فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله عزو جل: {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر}.
وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يتعلم هذه القصص وهذه الأخبار من إنسان آخر وهو آدمي مثله، وليس هو من عند الله كما يزعم فأجابهم الله بقوله ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشر واختلفوا في ذلك البشر من هو فقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قينًا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيًا أعجمي اللسان فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، فكانوا يقولون إنما يعلمه بلعام.
وقال عكرمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئ غلامًا لبني المغيرة يقال له يعيش فكان يقرأ الكتب؟ فقالت قريش: إنما يعلمه يعيش، وقال محمد بن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرًا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني عبد لبعض بني الحضرمي يقال له: جبر وكان يقرأ الكتب.
وقال عبيد الله بن مسلمة: كان لنا عبدان من أهل عين التمر يقال لأحدهما: يسار ويكنى أبا فكيهة، ويقال للآخر: جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل بمكة فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن فيقف ويستمع قال الضحاك: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آذاه الكفار يقعد إليهما فيتروح بكلامهما، فقال المشركون إنما يتعلم محمد منهما.
وقال الفراء: قال المشركون إنما يتعلم محمد من عائش المملوك كان لحويطب بن عبد العزى كان نصرانيًا، وقد أسلم وحسن إسلامه وكان أعجميًا، وقيل: هو عداس غلام عتبة بن ربيعة، والحاصل أن الكفار اتهموا رسول الله صلى الله عليه سلم وقالوا إنما يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يضيفها لنفسه ويزعم أنه وحي من الله وهو كاذب في ذلك فأجاب الله عنه، وأنزل هذه الآية تكذيبًا لهم فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب فقال تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه} يعني يميلون، ويشيرون إليه {أعجمي} يعني هو أعجمي والأعجمي هو الذي لا يفصح في كلامه، وإن كان يسكن البادية ومنه سمي زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان من العرب، والعجمي منسوب إلى العجم، وإن كان فصيحًا بالعربية والأعرابي الذي يسكن البادية، والعربي الذي يسكن الأمصار من بلاد العرب وهو منسوب إلى العرب {وهذا لسان عربي مبين} يعني بين الفصاحة والبلاغة ووجه الجواب، هو أن الذي يشيرون إليه رجل أعجمي في لسانه عجمة تمنعه من الإتيان بفصيح الكلام ومحمد صلى الله عليه وسلم جاءكم بهذا القرآن الفصيح الذي عجزتم أنتم عنه، وأنتم أهل الفصاحة والبلاغة، فكيف يقدر من هو أعجمي على مثله وأين فصاحة هذا القرآن من عجمة هذا الذي يشيرون إليه، فثبت بهذا البرهان، أن جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وحي أوحاه الله إليه وليس هو من تعليم الذي يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه {إن الذين لا يؤمنون بآيات الله} يعني لا يصدقون أنه من عند الله {لا يهديهم الله} يعني لا يرشدهم ولا يوفقهم للإيمان {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} يعني إنما يقدم على فرية الكذب من لا يؤمن بآيات الله فهو رد لقول كفار قريش إنما أنت مفترٍ {وأولئك هم الكاذبون} يعني في قولهم، إنما يعلمه بشر لا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: قد قال تبارك وتعالى إنما يفترى الكذب فما معنى قوله تعالى: {وأولئك هم الكاذبون} والثاني هو الأول؟ قلت: قوله سبحانه وتعالى إنما يفترى الكذب أخبار عن حال قولهم، وقوله: {وأولئك هم الكاذبون} نعت لازم لهم كقول الرجل لغيره كذبت وأنت كاذب، أي كذبت في هذا القول ومن عادتك الكذب وفي الآية دليل على أن الكذب من أفحش الذنوب الكبار لأنه الكذاب المفتري، هو الذي لا يؤمن بآيات الله.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن عبد الله بن جراد قال: «قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: قد يكون ذلك قلت: المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك قلت: المؤمن يكذب قال: لا قال الله تعالى إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله». اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ}.
ولما نسبوه عليه السلام للافتراء وهو الكذب على الله، لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا ذلك الافتراء الذي نسبوه هو من تعليم بشر إياه، فليس هو المختلق بل المختلق غيره، وهو ناقل عنه.
وظاهر قولهم: إنما أنت مفتر.
إنّ معناه: مختلق الكذب، وهو ينافي التعلم من البشر، فيحتمل أن يكون قوله: {مفتر} في نسبة ذلك إلى الله، ويحتمل أن يكونوا فيه طائفتين: طائفة ذهبت إلى أنه هو المفتري، وطائفة أنه يتعلم من البشر.
ويعلم مضارع اللفظ ومعناه: المضي أي: ولقد علمنا، وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين.
فقيل: هو حبر غلام ورمى كان لعامر بن الحضرمي، وقيل: عائش أو يعيش، وكان صاحب كتب مولى حويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه قاله: الفراء، والزجاج.
وقيل: أبو فكيهة أعجمي مولى لمرأة بمكة.
قيل: واسمه يسار وكان يهوديًا قاله: مقاتل، وابن جبير، إلا أنه لم يقل كان يهوديًا.
وقال ابن زيد: كان رجلًا حدادًا نصرانيًا اسمه عنس.
وقال حصين بن عبد الله بن مسلم: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، يسار وحبر، كانا يقرآن كتبًا لهما بلسانهم، وكان صلى الله عليه وسلم يمر بهما فيسمع قراءتهما.
قيل: وكانا حدادين يصنعان السيوف، فقال المشركون: يتعلم منهما فقيل لأحدهما ذلك فقال: بل هو يعلمني، فقال ابن عباس: كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له: بلعام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه الإسلام فقالت قريش: هذا يعلم محمدًا من جهة الأعاجم.
وقال الضحاك: الإشارة إلى سلمان الفارسي، وضعف هذا من جهة أنّ سلمان إنما أسلم بعد الهجرة، وهذا السورة مكية إلا ما نبه عليه أنه مدني.
واللسان: هنا اللغة.
وقرأ الحسن: اللسان الذي بتعريف اللسان بأل، والذي صفته.
وقرأ حمزة والكسائي: {يلحدون} من لحد ثلاثيًا، وهي قراءة عبد الله بن طلحة، والسلمي، والأعمش، ومجاهد، وقرأ باقي السبعة، وابن القعقاع: بضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعيًا وهما بمعنى واحد.
قال الزمخشري: يقال ألحد القبر ولحده، فهو ملحد وملحودًا ذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه، ثم استعير لكل إمالة عن استقامة فقالوا: ألحد فلان في قوله: وألحد في دينه لأنه أمال دينه عن الأديان كلها، لم يمله من دين إلى دين.
والمعنى: لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة، ردًّا لقولهم وإبطالًا لطعنهم انتهى.
وظاهر قول الزمخشري: إن اللسان في الموضعين اللغة.
وقال ابن عطية: وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارحة.
واللسان في كلام العرب اللغة، ويحتمل أن يراد وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارة.
واللسان في كلام العرب اللغة، ويجتمل أن يراد في هذه الآية.
وقال الكرماني: المعنى أنتم أفصح وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظمًا ونثرًا، وقد عجزتم وعجز جميع العرب، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن؟
قال الزمخشري: {فإن قلت}: الجملة التي هي قوله لبيان الذي يلحدون إليه أعجمي، ما محلها؟ {قلت}: لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم، ومثله قول الله: أعلم، حيث يجعل رسالاته بعد قوله: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} انتهى.
ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي: يقولون ذلك والحالة هذه أي: علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة، كما تقول: تشتم فلانًا وهو قد أحسن إليك أي: علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه.
وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ، وهو مذهب مرجوح جدًا، ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب، وهو مذهب تبع فيه الفراء، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها، لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا، وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}.
لما ذكر تعالى نسبتهم إلى الافتراء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنّ ما أتى به من عند الله إنما يعلمه إياه بشر، كان ذلك تسجيلًا عليهم بانتفاء الإيمان، فأخبر تعالى عنهم أنهم لا يهديهم الله أبدًا إذ كانوا جاحدين آيات الله، وهو ما أتى به الرسول من المعجزات وخصوصًا القرآن، فمن بالغ في جحد آيات الله سد الله عليه باب الهداية.
وذكر تعالى وعيده بالعذاب الأليم لهم، ومعنى لا يهديهم: لا يخلق الإيمان في قلوبهم.
وهذا عام مخصوص، فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى.
وقال الزمخشري: لا يهديهم الله لا يلطف بهم، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة، لا من أهل اللطف والثواب انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.
وقال ابن عطية: المفهوم من الوجود أنّ الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخبرتهما بتقبيح فعلهم والتشنيع بخطئهم، وذلك كقوله: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} والمراد ما ذكرناه، فكأنه قال: إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله انتهى.
وقال القاضي: أقوى ما قيل في ذلك لا يهديهم إلى طريق الجنة، ولذلك قال بعده: ولهم عذاب أليم، والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار.
وقال العسكري: يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا، والمراد بقوله: {لا يهديهم الله} أي لا يهتدون، وإنما يقال: هدى الله فلانًا على الإطلاق إذا اهتدى هو، وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال: إن الله هداه فلم يهتد، كما قال: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} ثم ردّ تعالى قولهم: {إنما أنت مفتر} بقوله: {إنما يفتري الكذب} أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه يترقب عقابًا عليه.
ولما كان في كلامهم إنما وهو يقتضي الحصر عند بعضهم، جاء الرد عليهم بإنما أيضًا، وجاء بلفظ يفتري الذي يقتضي التجدد، ثم علق الحكم على الوصف المقتضي للافتراء وهو: انتفاء الإيمان، وختم بقوله: {وأولئك هم الكاذبون} فاقتضى التوكيد البالغ والحصر بلفظ الإشارة، والتأكيد بلفظ هم، وإدخال أل على الكاذبون، وبكونه اسم فاعل يقتضي الثبوت والدوام، فجاء يفتري يقتضي التجدد، وجاء الكاذبون يقتضي الثبوت والدوام.
وقال الزمخشري: وأولئك إشارة إلى قريش هم الكاذبون، هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون.
أو إلى الذين لا يؤمنون أي: وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب.
أو أولئك هم الكاذبون عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء، لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين.
أو أولئك هم الكاذبون في قولهم: إنما أنت مفتر انتهى.
والوجه الذي بدأ به بعيد، وهو أن وأولئك إشارة إلى قريش.
والظاهر أن من شرطية في موضع رفع على الابتداء، وهو استئناف إخبار لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ}.
غيرَ ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ} أي القرآنَ {بُشّرَ} على طريق البتّ مع ظهور أنه نزّله روحُ القدس عليه الصلاة والسلام، وتحليةُ الجملةِ بفنون التأكيدِ لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد، وصيغةُ الاستقبال لإفادة استمرارِ العلم بحسب الاستمرارِ التجدّدي في متعلَّقه فإنهم مستمرون على تفوّه تلك العظيمةِ، يعنون بذلك جبرًا الروميَّ غلامَ عامر بنِ الحضرمي، وقيل: جبرًا ويسارًا كانا يصنعان السيفَ بمكة ويقرآن التوارةَ والإنجيلَ وكان الرسولُ عليه الصلاة والسلام يمرّ عليهما ويسمع ما يقرآنه، وقيل: عابسًا غلامَ حويطِب بنِ عبدِ العزى {كان} قد أسلم وكان صاحبَ كتب، وقيل: سلمانَ الفارسي، وإنما لم يصرَّح باسم من زعموا أنه يعلمه مع كونه أدخلَ في ظهور كذبِهم للإيذان بأن مدار خطابهم ليس نسبتَه عليه السلام إلى التعلم من شخص معينٍ بل من البشر كائنًا مَنْ كان مع كونه عليه السلام معدِنًا لعلوم الأولين والآخرين {لّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ} الإلحادُ الإمالةُ، مِنْ ألحد القبرَ إذا أمال حفرَه عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استُعير لكل إمالةٍ عن الاستقامة فقالوا: ألحد فلانٌ في قوله وألحد في دينه، أي لغةُ الرجلِ الذي يُميلون إليه القول عن الاستقامة أعجميةٌ غيرُ بيِّنةٍ، وقرئ بفتح الياء والحاء وبتعريف اللسان {وهذا} أي القرآنُ الكريم {لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} ذو بيان وفصاحةٍ، والجملتان مستأنَفتان لإبطال طعنهم، وتقريرُه أن القرآن معجزٌ بنظمه كما أنه معجزٌ بمعناه فإن زعمتم أن بشرًا يعلّمه معناه فكيف يعلّمه هذا النظمَ الذي أعجز جميعَ أهل الدنيا والتشبثُ في أثناء الطعن بأذيال أمثالِ هذه الخرافاتِ الركيكة دليلٌ على كمال عجزهم.
{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} أي لا يصدّقون أنها من عند الله بل يقولون فيها ما يقولون، يسمّونها تارة افتراء وأخرى أساطيرَ معلَّمةً من البشر {لاَ يَهْدِيهِمُ الله} إلى الحق أو إلى سبيل النجاةِ هدايةً موصلة إلى المطلوب لما عليم أنهم لا يستحقون ذلك لسوء حالهم {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذا تهديدٌ لهم ووعيدٌ على ما هم عليه من الكفر بآياتِ الله تعالى ونسبة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطةِ شبُهتِهم وردّ طعنهم.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} ردٌّ لقولهم: إنما أنت مفترٍ، وقلبٌ للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون بعد رده بتحقيق أنه منزلٌ من عند الله بواسطة روحِ القدس، وإنما وُسّط بينهما قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} الآية، لما لا يخفى من شدة اتصالِه بالرد الأول، والمعنى والله تعالى أعلم أن المفتريَ هو الذي يكذّب بآيات الله ويقول إنه افتراء ومعلَّمٌ من البشر أي تكذيبُها على الوجه المذكور هو الافتراء على الحقيقة لأن حقيقتَه الكذبُ، والحكم بأن ما هو كلامُه تعالى ليس بكلامه تعالى في كونه كذبًا وافتراء كالحكم بأن ما ليس بكلامه تعالى كلامُه تعالى، والتصريحُ بالكذب للمبالغة في بيان قُبحِه، وصيغةُ المضارع لرعاية المطابقة بينه وبين ما هو عبارةٌ عنه أعني قوله: {لا يؤمنون} وقيل: المعنى إنما يفتري الكذبَ ويليق ويليق ذلك بمن لا يؤمن بآيات الله لأنه لا يترقب عقابًا عليه ليرتدعَ عنه، وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقت به من العقاب فلا يمكن أن يصدر عنه افتراء ألبتةَ {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر من عدم الإيمانِ بآيات الله {هُمُ الكاذبون} على الحقيقة أو الكاملون في الكذب إذ لا كذِبَ أعظمُ من تكذيب آياتِه تعالى والطعنِ فيها بأمثال هاتيك الأباطيلِ، والسرُّ في ذلك أن الكذِبَ الساذَجَ الذي هو عبارةٌ عن الإخبار بعدم وقوعِ ما هو واقعٌ في نفس الأمرِ بخلق الله تعالى أو بوقوعِ ما لم يقعْ كذلك مدافعةٌ لله تعالى في فعله فقط، والتكذيبُ مدافعةٌ له سبحانه في فعله وقولِه المنبىءِ عنه معًا، أو الذين عادتُهم الكذبُ لا يزَعُهم عنه وازعٌ من دين أو مروءةٍ، وقيل: الكاذبون في قولهم: إنما أنت مفتر. اهـ.