فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمِؤُون أعظم من الشَّنَق، فبدأ بالأقل قبل الأعظم.
قال المفسرون: ومقصود الآية: أن الله تعالى أبان نعمه عليهم حيث أخرجهم جهّالًا بالأشياء، وخلق لهم الآلات التي يتوصلون بها إِلى العلم.
قوله تعالى: {مسخرات في جو السماء} قال الزجاج: هو الهواء البعيد من الأرض.
قوله تعالى: {ما يُمسِكُهُنَّ إِلاَّ الله} فيه قولان:
أحدهما: ما يمسكهنَّ عند قبض أجنحتهن وبسطِها أن يَقَعْنَ على الأرض إِلا الله، قاله الأكثرون.
والثاني: ما يُمسكهنَّ أن يرسِلن الحجارة على شرار هذه الأمة، كما فُعِلَ بغيرهم، إِلا الله، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سَكَنًا} أي: موضعًا تسكنون فيه، وهي المساكن المتَّخَذة من الحجر والمدر تستر العورات والحُرَم، وذلك أن الله تعالى خلق الخشب والمدر والآلة التي بها يمكن بناء البيت وتسقيفه، {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا} وهي القباب والخيم المتخذة من الأدم {تستخفُّونها} أي: يخفُّ عليكم حملها {يوم ظعنكم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو {ظَعَنِكُم} بفتح العين.
وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بتسكين العين، وهما لغتان، كالشَّعَر والشَّعْر، والنَّهَرِ والنَّهْرِ، والمعنى: إِذا سافرتم، {ويوم إِقامتكم} أي: لا تثقل عليكم في الحالين.
{ومن أصوافها} يعني: الضأن {وأوبارها} يعني: الإِبل {وأشعارها} يعني: المعز {أثاثًا} قال الفراء: الأثاث: المتاع، لا واحد له، كما أن المتاع لا واحد له.
والعرب تقول: جمع المتاع أمتعه، ولو جمعت الأثاث، لقلت: ثلاثة أإِثَّةٍ، وأُثُث: مثل أعثة وغُثث لا غير.
وقال ابن قتيبة: الأثاث: متاع البيت من الفرش والأكسية.
قال أبو زيد: واحد الأثاث: أثاثة.
وقال الزجاج: يقال: قد أثَّ يَأَث أَثًّا: إِذا صار ذا أثاث.
وروي عن الخليل أنه قال: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إِلى بعض، ومنه: شَعَر أثيث.
فأما قوله: {ومتاعًا} فقيل: إِنما جمع بينة وبين الأثاث، لاختلاف اللفظين.
وفي قوله: {إِلى حين} قولان:
أحدهما: أنه الموت، والمعنى: ينتفعون به إِلى حين الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: أنه إِلى حين البلى، فالمعنى: إِلى أن يَبلى ذلك الشيء، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {والله جعل لكم مما خلق ظِلالا} أي: مايقيكم حر الشمس، وفيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه ظلال الغمام، قاله ابن عباس.
والثاني: ظلال البيوت، قاله ابن السائب.
والثالث: ظلال الشجر، قاله قتادة، والزجاج.
والرابع: ظلال الشجر والجبال، قاله ابن قتيبة.
والخامس: أنه كل شيء له ظل من حائط، وسقف، وشجر، وجبل، وغير ذلك، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: {وجعل لكم من الجبال أكنانًا} أي: مايَكُنُّكم من الحرِّ والبرد، وهي الغيران والأسراب.
وواحد الأكنان كِنّ وكل شيء وقى شيئًا وستره فهو كِنّ {وجعل لكم سرابيل} وهي القُمُص {تقيكم الحر} ولم يقل: البرد، لأن ماوقى من الحر، وقى من البرد، وأنشد:
وَمَا أدْرِي إِذَا يمَّمْتُ أَرْضًا ** أُرِيْدُ الخَيْرَ أَيُّهما يَلَيْنِي

وقال الزجاج: إِنما خص الحرَّ، لأنهم كانوا في مكاناتهم أكثر معاناةً له من البرد، وهذا مذهب عطاء الخراساني.
قوله تعالى: {وسرابيل تقيكم بأْسكم} يريد الدروع التي يتَّقون بها شدّة الطعن والضرب في الحرب.
قوله تعالى: {كذلك يتم نعمته عليكم} أي: مثلما أنعم الله عليكم بهذه الأشياء، يتم نعمته عليكم في الدنيا {لعلكم تُسلِمون} والخطاب لأهل مكة، وكان أكثرهم حينئذٍ كفارًا، ولو قيل: إِنه خطاب للمسلمين، فالمعنى: لعلكم تدومون على الإِسلام، وتقومون بحقه.
وقرأ ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو رجاء: {لعلكم تَسلَمون} بفتح التاء واللام، على معنى: لعلكم إِذا لبستم الدروع تَسلَمون من الجراح في الحرب.
قوله تعالى: {فإن تَولَّوا} أعرضوا عن الإِيمان {فإنما عليك البلاغ المبين} وهذه عند المفسرين منسوخة بآية السيف.
قوله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} وفي هذه النعمة قولان:
أحدهما: أنها المساكن نعم الله عز وجل عليهم في الدنيا.
وفي إِنكارها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم يقولون: هذه ورثناها عن آبائنا.
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: نِعَم الله: المساكن، والأنعام، وسرابيل الثياب، والحديد، يعرفه كفار قريش، ثم ينكرونه بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم، وهذا عن مجاهد.
والثاني: أنهم يقولون: لولا فلان، لكان كذا، فهذا إِنكارهم، قاله عون بن عبد الله.
والثالث: يعرفون أن النعم من الله، ولكن يقولون: هذه بشفاعة آلهتنا، قاله ابن السائب، والفراء وابن قتيبة.
والثاني: أن المراد بالنعمة هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم يعرفون أنه نبيٌّ ثم يكذِّبونه، وهذا مروي عن مجاهد، والسدي، والزجاج.
قوله تعالى: {وأكثرهم الكافرون} قال الحسن: وجميعهم كفار، فذكر الأكثر، والمراد به الجميع.
قوله تعالى: {ويوم نبعث من كل أُمةٍ شهيدًا} يعني: يوم القيامة، وشاهد كلِّ أُمةٍ نبيُّها يشهد عليها بتصديقها وتكذبيها، {ثم لا يؤذَن للذين كفروا} في الاعتذار {ولا هم يُستعتبون} أي: لا يُطلب منهم أن يرجعوا إِلى ما أمر الله به، لأن الآخرة ليست بدار تكليف.
قوله تعالى: {وإِذا رأى الذين ظَلموا} أي: أشركوا {العذاب} يعني: النار {فلا يخفف عنهم} العذاب {ولا هم يُنظرون} لا يؤخَّرون، ولا يمهلون.
{وإِذا رأى الذين أشركوا شركاءهم} يعني: الأصنام التي جعلوها شركاء لله في العبادة، وذلك أن الله يبعث كل معبود من دونه، فيقول المشركون: {ربَّنا هؤلاء شركاؤنا الذِين كنا ندعو} أي: نعبد من دونك.
فإن قيل: فهذا معلوم عند الله تعالى، فما فائدة قولهم: {هؤلاء شركاؤنا}؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنهم لما كتموا الشرك في قولهم: واللهِ ما كنا مشركين، عاقبهم الله تعالى باصمات ألسنتهم، وإِنطاق جوارحهم، فقالوا عند معاينه آلهتهم: {رنبا هؤلاء شركاؤنا} أي: قد أقررنا بعد الجحد، وصدَّقنا بعد الكذب، التماسًا للرحمة، وفرارًا من الغضب، وكأنَّ هذا القول منهم على وجه الاعتراف بالذنْب، لا على وجه إِعلام من لا يعلم.
والثاني: أنهم لما عاينوا عِظَم غضب الله تعالى قالوا: هؤلاء شركاؤنا، تقديرَ أن يعود عليهم من هذا القول روح، وأن تلزم الأصنام إِجرامهم، أو بعض ذنوبهم إِذْ كانوا يدَّعون لها العقل والتمييز، فأجابتهم الأصنام بما حسم طمعهم.
قوله تعالى: {فألقَوا إِليهم القول} أي: أجابوهم وقالوا لهم {إِنكم لكاذبون} قال الفراء: ردت عليهم آلهتهم قولهم.
وقال أبو عبيدة: {فألقوا} أي: قالوا لهم.
يقال: ألقيت إِلى فلان كذا.
أي: قلت له.
قال العلماء: كذَّبوهم في عبادتهم إِياهم، وذلك أن الأصنام كانت جمادًا لا تعرف عابديها، فظهرت فضيحتهم يومئذٍ إِذْ عبدوا مَن لم يعلم بعبادتهم، وذلك كقوله: {سيكفرون بعبادتهم} [مريم: 83].
قوله تعالى: {وأَلقَوا إِلى الله يومئذٍ السَّلَم} المعنى: أنهم استسلموا له.
وفي المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المشركون، قاله الأكثرون.
ثم في معنى استسلامهم.
قولان: أحدهما: أنهم استسلموا له بالإِقرار بتوحيده وربوبيته.
والثاني: أنهم استسلموا لعذابه.
والثاني: أنهم المشركون والأصنام كلُّهم.
قال الكلبي: والمعنى: أنهم استسلموا لله منقادين لحُكمه.
قوله تعالى: {وضل عنهم ما كانوا يفترون} فيه قولان:
أحدهما: بَطَل قولهم أنها تشفع لهم.
والثاني: ذهب عنهم ما زيَّن لهم الشيطان أن لله شريكًا وولدًا.
قوله تعالى: {الذين كفروا وصُّدوا عن سبيل الله} قال ابن عباس: منعوا النَّاس من طاعة الله والإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {زدناهم عذابًا فوق العذاب} إِنما نكَّر العذاب الأول، لأنه نوع خاص لقوم بأعيانهم، وعرَّف العذاب الثاني، لأنه العذاب الذي يعذَّب به أكثر أهل النار، فكان في شهرته بمنزلة النار في قول القائل: نعوذ بالله من النار، وقد قيل: إِنما زِيدوا هذا العذاب على ما يستحقونه من عذابهم، بصدِّهم عن سبيل الله.
وفي صفة هذا العذاب الذي زِيدوا أربعة أقوال:
أحدها: أنها عقارب كأمثال النخل الطوال، رواه مسروق عن ابن مسعود.
والثاني: أنها حيَّات كأمثال الفِيَلَة، وعقارب كأمثال البغال، رواه زرٌّ عن ابن مسعود.
والثالث: أنها خمسة أنهار من صُفْر مُذَابٍ تسيل من تحت العرش يعذَّبون بها.
ثلاثة على مقدار الليل، واثنان على مقدار النهار، قاله ابن عباس.
والرابع: أنه الزمهرير، ذكره ابن الأنباري.
قال الزجاج: يخرجُون من حرِّ النار إِلى الزمهرير، فيتبادرون من شدة برده إِلى النار.
قوله تعالى: {وجئنا بك شهيدًا على هؤلاء} وفي المشار إِليهم قولان:
أحدهما: أنهم قومه، قاله ابن عباس.
والثاني: أُمَّته، قاله مقاتل.
وتم الكلام هاهنا.
ثم قال: {ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانًا} قال الزجاج: التبيان: اسم في معنى البيان.
فأما قوله تعالى: {لكل شيء} فقال العلماء بالمعاني: يعني: لكل شيء من أمور الدين، إِما بالنص عليه، أو بالإِحالة على ما يوجب العلم، مثل بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إِجماع المسلمين. اهـ.

.قال النسفي:

ثم ضرب المثل فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلًا عَبْدًا}.
هو بدل من {مثلًا} {مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شيء وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرَّا وَجَهْرًا} مصدران في موضع الحال أي مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر مالك قد رزقه الله مالًا فهو يتصرف فيه وينفق منه ما شاء.
وقيد بالمملوك ليميزه من الحر لأن اسم العبد يقع عليهما جميعًا إذ هما من عباد الله وب {لا يقدر على شيء} ليمتاز من المكاتب والمأذون فيهما يقدران على التصرف.
و{من} موصوفة أي وحرًا رزقناه ليطابق عبدًا، أو موصولة {هَلْ يَسْتَوُونَ} جمع الضمير لإرادة الجمع أي لا يستوي القبيلان {الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} بأن الحمد والعبادة لله ثم زاد في البيان فقال: {وَضَرَبَ الله مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَىْءٍ} الأبكم الذي ولد أخرس فلا يفهم ولا يفهم {وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} أي ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة فهو يأمر الناس بالعدل والخير {وَهُوَ} في نفسه {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} على سيرة صالحة ودين قويم، وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من آثار رحمته ونعمته وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه، أو أراد بغيب السماوات والأرض يوم القيامة على أن علمه غائب عن أهل السماوات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم {وَمَا أَمْرُ الساعة} في قرب كونها وسرعة قيامها {إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} كرجع طرف، وإنما ضرب به المثل لأنه لا يعرف زمان أقل منه {أَوْ هُوَ} أي الأمر {أَقْرَبُ} وليس هذا لشك المخاطب ولكن المعنى، كونوا في كونها على هذا الاعتبار.
وقيل: بل هو أقرب {إِنَّ الله على كُلِّ شيء قَدِيرٌ} فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق لأنه بعض المقدورات ثم دل على قدرته بما بعده فقال: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أمهاتكم} وبكسر الألف وفتح الميم: عليّ اتباعًا لكسرة النون وبكسرهما: حمزة، والهاء مزيدة في أمهات للتوكيد كما زيدت في أراق فقيل أهراق وشذت زيادتها في الواحدة {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} حال أي غير عالمين شيئًا من حق المنعم الذي خلقكم في البطون {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه، واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه.
والأفئدة في فؤاد كالأغربة في غراب وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة لعدم السماع في غيرها {أَلَمْ يَرَوْاْ} وبالتاء: شامي وحمزة: {إلى الطير مسخرات} مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك {فِى جَوِّ السماء} هو الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في قبضهن وبسطهن ووقوفهن {إِلاَّ الله} بقدرته، وفيه نفي لما يصوره الوهم من خاصية القوى الطبيعية {إِنَّ في ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بأن الخلق لا غنى به عن الخالق {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} هو فعل بمعنى مفعول أي ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا} هي قباب الأدم {تَسْتَخِفُّونَهَا} ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} بسكون العين: كوفي وشامي، وبفتح العين: غيرهم.
والظعن بفتح العين وسكونها الارتحال {وَيَوْمَ إقامتكم} قراركم في منازلكم، والمعنى أنها خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر على أن اليوم بمعنى الوقت {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} أي أصواف الضأن {وَأَوْبَارِهَا} وأوبار الإبل {وَأَشْعَارِهَآ} وأشعار المعز {أَثَاثًا} متاع البيت {ومتاعا} وشيئًا ينتفع به {إلى حِينٍ} مدة من الزمان {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظلالا} كالأشجار والسقوف {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أكنانا} جمع كن وهو ما سترك من كهف أو غار {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} هي القمصان والثياب من الصوف والكتاب والقطن {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وهي تقي البرد أيضًا إلا أنه اكتفى بأحد الضدين، ولأن الوقاية من الحر أهم عندهم لكون البرد يسيرًا محتملًا {وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} ودروعًا من الحديد ترد عنكم سلاح عدوكم في قتالكم، والبأس: شدة الحرب والسربال عام يقع على ما كان من حديد أو غيره {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي تنظرون في نعمته الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أعرضوا عن الإسلام {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} أي فلا تبعة عليك في ذلك لأن الذي عليك هو التبليغ الظاهر وقد فعلت {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله} التي عددناها بأقوالهم فإنهم يقولون إنها من الله {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بأفعالهم حيث عبدوا غير المنعم أو في الشدة ثم في الرخاء {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} أي الجاحدون غير المعترفين، أو نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عنادًا وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم، و{ثم} يدل على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر {وَيَوْمَ} انتصابه ب اذكر {نَبْعَثُ} نحشر {مِْن كُلِّ أُمَةٍ شَهِيدًا} نبيًا يشهد لهم وعليهم بالتصديق والتكذيب والإيمان والكفر {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلِّذِيِنَ كَفَرُوا} في الاعتذار، والمعنى لا حجة لهم ولا عذر {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} ولا هم يسترضون، أي: لا يقال لهم ارضوا اربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل.
ومعنى {ثم} أنهم يمنون أي: يبتلون بعد شهادة الأنبياء عليهم السلام بما هو اطم وأغلب منها، وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة {وَإِذَا رَءَا الذين ظَلَمُواْ} كفروا {العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} أي العذاب بعد الدخول {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يمهلون قبله {وَإِذَا رَءَا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ} أوثانهم التي عبدوها {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤنَا} أي آلهتنا التي جعلناها شركاء {الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ} أي نعبد {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون} أي أجابوهم بالتكذيب لأنها كانت جمادًا لا تعرف من عبدها، ويحتمل أنهم كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيهًا لله عن الشرك {وَأَلْقَوْاْ} يعني الذين ظلموا {إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} إلقاء السلم الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا {وَضَلَّ عَنْهُم} وبطل عنهم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن لله شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤوا منهم {الذين كَفَرُواْ} في أنفسهم {وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} وحملوا غيرهم على الكفر {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} أي عذابًا بكفرهم وعذابًا بصدهم عن سبيل الله {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} بكونهم مفسدين الناس بالصد {وَيَوْمَ نَبْعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ} يعني نبيهم لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {شَهِيدًا على هَؤُلاء} على أمتك {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا} بليغًا {لّكُلِّ شَىْءٍ} من أمور الدين.
أما في الأحكام المنصوصة فظاهر، وكذا فيما ثبت بالسنة أو بالإجماع أو بقول الصحابة أو بالقياس، لأن مرجع الكل إلى الكتاب حيث أمرنا فيه باتباع رسوله عليه السلام وطاعته بقوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [المائدة: 92]، وحثنا على الإجماع فيه بقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} [النساء: 115]، وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه بقوله: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّئوا طرق الاجتهاد والقياس مع أنه أمرنا به بقوله: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2]. فكانت السنة والإجماع وقول الصحابي والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب فتبين أنه كان تبيانًا لكل شيء {وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} ودلالة إلى الحق ورحمة لهم وبشارة لهم بالجنة. اهـ.