فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}.
عطف على جملة {وإذا بدلنا آية مكان آية} [سورة النحل: 101].
وهذا إبطال لتلبيس آخر مما يلبّسون به على عامّتهم، وذلك أن يقولوا: إن محمدًا يتلقّى القرآن من رجل من أهل مكة.
قيل: قائل ذلك الوليدُ بن المغيرة وغيره، قال عنه تعالى: {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر} [سورة المدثر: 24]، أي لا يلّقنه مَلَك بل يعلّمه إنسان، وقد عيّنوه بما دلّ عليه قوله تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي}.
وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و{قدْ} يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامّتهم ولا يجهرون به بين المسلمين لأنه باطل مكشوف، وأن الله أطلع المسلمين على ذلك.
فقد كان في مكّة غلام روميّ كان مولى لعامر بن الحضرمي اسمه جَبر كان يصنع السيوف بمكّة ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثالُه من عامّة النصارى من دعوات الصلوات، فاتّخذ زعماء المشركين من ذلك تمويهًا على العامة، فإن معظم أهل مكّة كانوا أمّيين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها ولو محرّفة، أو يكتب حروفًا يتعلّمها، يحسبونه على علم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما جَانبه قومه وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام، وكان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش.
هذا يعلّم محمدًا ما يقوله.
وقيل: كان غلام رومي اسمه بلعام، كان عبدًا بمكة لرجل من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام، فقالوا: إن محمدًا يتعلّم منه، وكان هذا العبد يقول: إنّما يقف عليّ يعلّمني الإسلام.
وظاهر الإفراد في {إليه} أن المقصود رجل واحد.
وقد قيل: المراد عَبدَان هما جَبر ويَسار كانا قنّين، فيكون المراد بـ {بشر} الجنس، وبإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده.
وقد كشف القرآن هذا اللّبس هنا بأوضح كشف إذ قال قولًا فصلًا دون طول جدال {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين}، أي كيف يعلّمه وهو أعجميّ لا يكاد يبين، وهذا القرآن فصيح عربي معجز.
والجملة جواب عن كلامهم، فهي مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأن قولهم: {إنما يعلمه بشر} يتضمنّ أنه ليس منزّلًا من عند الله فيسأل سائل: ماذا جواب قولهم؟ فيقال: {لِسانُ الذي} إلخ.، وهذا النّظم نظير نظم قوله تعالى: {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [سورة الأنعام: 124].
وألْحَد: مثل لَحَد، أي مال عن القويم.
فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى المجرد، كقولهم: أبان بمعنى بان.
فمعنى {يلحدون} يميلون عن الحقِّ لأن ذلك اختلاقُ معاذير، فهم يتركون الحقّ القويم من أنه كلام منزّل من الله إلى أن يقولوا {يعلمه بشر}، فذلك ميل عن الحقّ وهو إلحاد.
ويجوز أن يراد بالإلحاد الميْل بكلامهم المبهم إلى قَصدٍ معين لأنهم قالوا: {إنما يعلمه بشر} وسكتوا عن تعيينه توسعة على أنفسهم في اختلاق المعاذير، فإذا وجدوا ساذجًا أبَلْهَ يسأل عن المعني بالبشر قالوا له: هو جَبر أو بَلعام، وإذا توسّموا نباهة السائل تجاهلوا وقالوا: هو بشر من الناس، فإطلاق الإلحاد على هذا المعنى مثل إطلاق الميَل على الاختيار.
وقرأ نافع والجمهور: {يلحدون} بِضمّ الياء مضارع ألحد.
وقرأ حمزة والكسائي: {يَلحَدون} بِفتح الياء من لَحد مرادف أَلحد.
وقد تقدّم الإلحاد في قوله تعالى: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} في سورة الأعراف (180).
وليست هذه الهمزة كقولهم: ألحد الميتَ، لأن تلك للجعل ذَا لحد.
واللسان: الكلام.
سمّي الكلام باسم آلته.
والأعجمي: المنسوب إلى الأعجم، وهو الذي لا يبين عن مراده من كل ناطق لا يفهمون ما يريده.
ولذلك سمّوا الدوابّ العجماوات.
فالياء فيه ياء النسب.
ولما كان المنسوب إليه وصفًا كان النسب لتقوية الوصف.
والمبين: اسم فاعل من أبان، إذا صار ذا إبِانة، أي زائد في الإبانة بمعنى الفصاحة والبلاغة، فحصل تمام التضادّ بينه وبين {لسان الذي يلحدون إليه}.
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}.
جملة معترضة.
وورود هذه الآية عقب ذكر اختلاق المتقعّرين على القرآن المرجفين بالقالة فيه بين الدهماء يومىء إلى أن المراد بالذين لا يؤمنون هم أولئك المردود عليهم آنفًا.
وهم فريق معلوم بشدة العداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم وبالتصلّب في التصدّي لصرف الناس عنه بحيث بلغوا من الكفر غايةً ما وراءها غايةٌ، فحقّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهؤلاء فريق غير معيّن يومئذٍ ولكنهم مشار إليهم على وجه الإجمال، وتكشف عن تعيينهم عواقب أحوالهم.
فقد كان من الكافرين بالنبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل وأبو سفيان.
وكان أبو سفيان أطولَ مدة في الكفر من أبي جهل؛ ولكن أبا جهل كان يخلط كفره بأذَى النبي صلى الله عليه وسلم والحنقِ عليه.
وكان أبو سفيان مقتصرًا على الانتصار لدينه ولقومه ودفْع المسلمين عن أن يغلبوهم فحرم الله أبا جهل الهداية فأهلكه كافرًا، وهدى أبا سفيان فأصبح من خيرة المؤمنين، وتشرف بصهر النبي صلى الله عليه وسلم وكان الوليد بن المغيرة وعمر بن الخطاب كافرين وكان كلاهما يدفع الناس من اتّباع الإسلام، ولكن الوليد كان يختلق المعاذير والمطاعن في القرآن وذلك من الكيد، وعمر كان يصرف الناس بالغلظة علنًا دون اختلاق، فحرم الله الوليد بن المغيرة الاهتداء، وهدى عمر إلى الإسلام فأصبح الإسلام به عزيز الجانب.
فتبيّن الناس أن الوليد من الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأن عمر ليس منهم، وقد كانا معًا كافرين في زمن ما.
ويشير إلى هذا المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى: {إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [سورة الزمر: 3]. فوَصف من لا يهديه الله بوصفين الكذب وشدة الكفر.
فتبيّن أن معنى قوله تعالى: {الذين لا يؤمنون بآيات الله} من كان الإيمان منافيًا لجبِلّة طبعهِ لا لأميال هواه.
وهذا يعلم الله أنه لا يؤمن وأنه ليس معرّضًا للإيمان، فلذلك لا يهديه الله، أي لا يكوّن الهداية في قلبه.
وهذا الأسلوب عكس أسلوب قوله تعالى: {إن الذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون} [سورة يونس: 96]، وكل يرمي إلى معنى عظيم.
فموقع هذه الجملة من التي قبلها موقع التعليل لجميع أقوالهم المحكيّة والتذييل لخلاصة أحوالهم، ولذلك فصلت بدون عطف.
وعطْفُ {ولهم عذاب أليم} على {لا يهديهم} للدّلالة على حرمانهم من الخير وإلقائهم في الشرّ لأنهم إذا حُرموا الهداية فقد وقعوا في الضلالة، وماذا بعد الحقّ إلا الضلال، وهذا كقوله تعالى: {كتب عليه أنه من تولّاه فأنه يضلّه ويهديه إلى عذاب السعير} [سورة الحج: 4].
ويشمل العذاب عذاب الدنيا وهو عذاب القتل مثل ما أصاب أبا جهل يوم بدر من ألم الجراح وهو في سكرات الموت، ثم من إهانة الإجهاز عليه عقب ذلك.
{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)}.
هذا ردّ لقولهم: {إنما أنت مفتر} [سورة النحل: 101]. بقلب ما زَعموه عليهم، كما كان قوله تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} [سورة النحل: 103]. جوابًا عن قولهم: {إنما يعلمه بشر} [سورة النحل: 103].
فبعد أن نزّه القرآن عن أن يكون مفترى والمنزّل عليه عن أن يكون مفتريًا ثني العنان لبيان من هو المفتري.
وهذا من طريقة القلب في الحال.
ووجه مناسبة ذكره هنا أن قولهم: إنما يعلمه بشر يستلزم تكذيب النبي في أن ما جاء به منزّل إليه من عند الله، فصاروا بهذا الاعتبار يؤكّدون بمضمونه قولَهم: {إنّما أنت مفتر} يؤكّد أحد القولين القولَ الآخر، فلما رُدّ قولهم: {إنما أنت مفتر} بقوله: {بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [سورة النحل: 101 102].
ورُدّت مقالتهم الأخرى في صريحها بقوله: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي}، ورُدّ مضمونها هنا بقوله: {إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون} الآية، حاصلًا به ردّ نظيرها أعني قولهم {إنما أنت مفتر} بكلام أبلغ من كلامهم، لأنهم أتوا في قولهم {إنما أنت مفتر} بصيغة قصر هي أبلغ مما قالوه، لأن قولهم: {إنما أنت مفتر} قصر للمخاطب على صفة الافتراء الدائمة، إذ الجملة الاسمية تقتضي الثبات والدّوام، فردّ عليهم بصيغة تقصرهم على الافتراء المتكرّر المتجدّد، إذ المضارع يدلّ على التجدّد.
وأكّد فعل الافتراء بمفعوله الذي هو بمعنى المفعول المطلق لكونه آيلًا إليه المعنى.
وعُرّف {الكذب} بأداة تعريف الجنس الدّالة على تميّز ماهية الجنس واستحضارها، فإن تعريف اسم الجنس أقوى من تنكيره، كما تقدّم في قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين} [سورة الفاتحة: 2].
وعبّر عن المقصور عليهم باسم الموصول دون أن يذكر ضميرهم، فيقال: إنما يفتري الكذب أنتم، ليفيد اشتهارهم بمضمون الصّلة، ولأن للصّلة أثرًا في افترائهم، لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر.
وعليه فإن من لا يؤمن بالدلائل الواضحة التي هي آيات صدق لا يسعه إلا الافتراء لترويج تكذيبه بالدلائل الواضحة.
وفي هذا كناية عن كون تكذيبهم بآيات الله عن مكابرة لا عن شبهة.
ثم أردفت جملة القصر بجملة قصرٍ أخرى بطريق ضمير الفصل وطريق تعريف المسند وهي جملة {وأولئك هم الكاذبون}.
وافتتحت باسم الإشارة، بعد إجراء وصف انتفاء الإيمان بآيات الله عنهم، لينبه على أن المشار إليهم جديرون بما يرد من الخبر بعد اسم الإشارة، وهو قصرهم على الكذب، لأن من لا يؤمن بآيات الله يتّخذ الكذب ديدنًا له متجدّدًا.
وجعل المسند في هذه الجملة معرّفًا باللام ليفيد أن جنس الكاذبين اتّحد بهم وصار منحصرًا فيهم، أي الذين تَعرف أنهم طائفة الكاذبين هم هؤلاء.
وهذا يؤول إلى معنى قصر جنس المسند على المسند إليه، فيحصل قصران في هذه الجملة: قصر موصوف على صفة، وقصر تلك الصفة على ذلك الموصوف.
والقصران الأوّلان الحاصلان من قوله: {إنما يفتري} وقوله: {وأولئك هم} إضافيان، أي لا غيرهم الذي رموه بالافتراء وهو محاشًى منه، والثالث {أولئك هم الكاذبون} قصر حقيقي ادّعائي للمبالغة، إذ نزل بلوغ الجنس فيهم مبلغًا قويًا منزلة انحصاره فيهم.
واختير في الصّلة صيغة {لا يؤمنون} دون: لم يؤمنوا، لتكون على وزان ما عُرفوا به سابقًا في قوله: {الذين لا يؤمنون بآيات الله}، ولما في المضارع من الدلالة على أنهم مستمرّون على انتفاء الإيمان لا يثبت لهم ضدّ ذلك. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)}.
وفي هذه الآية اتهام آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وافتراء جديد عليه، لا يأنف القرآن من إذاعته، فمَنْ سمع الاتهام والافتراء يجب أن يسمع الجواب، فالقرآن يريد أنْ يفضحَ أمر هؤلاء، وأنْ يُظهِر إفلاس حُججهم وما هم فيه من تخبُّط.
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103].
وقد سبق أنْ قالوا عن رسول الله مجنون وبرَّأه الله بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
والخلقُ العظيم لا يكون في مجنون؛ لأن الخلُق الفاضل لا يُوضع إلا في مكانه، بدليل قوله تعالى: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2].
وسبق أنْ قالوا: ساحر وهذا دليل على أنهم مغفلون يتخبَّطون في ضلالهم، فلو كان محمد ساحرًا، فَلِمَ لم يسحركم كما سحر المؤمنين به وتنتهي المسألة؟
وسبق أنْ قالوا شاعر مع أنهم أدْرى الناس بفنون القول شِعْرًا ونثرًا وخطابة، ولم يُجرِّبوا على محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك، لكنه الباطل حينما يَلجّ في عناده، ويتكبّر عن قبول الحق.
وهنا جاءوا بشيء جديد يُكذِّبون به رسول الله، فقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103].
أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردد على أحد أصحاب العلم ليعلمه القرآن فقالوا: إنه غلام لبي عامر بن لؤي اسمه {يعيش}، وكان يعرف القراءة والكتاب، وكان يجلب الكتب من الأسواق، ويقرأ قصص السابقين مثل عنترة وذات الهمة وغيرها من كتب التاريخ.
وقد تضاربتْ أقوالهم في تحديد هذا الشخص الذي يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلّم على يديه، فقالوا: اسمه عداس وقال آخرون: سلمان الفارسي، وقال آخرون: بَلْعام وكان حدادًا روميًا نصرانيًا يعلم كثيرًا عن أهل الكتاب.. إلخ.
والحق تبارك وتعالى يردُّ على هؤلاء، ويُظهِر إفلاسهم الفكري، وإصرارهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103].