فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

ولما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك؛ عقبه بالكشف لذي البصيرة، عن حالهم في تلك الغفلة، وحال من تابعهم، بقوله سبحانه: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يعني أن مثل هؤلاء في إشراكهم، مثلُ من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر مالك يتصرف في ماله كيف يشاء، ولا مساواة بينهما، مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى. فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات؟! وإيثار قوله: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} إلخ. على {مالكًا} للتنبيه على أن ما بيده، هو من فضل الله ورزقه، وعلى تذكيره الإنفاق منه في السر والجهر، ليكون عاملًا بأمر الله فيه.
وقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي: على ما هدى أولياءه، وأنعم عليهم من التوحيد. أو الحمد كله له لا يستحقه شيء من الأصنام. أو الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور المحبة وأكثرهم لا يعلمونها، مع أنها في غاية ظهورها ونهاية وضوحها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [76].
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا} أي: مثلًا آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح: {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} أي: أخرس: {لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ} أي: مما يقدر عليه المنطيق المفصح عما في نفسه: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} أي: ثقيل على من يلي أمره، لعدم اهتمامه بإقامة مصالح نفسه: {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} أي: حيث يرسله في أمر لا يأت بنجحه وكفاية مهمه: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} أي: ومن هو بليغ منطيق ذو كفاية ورشد لينفع الناس، بحثهم على العدل الشامل لجميع الفضائل.
{وَهُوَ} أي: في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام: {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: على سيرة صالحة ودين قويم، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي وأسهله.
قال الأزهري: ضرب تعالى مثلًا للصنم الذي عبدوه وهو لا يقدر على شيء، فهو كلٌّ على مولاه؛ لأنه يحمله إذا ظعن فيحوله من مكان إلى مكان. فقال الله تعالى: هل يستوي هذا الصنم الكل، ومن يأمر بالعدل؟ استفهام معناه التوبيخ، كأنه قال: لا تسووا بين الصنم وبين الخالق جل جلاله. انتهى.
وإليه أشار الزمخشري بقوله: وهذا مثل ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على عباده ويشملهم مع آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع. انتهى.
وناقش الرازي في حمله على الصنم بأن الوصف بالرجل وبالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع، يمنع من حملها على الوثن، وكذا الوصف في الثاني بأنه على صراط مستقيم، يمنع من حمله على الله تعالى. انتهى.
وقد يقال في جوابه: بأن الأوصاف الأول، وإن كانت ظاهرة في الإنسان {والأصل في الإطلاق ما يتبادر وهو الحقيقة} إلا أن المقام صرفها إلى الوثن؛ لأن الآيات في بيان حقارة ما يعبد من دونه تعالى، وكونه لا يصلح للألوهية بوجه ما؛ لما فيه من صفات النقص، وأما الوصف في قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فكقوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فصح الحمل.
ثم رأيت للإمام ابن القيم في أعلام الموقعين ما يؤيد ما اعتمدناه حيث قال في بحث أمثال القرآن، في هذين المثلين ما صورته:
فالمثل الأول: يعني قوله تعالى: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا} الآية، ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان. فالله سبحانه هو المالك لكل شيء. ينفق كيف يشاء على عبيده سرًا وجهرًا وليلًا ونهارًا. يمينه ملأى لا يغيضها نفقة، سحَّاء الليل والنهار، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء إلي ويعبدونها من دوني، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقًا حسنًا، فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرًا وجهرًا، والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء؛ لأنه لا خير عنده. فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبًا بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 73- 74]، ثم قال: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد ممن رزقه منه رزقًا حسنًا، والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء. فهذا مما ينبه عليه المثل وأرشد إليه. فذكره ابن عباس منبهًا على إرادته، لا أن الآية اختصت به. فتأمله فإنك تجده كثيرًا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن. فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قوله.
وأما المثل الثاني، فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضًا. فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق. بل وهو أبكم القلب واللسان، قد عدم النطق القلبي واللساني، مع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة، وعلى هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير، ولا يقضي لك حاجة، والله سبحانه حيّ قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد. فإن أمره بالعدل، وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له، راض به آمر لعباده به، محب لأهله لا يأمر بسواه، بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل. بل أمره وشرعه عدل كله، وأهل العدل هم أولياءه وأحباؤه، وهم المجاورون له عند يمينه، على منابر من نور، وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني، وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه. كما في الحديث الصحيح: «اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فِيَّ حكمك، عدل فِيَّ قضاؤك». فقضاؤه هو أمره الكوني: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. فلا يأمر إلا بحق وعدل، وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل، وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم، فالقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدر. ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم، وهذا نظير قوله رسوله هود: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، وقوله: {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} نظير قوله: {ناصيتي بيدك} وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} نظير قوله: {عدل فِيَّ قضاؤك} فالأول ملكه، والثاني حمده، وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل. فهو على الحق في أقواله وأفعاله. فلا يقضي على العبد بما يكون ظالمًا به ولا يؤخذ بغير ذنبه، ولا ينقصه من حسناته شيئًا، ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها، ولم يتسبب إليها شيئًا، ولا يؤاخذ أحدًا بذنب غيره، ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة. فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله.
قال محمد بن جرير الطبري: وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يقول: إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به.
ثم حكي عن مجاهد من طريق شِبْل بن أبي نَجِيْح عنه: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} قال: الحق، وكذلك رواه ابن جريج عنه.
وقالت فرقة: هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، وهذا اختلاف عبارة. فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقالت فرقة: في الكلام حذف تقديره: إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه، وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها. فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر، وقد فرَّق سبحانه بين كونه آمرًا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم، وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم، فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم: أن مَرَدَّ العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها، وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك، وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه، فهو حق.
وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره في ملكه وقبضته، وهذا وإن كان حقًا فليس هو معنى الآية، وقد فرَّق هود بين قوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]، وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56]. فهما معنيان مستقلان.
فالقول قول مجاهد، وهو قول أئمة التفسير، ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.
وقال جرير يمدح عُمَر بن عبد العزيز:
أمير المؤمنين على صراط ** إذا اعوج الموارد مستقيم

وقد قال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله، وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره، فصراطه الذي هو سبحانه عليه، هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قوله الحق وفعله، وبالله التوفيق.
وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء: إنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، وقد تقدم ما في هذا القول، وبالله التوفيق. انتهى بحروفه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [77].
{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
الآية إما جواب لاستعجالهم ما يوعدون، أو لاستبطائهم الساعة، أو لبيان كماله في العلم والقدرة؛ تعريضًا بأن معبوداتهم عريّة منهما. فأشار إلى الأول بقوله: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه، أو غيبهما: هو يوم القيامة، فإن علمه غائب عن أهلهما، لم يطلع عليه أحد منهم، وأشار إلى الثاني بقوله: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} و{الساعة}: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، و{اللمح}: النظر بسرعة. أي: كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها {أو هو أقرب} من ذلك، أي: أسرع زمانًا، بأن يقع في بعض زمانه، وفيه من كمال تقرير قدرته تعالى ما لا يخفى، وقوله: {إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تعليل له، إشارة إلى أن مقدوراته تعالى لا تتناهى، وأن ما يذكر بعض منها، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [78- 79].
{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} عطف على قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} منتظم معه في سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى: {وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء} وقوله تعالى: {وَاللّهُ خَلَقَكُمْ} وقوله تعالى: {وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أفاده أبو السعود، و{شيئًا} منصوب على المصدرية أو مفعول {تعلمون} والنفي منصب عليه. أي: لا تعلمون شيئًا أصلًا من حق المنعم وغيره.
{وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ} أي: فتدركون به الأصوات: {وَالأَبْصَارَ} فتحسون المرئيات: {وَالأَفْئِدَةَ} أي: العقول: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لتصرفوها فيما خلقت له من التوحيد والاعتبار بها، والمشي على السنن الكونية. ثم نبه تعالى على آيته في خلقه الطير بقوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ} أي: مذللات: {فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ} أي: ما يمسكهن في الجو من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل إلا هو سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} قال الحجة الغزالي في الحكمة في خلق المخلوقات، في حكمة الطير، في هذه الآية، ما مثاله:
اعلم رحمك الله أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفة للطيران، ولم يخلق فيه ما يثقله، وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه، فقسم لكل عضو منه ما يناسبه. فإن كان رخوًا أو يابسًا أو بين ذلك، انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به. فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله، وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه، واسعة الأسفل ليثبت في موطن على الأرض وهي خف فيه. أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه، وجعل جلد ساقيه غليظًا متقنًا جدًا ليستغني به عن الريش في الحر والبرد، وكان من الحكمة، خلقه على هذه الصفة؛ لأنه في رعيه وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء. فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر ببلله وتلويثه. فأغناه سبحانه عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصًا للطيران، وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها. إذ لو طالت رجله وقصر عنقه لم يمكنه الرعي في البراري ولا في البحائر حتى ينكبّ على صدره، وكثيرًا ما يعان بطول المنقار أيضًا مع طول العنق؛ ليزداد مطلبه عليه سهولة، ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه، وخلق صدره ودائره ملفوفًا على عظم كهيئة نصف دائرة، حتى يخرق في الهواء بغير كلفة، وكذلك رؤوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران، وجعل لكل جنس من الطير منقارًا يناسب رعيه ويصلح لما يغتذي به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك. فمنه مخلب لتقطيع خص به الكواسر وما قوته اللحم، ومنه عريض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقًا محكمًا، ومنه معتدل اللقط وأكل الخضر، ومنه طويل المنقار جعله صلبًا شديدًا شبه العظم وفيه ليونة، وما هي في العظم؛ لكثرة الحاجة إلى استعماله، وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان، وقوى سبحانه أصل الريش وجعله قصبًا منسوبًا فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة ولأجل كثرة الطيران، ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش، وجعل ريشه وقاية مما يضره من حر أو برد، ومعونة متخللة الهواء للطيران، وخص الأجنحة بأقوى الريش وأثبته وأتقنه؛ لكثرة دعاء الحاجة إليه، وجعل في سائر بدنه ريشًا غيره كسوة ووقاية وجمالًا له، وجعل في ريشه من الحكمة، أن البلل لا يفسده والأدران لا توسخه. فإن أصابه ماء كان أيسر انتفاض يطرد عنه بلله، فيعود إلى خفته، وجعل له منفذًا واحدًا للولادة وخروج فضلاته لأجل خفته، وخلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه، فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يمينًا وشمالًا، فكان له بمنزل رجل السفينة الذي يعدل بها سيرها، وخلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته، ولما كان طعامه يبتلعه بلعًا بل مضغ، جعل لبعضه منقارًا صلبًا يقطع به اللحم ويقوم له مقام ما يقطع بالمدية، وصار يزدرد ما يأكله صحيحًا، وأعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحنًا يستغني به عن المضغ وثقل الأسنان، واعتبر ذلك بحب العنب وغيره. فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحًا، وينسحق في أجواف الطير. ثم إنه خلقه يبيض ولا يلد، لئلا يثقل عن الطيران. فإنه لو خلقت فراخه في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها وتعوق عن النهوض للطيران. أفلا ترى كيف دبر كل شيء من خلقه بما يليق به من الحكمة؟! انتهى ملخصًا.