فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} أي شاهدًا رقيبًا فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب عليه واستعمال الكفيل في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل والعلاقة اللزوم.
والظاهر أن جعلهم مجاز أيضًا لأنهم لمافعلواذلك والله تعالى مطلع عليهم فكأنهم جعلوه سبحانه شاهدًا قتاله الخفاجي ثم قال: ولو أبقى الكفيل على ظاهره وجعل تمثيلًا لعدم تخلصهم من عقوبته وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله كما يقال: من ظلم فقد أقام كفيلًا بظلمه تنبيهًاعلى أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب لكان معنى بليغًا جدًا فتدبر، والظاهر أن الجملة في موضع الحال من فاعل {تَنقُضُواْ} وجوز أن تكون حالًا من فاعل المصدر وإن كان محذوفًا، وقوله سبحانه: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي من النقض فيجازيكم على ذلك في موضع التعليل للنهي السابق، وقال الخفاجي: إنه كالتفسير لما قبله.
{وَلاَ تَكُونُواْ} فيما تصنعون من النقض {كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا} مصدر بمعنى المفعول أي مغزولها، والفعل منه غزل يغزل بكسر الزاي، والنقض ضد الإبرام، وهو في الجرم فك أجزائه بعضًا من بعض، وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بنقضت على أنه ظرف له لا حال ومن زائدة مطردة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه.
{أنكاثا} جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله وانتصابه قيل على أنه حال مؤكدة من {غزالها} وقيل: على أنه مفعول ثان لنقض لتضمنه معنى جعل، وجوز الزجاج كون النصب على المصدرية {لاِنْ نَقَضَتْ} بمعنى نكثت فو ملاق لعامله في المعنى.
وقال في الكشف: إن جعله مفعولًا على التضمين أولى من جعله حالًا أو مصدرًا، وفي الإتيان به مجموعًا مبالغة وكذلك في حذف الموصوفة ليدل على الخرقاء الحمقاء وما أشبه ذلك، وفي الكشاف ما يشير إلى اعتبار التضمين حيث قال: أي لا تكونوا كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته فجعلته أنكاثًا، وفي قوله: أنحت على ما قال القطب إشارة ءلى أن {نَقَضَتْ} مجازًا عن أرادت النقض على حد قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6]، وذكر أنه فسر بذلك جمعًا بين القصد والفعل ليدل على حماقتها واستحقاقها اللوم بذلك فإن نقضها لو كان من غير قصد لم تستحق ذلك ولأن التشبيه كلما كان أكثر تفصيلًا كان أحسن، ولا يخفى ما في اعتبار التضمين وهذا المجاز من التكليف وكأنه لهذا قيل: إن اعتبار القصد لأن المتبارد من الفعل الاختياري وفي الكشف خرج ذلك المعنى من قوله تعالى: {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} فإن نقض المبرم لا يكون إلا بعد انحاء بالغ وقصد تام ولم يرد بالموصول امرأة بعينها بل المراد من هذه صفته ففي الآية تشبيه حال الناقض بحال الناقض في أخس أحواله تحذيرًا منه وأن ذلك ليس من فعل العقلاء وصاحبه داخل في عداد حمقى النساء، وقيل: المراد امرأة معلومة عند المخاطبين كانت تغزل فإذا برمت غزلها تنقضه وكانت تسمى خرقاء مكة، قال ابن الأنباري: كان اسمها ربطة بنت عمرو المرية تلقب الحفراء، وقال الكلبي ومقاتل: هي امرأة من قريش اسمها ربطة بنت سعد التيمي اتخذت مغزلًا قدر ذراع وصنارة مثل أبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجوارها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال: كانت سعيدة الأسدية مجنونة تجمع الشعر والليف فنزلت هذه الآية {وَلاَ تَكُونُواْ كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا} وروى ابن مردويه عن ابن عطاء أنها شكت جنونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبت أن يدعو لها بالمعافاة فقال لها عليه الصلاة والسلام: «إن شئت دعوت فعافاك الله تعالى وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة» فاختارت الصبر والجنة، وذكر عطاء أن ابن عباس أراه إياها، وعن مجاهد هذا فعل نساء نجد تنقض أحداهن غزلها ثم تنفشه فتغزله بالصوف، وإلى عدم التعيين ذهب قتادة عليه الرحمة {تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلًا بَيْنَكُمْ} حال من الضمير في {لاَ تَكُونُواْ} أو في الجار والمجرور الواقع موقع الخبر.
وجوز أن يكون خبر تكونوا و{كالتى} نقضت في موضع الحال وهو خلاف الظاهر، وقال الإمام: الجملة مستأنفة على سبيل الاستفهام الإنكاري أي أتتخذون، والداخل في الأصل ما يدخل الشيء ولم يكن منه ثم كنى به عن الفساد والعداوة المستبطنة كالدغل، وفسره قتادة بالغدر والخيانة، ونصبه على أنه مفعول ثان، وقيل: على المفعولية من أجله، وفائدة وقوع الجملة حالًا الإشارة إلى وجه الشبه أي لا تكونوا مشبهين بامرأة هذا شأنها متخذين أيمانكم وسيلة للغدر والفساد بينكم {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ} أي بأن تكون جماعة {هِىَ أَرْبَى} أي أزيد عددًا وأوفر مالًا {مِنْ أُمَّةٍ} أي من جماعة أخرى، والمعنى لا تغدروا بقوم بسبب كثرتكم وقلتهم بل حافظوا على أيمانكم معهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد أنه قال: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلفهم ويحالفون الذين هم أعز فنهوا عن ذلك فالمعنى لا تغدروا بجماعة بسبب أن تكون جماعة أخرى أكثر منها وأعزل بل عليكم الوفاء بالأيمان والمحافظة عليها وإن قل من خلفتم له وكثر الآخر وجوز فيه {تَكُونُ} أن تكون تامة وناقصة هي أن يكون مبتدأ وعمادًا {فأربى} إما مرفوع أو منصوب وأنت تعلم أن البصريين لا يجوزون كون {بالتى هِىَ} عماد التنكر {أُمَّةٍ} وزعم بعض الشيعة أن هذه الآية قد حرفت وأصلها أن تكون أئمة هي أزكى من أئمتكم؛ ولعمري قد ضلوا سواء السبيل {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} الضمير المجرور عائد إما على المصدر المنسبك من {أَن تَكُونَ} أو على المصدر المنفهم من {أَرْبَى} وهو الربو بمعنى الزيادة، وقول ابن جبير وابن السائب ومقاتل يعني بالكثرة مرادهم من هذا واكتفوا ببيان حاصل المعنى، وظن ابن الأنباري أنهم أرادوا أن الضمير راجع إلى نفس الكثرة لكن لما كان تأنيثها غير حقيقي صح التذكير وهو كنما ترى، وقيل: إنه لأربى لتأويله بالكثير، وقيل: للأمر بالوفاء المدلول عليه بقوله تعالى: {وأوفوا} [النحل: 91]. إلخ، ولا حاجة إلى جعله منفهمًا من النهي عن الغدر بالعهد واختار بعضهم الأول لأنه أسرع تبادرًا أي يعاملكم معاملة المختبر بذلك الكون لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله تعالى وبيعة رسوله عليه الصلاة والسلام أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال {وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} فيجازيكم بأعمالكم ثوابًا وعقابًا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه يأمر العدل والإمسانن وإيتاء ذي القربى، وانه يناهم عن الفحشاء والمنكر والبغي. لأجل أن يتَّعظوا بأوامره ونواهيه، وفيمتثلوا أمره، ويجتنبوا نهيه، وحذف مفعول {يأمر}، {وينهى} لقصد التعميم.
ومن الآيات التي أمر فيها بالعدل قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8]، وقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58].
ومن الآيات التي أمر فيها بالإحسان قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} [البقرة: 195]، وقوله: {وبالوالدين إِحْسَانًا} [البقرة: 83]، وقوله: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض} [القصص: 77]، وقوله: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وقوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91].
ومن الآيات التي أمر فيها بإيتاء ذي القربي قوله تعالى: {فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله وأولئك هُمُ المفلحون} [الروم: 38]، وقوله: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26]، وقوله: {وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى} [البقرة: 177]. الآية، وقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 14-15]، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الآيات التي نهى فيها عن الفحشاء والمنكر والبغي قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]. الآية، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق} [الأعراف: 33]. الآية، وقوله: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120]، والمنكر وإن لم يصرح باسمه في هذه الآيات، فهو داخل فيها.
ومن الآيات التي جمع فيها بين الأمر بالعدل والتفضل بالإحسان قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]. فهذا عدل، ثم دعا إلى الإحسان بقوله: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126]، وقوله: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]. فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40].
وقوله: {والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45]. فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} [المائدة: 45]، وقوله [الشورى: 41]. الآية، فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله: [الشورى: 43]، وقوله [النساء: 148]. فهذا عدل. ثم دعا إلى الإحسان بقوله: [النساء: 149]. إلى غير ذلك من الآيات.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن العدل في اللغة: القسط واٌنصا، وعدم الجور، وأصله التوسط بين المرتبتين. اي الإفراط والتفريط. فمن جانب الإفراط والتفريط فقد عدل، والإحسان مصدر أحسن، وهي تستعمل متعدية بالحرف نحوك أحسن إلى والديك، ومنه قوله تعالى: عن يوسف: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن} [يوسف: 10]. الآية، وتستعمل متعدية بنفسها.
كقولك: أحسن العامل عمله، أي اجاده وجاء به حسنًا، والله جل وعلا يأمر بالإحسان بمعنييه المذكورين، فهما داخلان في الاية الكريمة، لأن الإحسان إلى عباد الله لوجه الله عمل أحسن فيه صاحبه، وقد فسر النَّبي صلى الله عليه وسلم الإحسان في حديث جبريل بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وقد قدمنا ذلك في سورة هود.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن أقوال المفسرين في الآية الكريمة راجعة في الجملة إلى ما ذكرنا. كقول ابن عباس: العدل: لا إله إلا الله، والإحسان: أداء الفارئض. لأن عابدة الخالق دون المخلوق هي عين الإنصاف والقسط، وتجنب التفريط والإفراط، ومن أدى فرائض الله على الوجه الأكمل فقد حسن، ولذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي حلف لا يزيد على الواجبات: «أفلح إن صدق» وكقول سفيان: العدل: استواء العالنية والسريرة، والإحسانك ان تكون السريرة أفضل من العلانية، وكقول علي رضي الله عنه: العدل: الإنصاف، والإحسان: التفضل. إلى غير ذلك من أقوال السلف، والعلم عند الله تعالى:
وقوله: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
الوعظ: الكلام الذي تلين له القلوب.
تنبيه:
فإن قيل: يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي. كقوله هنا {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} مع أنه ما ذكر إلالأمر والنهي في قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل} [النحل: 90]. إلى قوله: {وينهى عَنِ الفحشاء} [النحل: 90]. الآية، وكقوله في سورة البقرة بعد أن ذكر أحكام الطلاق والرجعة: {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 232]، وقوله: {في الطلاق} في نحو ذلك ايضًا: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} [الطلاق: 2]، وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17]. الآية. مع أن المعروف عند الناس: أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك، لا بالأمر والنهي.
فالجواب- أن ضابط الوعظ: هو الكلام الذي تلين له القلوب وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم ونواهيه. فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله، وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه. فحداهم احادي الخوف والطمع إلى الامتثال، فلانت قلوبهم للطاعة خوفًا وطمعًا، والفحسائ في لغة العرب: الخصلة المتناهية في القبح، ومنه قيل لشديد البخل: فاحش. كما في قول طرفة في معلقته:
ارى الموت يعتام الكرام ويصطفي ** عقيلة مال الفاحش المتشدد

والمنكر اسم مفعول أنكر، وهو في الشرع: ما أنكره الشرع ونهى عنهن وأوعد فاعله العقاب، والبغي: الظلم، وقد بين تعالى: أن الباغي يرجع ضرر بغيه على نفسه في قوله: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} [يونس: 23]، وقوله: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43].
وقوله: {ذِي القربى} أي صحاب القرابة من جهة الأب أو الأم، أو هما معًا. لأن إيتاء ذي القربى صدقة وصلة رحم، والإيتاء: الإعطاء، وأحد المفعولين محذوف. لأن المصدر أضيف إلى المفعول الأول وحذف الثاني، والأصل وإيتاء صاحب القرابة. كقوله: {ذَوِي القربى} [البقرة: 177]. الآية.
قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّم}.
أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمه عباده أن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا، وظاهر الآية أنه شامل لجميع العهود فيما بين العبد وربه، وفيما بينه وبين الناس، وكرر هذا في مواضع أخر. كقوله: {في الأنعام} {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 152]. الآية، وقوله في {الإسراء}: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 34]، وقد قدمنا هذا {في الأنعام}.
وبين في موضع آخر: أن من نقض العهد إنما يضر بذلك نفسه، وأن من أوفى به يؤتسه الله الأجر العظيم علة ذلك. زذلك في قوله: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10]، وبين في موضع آخر: أن نقض الميثاق يستوجب اللعن، وذلك في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} [المائدة: 13]. الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}.
لما جاء أن هذا القرآن تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين حسن التخلّص إلى تبيان أصول الهدى في التشريع للدين الإسلامي العائدة إلى الأمر والنهي، إذ الشريعة كلها أمر ونهي، والتّقوى منحصرة في الامتثال والاجتناب، فهذه الآية استئناف لبيان كون الكتاب تبيانًا لكل شيء، فهي جامعة أصول التّشريع.
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد للاهتام بشأن ما حوته.
وتصديرُهما باسم الجلالة للتّشريف، وذكر {يأمر} {وينهى} دون أن يقال: اعدلوا واجتنبوا الفحشاء، للتّشويق.
ونظيره ما في الحديث: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا» الحديث.
والعدل: إعطاء الحقّ إلى صاحبه.
وهو الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي من الحقوق الذاتية وحقوق المُعاملات، إذ المسلم مأمور بالعدل في ذاته، قال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [سورة البقرة: 191]، ومأمور بالعدل في المعاملة، وهي معاملة مع خالقه بالاعتراف له بصفاته وبأداء حقوقه؛ ومعاملة مع المخلوقات من أصول المعاشرة العائلية والمخالطة الاجتماعية وذلك في الأقوال والأفعال، قال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [سورة الأنعام: 152]، وقال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} وقد تقدم في سورة النساء (58).