فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

قوله: {وإذا بدلنا آية مكان آية}.
كان كفار مكة إذا نسخ الله لفظ آية بلفظ أخرى ومعناها وإن بقي لفظها، لأن هذا كله يقع عليه التبديل، يقولون: لو كان هذا من عند الله لم يتبدل، وإنما هو من افتراء محمد، فهو يرجع من خطأ يبدلونه إلى صواب يراه بعد، فأخبر الله عز وجل أنه أعلم بما يصلح للعباد برهة من الدهر، ثم ما يصلح لهم بعد ذلك، وأنهم لا يعلمون هذا، وقرأ الجمهور: {ينَزّل} بفتح النون وشد الزاي، وقرأ أبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، وعبّر بالأكثر مراعاة لما كان عند قليل منهم من توقف وقلة مبالغة في التكذيب والظن، ويحتمل أن يكون هذا اللفظ قرر على قليل منهم أنهم يعلمون ويكفرون تمردًا وعنادًا، وأمر نبيه أن يخبر أن القرآن وناسخه ومنسوخه إنما جبريل عليه السلام وهو {روح القدس}، لا خلاف في ذلك، و{القدس} الموضع المطهر، فكأن جبريل أضيف إلى الأمر المطهر بإطلاق، وسمي روحًا إما لأنه ذو روح من جملة روح الله الذي بثه في خلقه، وخص هو بهذا الاسم، وإما لأنه يجري من الهدايات والرسالات ومن الملائكة أيضًا مجرى الروح من الأجساد لشرفه ومكانته، وقرأ ابن كثير: {القدْس} بسكون الدال، وقرأ الباقون: {القدُس} بضمها، وقوله: {بالحق} أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأحكامه ومصالحه، وأخباره، ويحتمل أن يكون قوله: {بالحق} بمعنى حقًا، ويحتمل أن يريد {بالحق} في أن ينزل أي أنه واجب لمعنى المصلحة أن ينزل، وعلى هذا الاحتمال اعتراضات عند أصحاب الكلام على أصول الدين، وباقي الآية بين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}.
قيل: المعنى بدلنا شريعة متقدّمة بشريعة مستأنفة؛ قاله ابن بحر.
مجاهد: أي رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها.
وقال الجمهور: نسخنا آية بآية أشدّ منها عليهم.
والنسخ والتبديل رفعُ الشيء مع وضع غيره مكانه.
وقد تقدّم الكلام في النسخ في البقرة مستوفًى.
{قالوا} يريد كفار قريش.
{إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} أي كاذبٌ مختلِق، وذلك لما رأوا من تبديل الحكم.
فقال الله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الله شرع الأحكام وتبديل البعض بالبعض.
وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} يعني جبريل، نزل بالقرآن كلِّه ناسخه ومنسوخه.
وروي بإسناد صحيح عن عامر الشَّعْبِيّ قال: وُكِّل إسرافيل بمحمد صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، فكان يأتيه بالكلمة والكلمة، ثم نزل عليه جبريل بالقران.
وفي صحيح مسلم أيضًا: «أنه نزل عليه بسورة الحمد مَلَك لم ينزل إلى الأرض قَطُّ».
كما تقدّم في الفاتحة بيانه.
{مِن رَّبِّكَ بالحق} أي من كلام ربك.
{لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ} أي بما فيه من الحجج والآيات.
{وَهُدًى} أي وهو هدى.
{وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ}. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل} وذلك أن المشركين من أهل مكة قالوا: إن محمدًا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدًا، ماهو إلا مفترٍ يتقوله من تلقاء نفسه فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى: وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكمًا آخر والله أعلم بما ينزل اعتراض دخل في الكلام، والمعنى والله أعلم بما ينزل من الناسخ وبما هو أصلح لخلقه، وبما يغير ويبدل من أحكامه أي هو أعلم بجميع ذلك مما هو من مصالح عباده، وهذا نوع من توبيخ وتقريع للكفار على قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى: {قالوا إنما أنت مفتر} أي تختلقه من عندك، والمعنى: إذا كان الله تعالى أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمدًا إلى الافتراء والكذب لأجل التبديل والنسخ؟ وإنما فائدة ذلك ترجع إلى مصالح العباد، كما يقال: إن الطبيب يأمر المريض بشرب دواء ثم بعد ذلك ينهاه عنه ويأمر بغيره لما يرى فيه من المصلحة {بل أكثرهم لا يعلمون} يعني لا يعلمون فائدة الناسخ وتبديل النسوخ {قل} أي قل لهم يا محمد {نزله} يعني القرآن {روح القدس} يعني جبريل صلى الله عليه وسلم أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود وطلحة الخير، والمعنى الروح المقدس المطهر {من ربك} يعني أن جبريل نزل بالقرآن من ربك يا محمد {بالحق ليثبت الذين آمنوا} يعني ليثبت بالقرآن قلوب المؤمنين فيزدادوا إيمانًا ويقينًا {وهدى وبشرى} يعني وهو هدى وبشرى {للمسلمين}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَإِذَا بَدَّلْنَا ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ}.
ولما ذكر تعالى إنزال الكتاب تبيينًا لكل شيء، وأمر بالاستعاذة ند قراءته، ذكر تعالى نتيجة ولاية الشيطان لأوليائه المشركين، وما يلقيه إليهم من الأباطيل، فألقى إليهم إنكار النسخ لما رأوا تبديل آية مكان آية.
وتقدم الكلام في النسخ في البقرة.
والظاهر أنّ هذا التبديل رفع آية لفظًا ومعنى، ويجوز أن يكون التبديل لحكم المعنى وإبقاء اللفظ.
ووجد الكفار بذلك طعنًا في الدين، وما علموا أنّ المصالح تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص، وكما وقع نسخ شريعة بشريعة يقع في شريعة واحدة.
وأخبر تعالى أنه العالم بما ينزل لا أنتم، وما ينزل مما يقره وما يرفعه، فمرجع علم ذلك إليه، وهو على حسب الحوادث والمصالح، وهذه حكمة إنزاله شيئًا فشيئًا، وهذه الجملة اعتراض بين الشرط وجوابه.
قيل: ويحتمل أن يكون حالًا.
وبالغوا في نسبة الافتراء للرسول بلفظ إنما، وبمواجهة الخطاب، وباسم الفاعل الدال على الثبوت، وقال: بل أكثرهم، لأن بعضهم يعلم ويكفر عنادًا.
ومفعول لا يعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه أي: لا يعلمون أنّ الشرائع حكم ومصالح.
هذه الآية دلت على وقوع نسخ القرآن بالقرآن.
وروح القدس: هنا هو جبريل عليه السلام بلا خلاف، وتقدم لم سمي روح القدس.
وأضاف الرب إلى كاف الخطاب تشريفًا للرسول صلى الله عليه وسلم باختصاص الإضافة، وإعراضًا عنهم، إذ لم يضف إليهم.
وبالحق حال أي: ملتبسًا بالحق سواء كان ناسخًا أو منسوخًا، فكله مصحوب بالحق لا يعتريه شيء من الباطل.
وليثبت معناه أنهم لا يضطربون في شيء منه لكونه نسخ، بل النسخ مثبت لهم على إيمانهم، لعلمهم أنه جميعه من عند الله، لصحة إيمانهم واطمئنان قلوبهم يعلمون أنه حكيم، وأنّ أفعاله كلها صادرة عن حكمة، فهي صواب كلها.
ودل اختصاص التعليل بالمسلمين على اتصاف الكفار بضده من لحاق الاضطراب لهم وتزلزل عقائدهم وضلالهم.
وقرئ: {ليثبت} مخففًا من أثبت.
قال الزمخشري: وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت انتهى.
وتقدم الرد عليه في نحو هذا، وهو قوله: {لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} وهدى ورحمة في هذه السورة.
ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل، لأنه مجرور، فيكون وهدى وبشرى مجرورين كما تقول: جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد، إذ التقدير: لإحسان إلى زيد.
وأجاز أبو البقاء أن يكون ارتفاع هدى وبشرى على إضمار مبتدأ أي: وهو هدى وبشرى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِذَا بَدَّلْنَا ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ} أي إذا أنزلنا آيةً من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلًا منها بأن نسخناها بها {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ} أولًا وآخِرًا وبأن كلًا من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحِكمةُ والمصلحة، فإن كل وقت له مقتضًى غيرُ مقتضى الآخَر، فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخرَ مفسدةً وبالعكس، لانقلاب الأمورِ الداعية إلى ذلك وما الشرائعُ إلا مصالحُ للعباد في المعاش والمعاد، تدور حسبما تدور المصالحُ، والجملةُ إما معترضةٌ لتوبيخ الكفرةِ والتنبيهِ على فساد رأيهم، وفي الالتفات إلى الغَيبة مع إسناد الخبرِ إلى الاسم الجليلِ المستجمِع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابةِ وتحقيقِ معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال {قَالُواْ} أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} أي متقوّلٌ على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، وحكايةُ هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأن ذلك كَفْرةٌ ناشئةٌ من نزغات الشيطان وأنه وليُّهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون شيئًا أصلًا أو لا يعلمون أن في النسخ حِكَمًا بالغةً، وإسنادُ هذا الحكمِ إلى الأكثر لما أن منهم مَنْ يعلم ذلك وإنما ينكره عِنادًا.
{قُلْ نَزَّلَهُ} أي القرآنَ المدولَ عليه بالآية {رُوحُ القدس} يعني جبريلُ عليه السلام أي الروحُ المطهّر من الأدناس البشرية، وإضافةُ الروحِ إلى القدس وهو الطُهْرُ كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل: حاتمُ الجودِ للمبالغة في ذلك الوصفِ كأنه طبعٌ منه، وفي صيغة التفعيلِ في الموضعين إشعارٌ بأن التدريجَ في الإنزال مما تقتضيه الحِكَمُ البالغة {مِن رَبّكَ} في إضافة الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضةِ آثارِ الربوبية عليه صلى الله عليه وسلم ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المبنيةِ على التلقين المحض {بالحق} أي ملتبسًا بالحق الثابتِ الموافقِ للحكمة المقتضيةِ له بحيث لا يفارقها إنشاء ونسخًا، وفيه دَلالةٌ على أن النسخ حق {لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ} على الإيمان بأنه كلامُه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخَ وتدبّروا ما فيه من رعاية المصالحِ اللائقة بالحال رسَخت عقائدُهم واطمأنت قلوبُهم، وقرئ {ليُثبت} من الإفعال {وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} المنقادين لحُكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتًا وهدايةً وبشارةً، وفيه تعريضٌ بحصول أضدادِ الأمورِ المذكورة لمن سواهم من الكفار. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذَا بَدَّلْنَا ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ} أي إذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلًا منها بأن نسخناها بها، والظاهر على ما في البحر أن المراد نسخ اللفظ والمعنى، ويجوز أن يراد نسخ المعنى مع بقاء اللفظ {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ} من المصالح فكل من الناسخ والمنسوخ منزل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير الآخر فكم من مصلحة تنقلب مفسدة في وقت آخر لانقلاب الأمور الداعية إليها، ونرى الطبيب الحاذق قد يأمر المريض بشربة ثم بعد ذلك ينهاه عنها ويأمره بضدها، وما الشرائع إلا مصالح للعباد وأدوية لأمراضهم المعنوية فتختلف حسب اختلاف ذلك في الأوقات وسبحان الحكيم العليم، والجملة اما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم، وفي الالتفات إلى الغيبة مع الإسناد إلى الاسم الجليل ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية كما قال أبو البقاء وغيره، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يُنَزّلٍ} من الإنزال {قَالُواْ} أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} مقتول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، وقد بالغوا قاتلهم الله تعالى في نسبه الافتراء إلى حضرة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث وجهوا الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام وجاؤوا باجلملة الاسمية مع التأكيد بإنما، وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأنه كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم.
وفي الكشف أن وجه ذكره عقيب الأمر بالاستعاذة عند القراءة أنه باب عظيم من أبوابه يفتن به الناقصين يوسوس إليهم البداء والتضاد وغير ذلك {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون شيئًا أصلًا أو لا يعلمون أن في التبديل المذكور حكمًا بالغة، وإسناد هذا الحكم إلى أكثرهم لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكر عنادًا.
والآية دليل على نسخ القرآن بالقرآن وهي ساكتة عن نفي نسخه بغير ذلك مما فصل في كتب الأصول.
{قُلْ نَزَّلَهُ} أي القرآن المدلول عليه بالآية، وقال الطبرسي: أي الناسخ المدلول عليه بما تقدم {رُوحُ القدس} يعني جبريل عليه السلام وأطلق عليه ذلك من حيث أنه ينزل بالقدس من الله تعالى أي مما يطهر النفوس من القرآن والحكمة والفيض الإلهي، وقيل: لطهره من الادناس البشرية، والإضافة عند بعض للاختصاص كما في {رَبّ العزة} [الصافات: 180]، وجعلها بعض المحققين من إضافة الموصوف للصفة على جعله نفس القدس مبالغة نحو خبر سوء ورجل صدق على ما ارتضاه الرضى، ومثل ذلك حاتم الجود وسحبان الفصاحة وخالف في ذلك صاحب الكشف مختارًا أنها للاختصاص، ولا يخفى ما في صيغة الاتفعيل بناء على القول بأنها تفيد التدريج من المناسبة لمقتضى المقام لما فيها من الإشارة إلى أنه أنزل دفعات على حسب المصالح {مِن رَبّكَ} في إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية عليه عليه الصلاة والسلام ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المنبئة عن التلقين المحض كما في إرشاد العقل السليم، وكأنه اعتناء بأمر هذه الدلالة لم يقل من ربكم على أن في ترك خطابهم من حط قدرهم ما فيه، و{مِنْ} لابتداء الغاية مجازًا {بالحق} أي ملتبسًا بالحكمة المقتضية له بحيث لا يفارقها ناسخًا كان أو منسوخًا {لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ} أي على الإيمان بما يجب الإيمان به لما فيه من الحجج القاطعة والأدلة الساطعة أو على الإيمان بأنه كلامه تعالى فانهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح رسخت عقائدهم واطمأنت به قلوبهم، وأول بعضهم الآية على هذا الوجه بقوله: {ليبين} ثباتهم وتعقب بأنه لا حاجة إليه إذا لتثبيت بعد النسخ لم يكن قبله فإن نظر إلى مطلق الإيمان صح.
وقرئ {لِيُثَبّتَ} من الأفعال.
{وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} عطف على محل {لِيُثَبّتَ} عند الزمخشري ومن تابعه وهو نظير زرتك لأحدثك واجلالًا لك أي تثبيتًا وهداية وبشارة، وتعقب بأنه إذا اعتبر الكل فعل المنزل على الإسناد المجازي لم يكن للفرق بادخال اللام في البعض والترك في البعض وجه ظاهر، وكذا إذا اعتبر فعل الله تعالى كما هو كذلك على الحقيقة وإذا اعتبر البعض فعل المنزل ليتحد فاعل المصدر وفاعل المعلل به فيترك اللام له والبعض الآخر فعل الله تعالى ليختلف الفاعل فيؤتي باللام لم يكن لهذا التخصيص وجه ظاهر أيضًا ويفوت به حسن النظم.
وقال الخفاجي يوجه ترك اللام في المعطوف دون المعطوف عليه مع وجود شرط الترك فيهما بأن المصدر المسبوك معرفة على ما تقرر في العربية والمفعول له الصريح وإن لم يجب تنكيره كما عزى للرياشي فخلافه قليل كقوله:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره

ففرق بينهما تفننًا وجريًا على الأفصح فيهما، والنكتة فيه أن التثبيت أمر عارض بعد حصول المثبت عليه فاختير فيه صيغة الحدوث مع ذكر الفاعل إشارة إلى أنه فعل لله تعالى مختص به بخلاف الهداية والبشارة فإنهما يكونان بالواسطة، وقيل: إن وجود الشرط مجوز لا موجب والاختيار مرجح مع ما في ذلك من فائدة بيان جواز الوجهين، وفيه أنه لا يصلح وجهًا عند التحقيق، وقد اعترض أبو حيان هنا بما تقدم في الكلام على قوله تعالى: {لِتُبَيّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 64]، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون العطف على المصدر المنسبك لأنه مجرور فيكون {هُدًى وبشرى} مجرورين، وجوز أبو البقاء أن يكونا مرفوعين على أنهما خبرًا مبتدأ محذوف أي وهو هدى وبشرى، والجملة في موضع الحال من الهاء في {نزله}.
والمراد بالمسلمين الذين آمنوا، والعدول عن ضميرهم لمدحهم بكلا العنوانين، وفسر بعضهم الإسلام بمعناه اللغوي فقيل: إن ذلك ليفيد بعد توصيفهم بالإيمان، والظاهر أن {لِلْمُسْلِمِينَ} قيد للهدى والبشرى ولم أر من تعرض لجواز كونه قيدًا للبشرى فقط كما تعرض لذلك في قوله تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. على ما سمعت هناك.
وفي هذه الآية على ما قالوا تعريض لحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سوى المذكورين من الكفار من حيث ان قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ} جواب لقولهم: {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101]. فيكفي فيه {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} فالزيادة لمكان التعريض وقال الطيبي إن {نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} بدل نزل الله فيه زيادة تصوير في الجواب وزيد قوله تعالى: {بالحق} لينبه على دفع الطعن بألطف الوجوه ثم نعى قبيح أفعالهم بقوله تعالى: {لِيُثَبّتَ} إلخ. تعريضًا بأنهم متزلزلون ضالوان موبخون منذرون بالخزى والنكال واللعن في الدنيا والآخة {وَأَنْ} عذابهم في خلاف ذلك ليزيد في غيظهم وحنقهم، وفي الكلام ما هو قريب من الأسلوب الحكيم اه فتأمل. اهـ.