فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إِنَّ الله يَأْمُرُ} أي فيما نزله عليك تبيانًا لكل شيء، وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجدد والاستمرار {بالعدل} أي بمراعاة التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وهو رأس الفضائل كلها يندرج تحته فضيلة القوة العقلية الملكية من الحكمة المتوسطة بين الجربزة والبلادة، وفضيلة القوة الشهوية البهيمية من العفة المتوسطة بين الخلاعة والجمود، وفضيلة القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهور والجبن.
فمن الحكم الاعتقادية التوحيد المتوسط بين التعطيل ونفي الصنائع كما تقوله الدهرية والتشريك كما تقوله الثنوية والوثنية، وعليه اقتصر ابن عباس في تفسير {العدل} على ما رواه عنه البيهقي في الأسماء والصفات وابن جرير وابن المنذر وغيرهم، وضم إليه بعضهم القول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر.
ومن الحكم العملية التعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة وترك العمل لزعم أنه لا فائدة فيه إذ الشقي والسعيد متعينان في الأزل كما ذهب إليه بعض الملاحدة والترهب بترك المباحات تشبيهًا بالرهبان.
ومن الحكم الخلقية الجد المتوسط بين البخل والتبذير.
وعن سفيان بن عيينة أن العدل استواء السريرة والعلانية في العمل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي: صف لي العدل فقلت بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبًا ولكبيرهم ابنًا وللمثل منهم أخًا وللنساء كذلك وعاقب الناس على قدر ذنوبهم وعلى قدر أجسادهم ولا تضربن لغضبك سوطًا واحدًا فتكون من العادين، ولعل اختيار ذلك لأنه الأوفق بمقام السائل وإلا فما تقدم في تفسير أولى.
{والإحسان} أي إحسان الأعمال والعبادة أي الإتيان بها على الوجه اللائق، وهو إما بحسب الكيفية كما يشير إليه ما رواه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» أو بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل الجابرة لما في الواجبات من النقص، وجوز أن يراد بالإحسان الإحسان المتعدي بإلى لا المتعدي بنفسه فإنه يقال: أحسنه وأحسن إليه أي الإحسان إلى الناس والتفضل عليهم، فقد أخرج ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه قال: مر علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} فالعدل الانصاف والإحسان التفضل فما بقي بعد هذا، وأعلى مراتب الإحسان على هذا الإحسان إلى المسيء وقد أمر به نبينا صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعدما فسر العدل بالتوحيد فسر الإحسان بإداء الفرائض، وفيه اعتبار الإحسان متعديًا بنفسه، وقيل: العدل أن ينصف وينتصف والإحسان أن ينصف ولا ينتصف؛ وقيل: العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال.
{وَبِذِى القربى واليتامى} أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر، وهذا داخل في العدل أو الإحسان وصرح به اهتمامًا بشأنه، والظاهر أن المراد بذي القربى ما يعم سائر الأقارب سواء كانوا من جهة الأمم أو من جهة الأب، وهذا هو المراد بذوي الأرحام الذين حث الشارع صلى الله عليه وسلم على صلتهم على الأصح، وقيل: ذوو الأرحام الأقارب من جهة الأم، وذكر الطبرسي أن المروي عن أبي جعفر أن المراد من ذي القربى هنا قرابته صلى الله عليه وسلم المرادون في قوله سبحانه: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى} [الأنفال: 41].
{وينهى عَنِ الفحشاء} الإفراد في متابعة القوة الشهوية كالزنا مثلًا، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفحشاء به، ولعله تمثيل لا تخصيص {والمنكر} ما ينكر على متعاطيه من الإفراط في إظهار القوة الغضبية.
وعن ابن عباس ومقاتل تفيسره بالشرك، وعن ابن السائب أنه ما وعد عليه بالنار، وعن ابن عيينة أنه مخالفة السريرة للعلانية، وقيل: ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن يوجب العذاب في الآخرة.
وقال الزمخشري: ما تنكره العقول.
وتعقبه ابن المنير فقال: إنه لفتة إلى الاعتزال ولو قال: المنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق لكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل، وقال في الكشف بعد قوله: ما تنكره العقول أي بعد رده إلى قوانين الشرع فالأنكار بالعقل بالضرورة، وإنما الخلاف في مأخذه والمقصود أن ما يمكن أن يجري على المذهبين لا يحق المحاقة فيه وهو كالتعريض بابن المنير، واستظهر أبو حيان أن المنكر أعم من الفحشاء قال: لاشتماله على المعاصي والرذائل، وعلى أولًا ليس الأمر كذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى: {والبغى} الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم، وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانية التي هي حاصلة من رذيلتي القوتين المذكورتين الشهوانية والغضبية، وأصل معنى البغي الطلب ثم اختص بطلب التطاول بالظلم والعدوان، ومن ثم فسر بما فسر وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتخصيص كل من المتعاطفات الثلاثة المنهي عنها بالإشارة إلى قوة من القوى الثلاث مما ذهب إليه غير واحد.
واعترض بأن ذلك مما لا دليل عليه، وقال بعضهم: المنكر أعم الثلاثة باعتبار أن المراد به ما ينكره الشرع ويقبحه من الأقوال أو الأفعال سواء عظم قبحه ومفسدته أم لا وسواء كان متعديًا إلى الغير أم لا، وأن المراد بالفحشاء ماعظم قبحه من ذلك، ومنه قيل لمن عظم قبحه في البخل فاحش، وعلى ذلك حمل الراغب قول الشاعر:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ** عقيلة مال الفاحش المتشدد

والبغي التطاول بالظلم والعدوان ففي الآية عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام، وقيل: المراد بالفحشاء مقابل العدل ويفسر بما خرج عن سنن الاعتدال إلى جانب الإفراط، وبالمنكر ما يقابل ما فيه الإحسان ويفسر بما أتى به على غير الوجه اللائق بل على وجه ينكر ويستقبح وبالبغي ما يقابل إيتاء ذي القربى ويفسر بما فسر ويكو قد قوبل في الآية الأمر بالنهي وكل من المأمور به بكل من المنهي عنه وجمع بين الأمر والنهي مع أن الأمر بالشيء نهى عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده لمزيد الاهتمام والاعتناء.
والإمام الرازي قد أطال الكلام في هذا المقام وذكر أن ظاهر الآية يقتضي المغايرة بين الثلاثة المأمور بها ويقتضي أيضًا المغايرة بين الثلاثة المنهي عنها وشرع في بيان المغايرة بين الأول ثم قال: والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحب الاستغراق في شهود مقام العبودية والربوبية، ويدخل في تفسيره التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خليقه سبحانه، ومن الظاهر أن الشفقة على الخلق أقسام كثيرة أشرفها وأجلبها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر، ثم شرع في بيان المغايرة بين الأخيرة وقال: تفصيل القول في ذلكم أنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية، وهذه الأخيرة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها لأنها من جوهر الملائكة عليهم السلام ونتائج الأرواح القدسية العلوية وإنما المحتاج إلى التهذيب الثلاثة قبلها، ولما كانت الأولى أعني القوة الشهوانية إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وكان هذا النوع مخصوصًا باسم الفحش ألا ترى أنه تعالى سمي الزنا فاحشة أشار إلى تهذيبها بقوله سبحانه: {وينهى عَنِ الفحشاء} المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، ولما كانت الثانية أعني القوة الغضبية السبعية تسعى أبدًا في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس أشار سبحانه إلى تهذيبها بنهيه تعالى عن المنكر إذ لا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراد الحاصل في آثار القوة الغضبية، ولما كانت الثالثة أعني القوة الوهمية الشيطانية تسعى أبدًا في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم أشار سبحانه إلى تهذيبها بالنهي عن البغي إذ لا معنى له إلا التطاول والترفع على الناس، ثم قال: ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا: أخس هذه القوى الثلاث الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية، ولله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ سبحانه بذكر الفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هي نتيجة القوة الوهمية.اهـ.
وما تقدم عن غير واحد مأخوذ من هذا، ولينظر هل يثبت بما قرره دليل التخصيص فيندفع الاعتراض السابق أم لا، ثم إن الظاهر عليه أن عطف البغي على ما قبله كعطف {إيتاء ذي القربى} على ما قبله.
وبالجملة أن الآية كما أخرج البخاري في الأدب والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم وصححه عن ابن مسعود أجمع آية للخير والشر، وأخرج البيهقي عن الحسن نحو ذلك، وأخرج الباوردي وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكتم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية {إِنَّ الله يَأْمُرُ}» إلخ. قالوا: ردد علينا هذا القول فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوه فأتيا أكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال: إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مذامها فكونوا في هذا الأمر رأسًا ولا تكونوا فيه أذنابًا، وقد صارت هذه الآية أيضًا كما أخرج أحمد والطبراني والبخاري في الأدب عن ابن عباس سبب استقرار الايمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ولجمعها ما جمعت أقامها عمر بن عبد العزيز حين آلت الخلافة إليه مقام ما كانو بنو أمية غضب الله تعالى عليهم يجعلونه في أواخر خطبهم من سب علي كرم الله تعالى وجهه ولعن كل من بغضه وسبه وكان ذلك من أعظم مآثره رضي الله تعالى عنه، وقال غير واحد: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانًا لكل شيء وهدى.
ولعل إيرادها عقيب قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} [النحل: 89]. للتنبيه عليه فإنها إذا نظر إلى أنها قد جمعت ما جمعت مع وجازتها استيقظن عيون البصائر وتحركت للنظر فيما عداها.
وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا إذ شخص بصره فقال أتاني: جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع أن الله يأمر إلخ.
واستدل بها على أن صيغة أمر تتناول الواجب والمندوب وموضوعها القدر المشترك وتحقيق ذلك في الأصول.
{يَعِظُكُمُ} أي ينبهكم بما يأمر وينهى سبحانه أحسن تنبيه، وهو إما استئناف وإما حال من الضمير في الفعلين {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} طلبًا لأن تتعظوا بذلك وتنتبهوا.
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله} قال قتادة ومجاهد: نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر أنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم كان من أسلم بايع على الإسلام، وظاهره أنها في البيعة على الإسلام مطلقًا، فالمراد بعهد الله تعالى البيعة كما نص عليه غير واحد.
واعترض بأن الظاهر أنه عام في كل موثق وهو الذي يقتضيه كلام ميمون بن مهران، وسبب النزول ليس من المخصصات، ولذا قالوا: الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وأجيب بأن قرينة التخصيص قوله تعالى فيما قبل: {الذين كَفَرُواْ} [النحل: 88]. الآية، وفيه نظر، وقال الأصم: المراد به الجهاد وما فرض في الأموال من حق ولا يلائمه قوله تعالى: {إِذَا عاهدتم} وقيل: المراد به النذر، وقيل: اليمين وتعقب ذلك الإمام بأنه حينئذ يكون قوله تعالى: {وَلاَ تَنقُضُواْ الايمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} تكرارًا لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك، وإذا حمل العهد على العموم بحيث دخل تحته اليمين كان هذا من باب تخصيص بعض الأفراد بالذكر للاعتناء به وبعض من فسر العهد بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الأيمان على ما وقع عند تلك البيعة، وجوز بعضهم حملها على مطلق الأيمان.
وفي الحواشي السعدية أن الظاهر أن المراد بها الأشياء المحلوف عليها كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» لأنه لو كان المراد ذكر اسم الله تعالى كان عين التأكيد لا المؤكد فلم يكن محل ذكر العطف كما تقرر في المعاني ورد بأن المراد بها العقد لا المحلوف عليه لأن النقض إنما يلائم العقد ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} لأن المراد كون العقد مؤكدًا بذكر الله تعالى لاب ذكر غيره كما يفعله العامة الجهلة فالمعنى أن ذلك النهي لما ذكر لا عن نقض الحلف بغير الله تعالى وقال الواحدي: إن قوله سبحانه: {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} لإخراج لغو اليمين نحو لا والله بلى والله بناء على أن المعنى بعد توكيدها بالعزم والعقد ولغو اليمين ليست كذلك.
ثم إذا حمل الأيمان على مطلقها فهو كما قال الإمام عام دخله التخصيص بالحديث السابق الدال على أنه متى كان الصلاح في نقض اليمين جاز نقضها.
وتعقب بأن فيه تأملًا لأن الحظر لو لم يكن باقيًا لما احتيج إلى الكفارة الساترة للذنب.
وأجيب بأن وجوب الكفارة بطريق الزجر إذ أصل الايمان الانعقاد ولو محظورة فلا ينافي لزوم موجبها، وجوز أن يقال: إن ذلك للإقدام على الحلف بالله تعالى في غير محله فليتأمل، والتوكيد التوثيق، ومنه أكد بقلب الواو همزة على ما ذهب إليه الزجاج وغيره، من النحاة، وذهب آخرون إلى أن وكد وأكد لغتان أصليتان لأن الاستعمالين في المادة متساويان فلا يحن القول بأن الواو بدل من الهمزة كما في الدر المصون وهو الذي اختاره أبو حيان.