فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم بيَّن تعالى نعمته على البشر ليستدل به على وحدانيته، بقوله، عطفًا على ما مرَّ:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [80].
{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} أي: موضعًا تسكنون فيه وتأوون إليه لما لا يحصى من وجوه منافعكم: {وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا} أي: بيوتًا أخرى وهي الخيام والفساطيط والقباب المتخذة من الجلود نفسها، أو من الوبر والصوف والشعر أيضًا. فإنها من حيث كونها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها أو الجلود مجاز عن المجموع: {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} أي: تجدونها خفيفة المحمل وقت ترحالكم ووقت نزولكم في مراحلكم. لا يثقل عليكم ضربها. أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعًا. قيل: والأول أولى؛ لأن ظهور المنة في خفتها إنما يتحقق في حال السفر، وأما المستوطن فغير مثقل: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} أي: وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز: {أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} الأثاث ما يتخذ للاستعمال بلبس أو فرش، والمتاع ما يتخذه للتجارة، وقيل هما بمعنى، ومعنى {إلى حين} أي: إلى أن تقضوا منه أوطاركم. أو إلى أن يبلى ويفنى. أو إلى أن تموتوا.
تنبيه:
استدل بالآية على طهارة جلود المأكولات وأصوافها وأوبارها وأشعارها، إذا خرجت في الحياة أو بعد التذكية، واستدل بعموم الآية من أباحها مطلقًا ولو من غير مذكاة. كذا في الإكليل.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [81].
{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ} أي: من الشجر والجبال والأبنية وغيرها: {ظِلاَلًا} أي: أفياء تستظلون بها من حر الشمس: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} أي: بيوتًا ومعاقل وحصونًا تستترون بها: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} جمع سربال، وهو كل ما يلبس من القطن والصوف ونحوها، وإنما خص الحر؛ اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر. أو لأن الوقاية من الحر أهم عند العرب؛ لشدته بأكثر بلادهم وخصوصًا قُطَّان الحجاز وهم الأصل في هذا الخطاب. قيل: يبعده ذكر وقاية البرد سابقًا في قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: 5]، وهو وجه الاقتصار على الحرّ هنا، لتقدم ذكر خلافه: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} كالدروع من الحديد والزرد ونحوها، التي يتقى بها سلاح العدو في الحرب: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي: إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة والأنفسية والآفاقية، فتسلموا وجوهكم إليه تعالى، وتؤمنوا به وحده.
قال أبو السعود: وإفراد النعمة، إما لأن المراد بها المصدر، أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل، وقرئ {تسلمون} بفتح اللام أي: من العذاب أو الجراح.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [82- 84].
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: بعد هذا البيان وهذا الامتنان: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}.
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ} أي: التي عددت، وأنها بخلقه: {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} أي: بعبادتهم غير المنعم بها، وقولهم: هي من الله، ولكنها بشفاعة آلهتنا: {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}.
ثم أخبر تعالى عن شأنهم في معادهم بقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} وهو نبيها يشهد عليها بما أجابته من إيمان وكفر فيما بلغها: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: في الاعتذار؛ لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه، كقوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35- 36]، {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا يطلب منهم العتبى. أي: إزالة عتب ربهم وغضبه. {والعتبى} بالضم: الرضا وهو الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب. يقال: استعتبه: أعطاه العتبى بالرجوع إلى مسرته، والعتب: لومك الرجل على إساءة كانت له إليك، والمرء إنما يطلب العتاب من خصمه؛ ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب ويرجع إلى الرضا عنه، فإذا لم يطلب العتاب منه، دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [85- 86].
{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: يؤخرون.
{وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ} يعني أوثانهم التي عبدوها: {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَاؤنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ} أي: أربابًا أو نعبدها: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: أجابوهم بالتكذيب في تسميتهم شركاء وآلهة؛ تنزيهًا لله عن الشرك. أو بالتكذيب في دعواهم أنهم حملوهم على عبادتهم.
قال أبو مسلم الأصفهاني: مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على هذه الأصنام، وظنوا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم. فعند هذا تكذبهم بتلك الأصنام، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5- 6]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81- 82].
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [87].
{وَأَلْقَوْاْ} أي: وألقى الذين ظلموا: {إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} أي: الاستسلام لحكمه بعد إبائهم في الدنيا: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي من أن لله شركاء، وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى. فإن قيل: قد جاء إنكارهم كقوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18]، والجواب {كما قال القاشاني}: إن ذلك بحسب المواقف. فالإنكار في الموقف الأول وقت قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة وغاية البعد عن النور الإلهي، للاحتجاب بالحجب الغليظة والغواشي المظلمة حتى لا يعلم أنه كان يراه ويطلع عليه، ونهاية تكدر نور الفطرة حتى يمكنه إظهار خلاف مقتضاه، والاستسلام في الموقف الثاني بعد مرور أحقاب كثيرة من ساعات اليوم، الذي كان مقداره خمسين ألف سنة، حين زالت الهيئات ورقت، وضعفت شراشر النفس في رذائلها، وقرب من عالم النور، لرقة الحجب ولمعان نور فطرته الأولى، فيعترف وينقاد. هذا إذا كان الاستسلام والإنكار لنفوس بعينها، وقد يكون الاستسلام للبعض الذين لم ترسخ هيئات رذائلهم ولم تغلظ حجبهم ولم ينطفئ نور استعدادهم، والإنكار لمن رسخت فيه الهيئات وقويت وغلبت عليه الشيطنة واستقرت، وكثف الحجاب وبطل الاستعداد، والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [88- 89].
{الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} أي: يضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا كفرهم بصدهم غيرهم عن الإيمان، كقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْه} [الأنعام: 26]، وفي الآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم. كما قال تعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ} وهو نبيهم: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء} أي: اذكر ذلك اليوم، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع، وما يلحق الكافرين فيه من تمني كونهم ترابًا، لهول المطلع.
وقد ذكر ذلك في آية النساء في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا} [النساء: 41- 42]، وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} مستأنف، أو حال بتقدير {قد}.
قال الرازي: وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، أنه تعالى لما قال: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء} بيَّن أنه أزاح علتهم فيما كلفوا. فلا حجة لهم ولا معذرة.
وقال ابن كثير في وجه ذلك: إن المراد، والله أعلم، إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك، سائلك عن ذلك يوم القيامة: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعَمَلُونَ} [الحجر: 92- 93]، {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]. أي: إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال، وهو متجه حسن. انتهى.
و{التبيان} من المصادر التي بنيت على هذه الصيغة؛ لتكثير الفعل والمبالغة فيه. أي: تبيينًا لكل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام، وما الناس محتاجون إليه في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم: {وَهُدىً} أي: هداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله: {وَرَحْمَةً} أي: له بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد، ونجاته من العذاب، وبشارة له بالسعادة الأبدية. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)}.
يستمر السياق في هذا الدرس في استعراض دلائل الألوهية الواحدة التي يتكئ عليها في هذه السورة: عظمة الخلق، وفيض النعمة وإحاطة العلم. غير أنه يركز في هذا الشوط على قضية البعث، والساعة أحد أسرار الغيب الذي يختص الله بعلمه فلا يطلع عليه أحدًا.
وموضوعات هذا الدرس تشمل ألوانًا من أسرار غيب الله في السماوات والأرض، وفي الأنفس والآفاق. غيب الساعة. التي لا يعلمها إلا الله وهو عليها قادر وهي عليه هينة: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب}، وغيب الأرحام والله وحده هو الذي يخرج الأجنة من هذا الغيب. لا تعلم شيئًا، ثم ينعم على الناس بالسمع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون نعمته.، وغيب أسرار الخلق يعرض منها تسخير الطير في جو السماء ما يمسكهن إلا الله.
يلي هذا في الدرس استعراض لبعض نعم الله المادية على الناس وهي بجانب تلك الأسرار وفي جوها، نعم السكن والهدوء والاستظلال. في البيوت المبنية والبيوت المتخذة من جلود الأنعام للظعن والإقامة، والأثاث والمتاع من الأصواف والأوبار والأشعار، وهي كذلك الظلال والأكنان والسرابيل تقي الحر وتقي البأس في الحرب: {كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون}.
ثم تفصيل لأمر البعث في مشاهد يعرض فيها المشركين وشركاءهم، والرسل شهداء عليهم، والرسول صلى الله عليه وسلم شهيدًا على قومه، وبذلك تتم هذه الجولة في جو البعث والقيامة.
{ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير}.
وقضية البعث إحدى قضايا العقيدة التي لقيت جدلًا شديدًا في كل عصر، ومع كل رسول، وهي غيب من غيب الله الذي يختص بعلمه. {لله غيب السماوات والأرض} وإن البشر ليقفون أمام أستار الغيب عاجزين قاصرين، مهما يبلغ علمهم الأرضي، ومهما تتفتح لهم كنوز الأرض وقواها المذخورة، وإن أعلم العلماء من بني البشر ليقف مكانه لا يدري ماذا سيكون اللحظة التالية في ذات نفسه. أيرتد نفسه الذي خرج أم يذهب فلا يعود! وتذهب الآمال بالإنسان كل مذهب، وقدره كامن خلف ستار الغيب لا يدري متى يفجؤه، وقد يفجؤه اللحظة، وإنه لمن رحمة الله بالناس أن يجهلوا ما وراء اللحظة الحاضرة ليؤملوا ويعملوا وينتجوا وينشئوا، ويخلفوا وراءهم ما بدؤوه يتمه الخلف حتى يأتيهم ما خبئ لهم خلف الستار الرهيب.
والساعة من هذا الغيب المستور، ولو علم الناس موعدها لتوقفت عجلة الحياة، أو اختلت، ولما سارت الحياة وفق الخط الذي رسمته لها القدرة، والناس يعدون السنين والأيام والشهور والساعات واللحظات لليوم الموعود!
{وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب}.
. فهي قريب، ولكن في حساب غير حساب البشر المعلوم، وتدبير أمرها لا يحتاج إلى وقت. طرفة عين. فإذا هي حاضرة مهيأة بكل أسبابها {إن الله على كل شيء قدير} وبعث هذه الحشود التي يخطئها الحصر والعد من الخلق، وانتفاضها، وجمعها، وحسابها، وجزاؤها.. كله هين على تلك القدرة التي تقول للشيء: كن. فيكون. إنما يستهول الأمر ويستصعبه من يحسبون بحساب البشر، وينظرون بعين البشر، ويقيسون بمقاييس البشر، ومن هنا يخطئون التصور والتقدير!
ويقرب القرآن الأمر بعرض مثل صغير من حياة البشر، تعجز عنه قواهم ويعجز عنه تصورهم، وهو يقع في كل لحظة من ليل أو نهار: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون}.
وهو غيب قريب، ولكنه موغل بعيد، وأطوار الجنين قد يراها الناس، ولكنهم لا يعلمون كيف تتم، لأن سرها هو سر الحياة المكنون، والعلم الذي يدعيه الإنسان ويتطاول به ويريد أن يختبر به أمر الساعة وأمر الغيب، علم حادث مكسوب: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا} ومولد كل عالم وكل باحث، ومخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئًا قريب قريب! وما كسبه بعد ذلك من علم هبة من الله بالقدر الذي أراده للبشر، وجعل فيه كفاية حياتهم على هذا الكوكب، في المحيط المكشوف لهم من هذا الوجود: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} والقرآن يعبر بالقلب ويعبر بالفؤاد عن مجموع مدارك الإنسان الواعية؛ وهي تشمل ما اصطلح على أنه العقل، وتشمل كذلك قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكنه والعمل. جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة {لعلكم تشكرون} حين تدركون قيمة النعمة في هذه وفي سواها من آلاء الله عليكم، وأول الشكر: الإيمان بالله الواحد المعبود.
وعجيبة أخرى من آثار القدرة الإلهية يرونها فلا يتدبرونها وهي مشهد عجيب معروض للعيون: {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}.
ومشهد الطير مسخرات في جو السماء مشهد مكرور، قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب، وما يتلفت القلب البشري عليه إلا حين يستيقظ، ويلحظ الكون بعين الشاعر الموهوب، وإن تحليقة طائر في جو السماء لتستجيش الحس الشاعر إلى القصيدة حين تلمسه. فينتفض للمشهد القديم الجديد.. {ما يمسكهن إلا الله} بنواميسه التي أودعها فطرة الطير وفطرة الكون من حولها، وجعل الطير قادرة على الطيران، وجعل الجو من حولها مناسبًا لهذا الطيران؛ وأمسك بها الطير لا تسقط وهي في جو السماء: {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}. فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق والتكوين، المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر، وهو يعبر عن أحساسه بروعة الخلق، بالإيمان والعبادة والتسبيح؛ والموهوبون من المؤمنين هبة التعبير، قادرون على إبداع ألوان من رائع القول في بدائع الخلق والتكوين، لا يبلغ إليها شاعر لم تمس قلبه شرارة الإيمان المشرق الوضيء.