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
أي: من كل شيء تكليفيّ، إنْ فعله المؤمن أثيب، وإنْ لم يفعله يُعاقب، أما الأمور الكونية فيعطيهم منها على قدر وَعْيهم لها، ويترك للزمن مهمة الإبانة بما يحدث فيه من فكر جديد.
لذلك نرى القرآن الكريم لم يفرغ عطاءه كله في القرآن الذي نزل فيه، فلو فعل ذلك لاستقبل القرون الأخرى بغير عطاء، فالعقول تتفتّح على مَرِّ العصور وتتفتّق عن فكر جديد، ولا يصح أنْ يظلَّ العطاء الأول هو نفسه لا يتجدد، لابد أن يكون لكل قرن عطاء جديد يناسب ارتقاءات البشر في علومه الكونية. والرسول صلى الله عليه وسلم حينما رأى الناس يُؤبّرون النخل، أي: يُلقّحونه، وهو ما يُعرف بعملية الإخصاب، حيث يأخذون من الذكر ويضعون في الأنثى، فماذا قال لهم؟ قال: لو لم تفعلوا لأثمر، ففي الموسم القادم تركوا هذه العملية فلم يُثمر النخل، فلما سئل صلى الله عليه وسلم قال: «أنتم أعلم بشئون دنياكم».
فهذا أمر دنيوي خاضع للتجربة ووليد بَحْث معمليّ، وليس من مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم توضيح هذه الأمور التي يتفق فيها الناس وتتفق فيها الأهواء، إنما الأحكام التكليفية التي تختلف فيها الأهواء فحسمها الحق بالحكم.
فمثلًا في العالم موجاتٌ مادية تهتم بالاكتشافات والاختراعات والاستنباطات التي تُسخر أسرار الكون لخدمة الإنسان، فهل يختلف الناس حول مُعْطيات هذه الموجة المادية؟ هل نقول مثلًا: هذه كهرباء أمريكاني، وهذه كهرباء روسي؟ هل نقول: هذه كيمياء إنجليزي، وهذه كيمياء ألماني؟
فهذه مسألة وليدة المعمل والتجربة يتفق فيها كل الناس، في حين نجدهم يختلفون في أشياء نظرية ويتحاربون من أجلها، فهذه اشتراكية، وهذه رأسمالية، وهذه وجودية، وتلك علمانية.. إلخ، فجاء الدين ليحسمَ ما تختلف فيه الأهواء.
لذلك نرى كل معسكر يحاول أنْ يسرقَ ما توصَّل إليه المعسكر الآخر من اكتشافات واختراعات، ويرسل جواسيسه ليتابعوا أحداث ما توصّل إليه غيرهم، فهل يسرقون الأمور النظرية أيضًا؟ لا.. بل على العكس تجدهم يضعون الحواجز والاحتياطات لكي لا تنتقل هذه المبادئ إلى بلادهم وإلى أفكار مواطنيهم.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من نفسه مثالًا ونموذجًا لتوضيح هذه المسألة، مع أنه قد يقول قائل: لا يصح في حَقّ رسول الله أن يُشير على الناس بشيء ويتضح خطأ مشورته، إنما الرسول هنا يريد أنْ يُؤصّل قاعدة في نفوس المتكلمين في شئون الدين: إياكم أنْ تُقحِموا أنفسكم في الأمور المادية المعملية التطبيقية، فهذه أمور يستوي فيها المؤمن والكافر.
ولذلك عندما اكتشف العلماء كُروية الأرض، وأنها تدور حول الشمس اعترض على ذلك بعض رجال الدين ووضعوا أنوفهم في قضية لا دَخْل للدين فيها، وقد حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك.
وما قولكم بعد أن صعد العلماء إلى كواكب أخرى، وصوروا الأرض، وجاءت صورتها كُروية فعلًا؟ فلا تفتحوا على أنفسكم باسم الدين بابًا لا تستطيعون غَلْقه.
وقوله تعالى: {وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
الحق تبارك وتعالى وصف القرآن هنا بأنه {هُدىً}، فإذا كان القرآن قد نزل تبيانًا فكان التوافق يقتضي أن يقول: وهاديًا، لكن لم يَصف القرآن بأنه هادٍ، بل هُدىً، وكأنه نفس الهدى؛ لأن هاديًا ذاتٌ ثبت لها الهداية، إنما هُدى: يعني هو جوهر الهدى، كما نقول: فلان عادل، وفي المبالغة نقول: فلان عَدْل. كأن العَدْل مجسّم فيه، وليس مجرد واحد ثبتت له صفة العدل.
وكذلك مثل قولنا عالم وعليم، وقد قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].
فما معنى الهدى؟ هو الدلالة على الطريق الموصّل للغاية من أقرب الطرق.
{وَرَحْمَةً} مرّة يُوصَف القرآن بأنه رحمة، ومرة بأنه: {شِفَاء وَرَحْمَةٌ} [الإسراء: 82].
والشفاء: أن يُوجد داء يعالجه القرآن، والرحمة: هي الوقاية التي تمنع وجود الداء، وما دام القرآن كذلك فمَنْ عمل بمنهجه فقد بُشِّر بالثواب العظيم من الله تعالى، الثواب الخالد في نعيم دائم. اهـ.