فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال تعالى: {وأولئك هُمُ الغافلون} قال ابن عباس: أي عما يراد بهم في الآخرة.
ثم قال: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الخاسرون} واعلم أن الموجب لهذا الخسران هو أن الله تعالى وصفهم في الآيات المتقدمة بصفات ستة.
الصفة الأولى: أنهم استوجبوا غضب الله.
والصفة الثانية: أنهم استحقوا العذاب الأليم.
والصفة الثالثة: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
والصفة الرابعة: أنه تعالى حرمهم من الهداية.
والصفة الخامسة: أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
والصفة السادسة: أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة فلا جرم لا يسعون في دفعها، فثبت أنه حصل في حقهم هذه الصفات الستة التي كل واحد منها من أعظم الأحوال المانعة عن الفوز بالخيرات والسعادات، ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه، فلهذا السبب قال: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الخاسرون} أي هم الخاسرون لا غيرهم، والمقصود التنبيه على عظم خسرانهم، والله أعلم.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه وحال من أكره على الكفر، فذكر بسبب الخوف كلمة الكفر وحال من لم يذكرها، ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن فقال: {إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ}.
المسألة الثانية:
قرأ ابن عامر: {فَتَنُواْ} بفتح الفاء على إسناد الفعل إلى الفاعل، والباقون بضم الفاء على فعل ما لم يسم فاعله.
أما وجه القراءة الأولى فأمور.
الأول: أن يكون المراد أن أكابر المشركين وهم الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم.
والثاني: أن فتن وأفتن بمعنى واحد، كما يقال: مان وأمان بمعنى واحد، والثالث: أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم، وإنما جعل ذلك فتنة، لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت.
وأما وجه القراءة بفعل ما لم يسم فاعله فظاهر، لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان، فبين تعالى أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر.
المسألة الثالثة:
قوله: {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} يحتمل أن يكون المراد بالفتنة هو أنهم عذبوا، ويحتمل أن يكون المراد هو أنهم خوفوا بالتعذيب، ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك المسلمين ارتدوا.
قال الحسن: هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة، فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنهم أسلموا وهاجروا فنزلت هذه الآية فيهم، وقيل: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنية، ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك الضعفاء المعذبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقية، فقوله: {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} يحتمل كل واحد من هذه الوجوه الأربعة، وليس في اللفظ ما يدل على التعيين.
إذا عرفت هذا فنقول: إن كانت هذه الآية نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره، وإن كانت واردة فيمن ارتد فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ويحصل له الغفران والرحمة، فالهاء في قوله: {مِن بَعْدِهَا} تعود إلى الأعمال المذكورة فيما قبل، وهي الهجرة والجهاد والصبر. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.
رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: {إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا وَجَمَاعَةً مَعَهُ فَعَذَّبُوهُمْ حَتَّى قَارَبُوهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَرَادُوا، فَشَكَا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «كَيْفَ كَانَ قَلْبُك؟ قَالَ: مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، قَالَ: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ، وَالْإِكْرَاهُ الْمُبِيحُ لِذَلِكَ هُوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ إنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ بِهِ، فَأُبِيحَ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُظْهِرَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَيُعَارِضَ بِهَا غَيْرَهُ إذَا خَطَرَ ذَلِكَ بِبَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مَعَ خُطُورِهِ بِبَالِهِ كَانَ كَافِرًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إذَا أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ عَلَى أَنْ يَشْتُمَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يَشْتُمَ مُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَدْ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ لَهُ لَتَسْجُدَنَّ لِهَذَا الصَّلِيبِ فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يَجْعَلَ السُّجُودَ لِلَّهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَسَجَدَ لِلصَّلِيبِ كَانَ كَافِرًا، فَإِنْ أَعْجَلُوهُ عَنْ الرَّوِيَّةِ وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ، وَقَالَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَوْ فَعَلَ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ مَا ذَكَرْنَا فَقَدْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْعَلَ الشَّتِيمَةَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا عَلَى الضَّمِيرِ وَإِنَّمَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْقَوْلِ وَقَدْ أَمْكَنَهُ صَرْفُ الضَّمِيرِ إلَى غَيْرِهِ فَمَتَى لَمْ يَفْعَلْهُ فَقَدْ اخْتَارَ إظْهَارَ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَلَزِمَهُ حُكْمُ الْكُفْرِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارٍ: {إنْ عَادُوا فَعُدْ} إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَا عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ وَلَا عَلَى النَّدْبِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُعْطِيَ التَّقِيَّةَ وَلَا يُظْهِرَ الْكُفْرَ حَتَّى يُقْتَلَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ خَبِيبَ بْنَ عَدِيٍّ لَمَّا أَرَادَ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لَمْ يُعْطِهِمْ التَّقِيَّةَ حَتَّى قُتِلَ فَكَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَّارٍ فِي إعْطَائِهِ التَّقِيَّةَ وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ إعْطَاء التَّقِيَّةِ إعْزَازًا لِلدِّينِ وَغَيْظًا لِلْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَاتَلَ الْعَدُوَّ حَتَّى قُتِلَ، فَحَظُّ الْإِكْرَاهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إسْقَاطُ الْمَأْثَمِ عَنْ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ حَتَّى يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَقُلْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ}، فَجَعَلَ الْمُكْرَهَ كَالنَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فِي إسْقَاطِ الْمَأْثَمِ عَنْهُ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا نَسِيَ أَوْ أَخْطَأَفَسَبَقَ لِسَانُهُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهَا مَأْثَمٌ وَلَا تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَعَتَاقِهِ وَنِكَاحِهِ وَأَيْمَانِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: ذَلِكَ كُلُّهُ لَازِمٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَشْيَاء ظَاهِرُ قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَالطَّائِعِ وَقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَهْدِ الْمُكْرَهِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ».
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى.
يُونُسُ بْنُ بِكِيرٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: أَقْبَلْت أَنَا وَأَبِي وَنَحْنُ نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَوَجَّهَ إلَى بَدْرٍ، فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: إنَّكُمْ لَتُرِيدُونَ مُحَمَّدًا؟ فَقُلْنَا: لَا نُرِيدُهُ إنَّمَا نُرِيدُ الْمَدِينَةَ، قَالَ: فَأَعْطُونَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَنْصَرِفَنَّ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا تُقَاتِلُونَ مَعَهُ فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَهْدَ اللَّهِ، فَمَرَرْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ بَدْرًا فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا كَانَ مِنَّا وَقُلْنَا: مَا تَأْمُرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَتَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» فَانْصَرَفْنَا إلَى الْمَدِينَةِ فَذَلِكَ مَنَعَنَا مِنْ الْحُضُورِ مَعَهُمْ.
فَأَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْلَافَ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ وَجَعَلَهَا كَيَمِينِ الطَّوْعِ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنِّكَاحُ مِثْلُهَا لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ عَطَاء بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ».
فَلَمَّا سَوَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِنَّ بَيْنَ الْجَادِّ وَالْهَازِلِ وَلِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجِدِّ وَالْهَزْلِ أَنَّ الْجَادَّ قَاصِدٌ إلَى اللَّفْظِ وَإِلَى إيقَاعِ حُكْمِهِ وَالْهَازِلُ قَاصِدٌ إلَى اللَّفْظِ غَيْرُ مَرِيدٍ لِإِيقَاعِ حُكْمِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا حَظَّ لِلْإِرَادَةِ فِي نَفْيِ الطَّلَاقِ وَأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ حَيْثُ كَانَا قَاصِدَيْنِ لِلْقَوْلِ أَنْ يُثْبِتَ حُكْمَهُ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ غَيْرُ مَرِيدٍ لِإِيقَاعِ حُكْمِهِ فَهُوَ كَالْهَازِلِ سَوَاء.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ وَاخْتَلَفَ حُكْمُ الطَّوْعِ وَالْإِكْرَاهِ فِيهِ وَكَانَ الْكُفْرُ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ كَالطَّلَاقِ، وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَالطَّائِعِ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لَفْظُ الْكُفْرِ مِنْ أَلْفَاظِ الْفُرْقَةِ لَا كِنَايَةً وَلَا تَصْرِيحًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ إذَا حَصَلَ كَافِرًا، وَالْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَكُونُ كَافِرًا، فَلَمَّا لَمْ يَصِرْ كَافِرًا بِإِظْهَارِهِ كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَهُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْفُرْقَةِ وَالْبَيْنُونَةِ وَقَدْ وُجِدَ إيقَاعُهُ فِي لَفْظٍ مُكَلَّفٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوْعِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ تَسَاوِي حَالِ الْجِدِّ وَالْهَزْلِ فِي الطَّلَاقِ لَا يُوجِبُ تَسَاوِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوْعِ فِيهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ يَسْتَوِي حُكْمُ جِدِّهِ وَهَزْلِهِ وَلَمْ يَسْتَوِ حَالُ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوْعِ فِيهِ.
قِيلَ لَهُ: نَحْنُ لَمْ نَقُلْ إنَّ كُلَّ مَا يَسْتَوِي جِدُّهُ وَهَزْلُهُ يَسْتَوِي حَالُ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوْعِ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا:
إنَّهُ لَمَّا سَوَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْجَادِّ وَالْهَازِلِ فِي الطَّلَاقِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِيهِ بِالْقَصْدِ لِلْإِيقَاعِ بَعْدَ وُجُودِ الْقَصْدِ مِنْهُ إلَى الْقَوْلِ فَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ فِيهِ لِلْقَصْدِ لِلْإِيقَاعِ بَعْدَ وُجُودِ لَفْظِ الْإِيقَاعِ مِنْ مُكَلَّفٍ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِالْقَصْدِ لَا بِالْقَوْلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَصَدَ إلَى الْجِدِّ بِالْكُفْرِ أَوْ الْهَزْلِ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَلْفِظَ بِهِ وَأَنَّ الْقَاصِدَ إلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ إلَّا بِاللَّفْظِ؟ وَيُبَيِّنُ لَك الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّاسِيَ إذَا تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ وَقَعَ طَلَاقُهُ وَلَا يَصِيرُ كَافِرًا بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَلَى وَجْهِ النِّسْيَانِ، وَكَذَلِكَ مَنْ غَلِطَ بِسَبْقِ لِسَانِهِ بِالْكُفْرِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ، فَهَذَا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ قَالُوا: طَلَاقُ الْمُكْرَهِ جَائِزٌ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ وَعَطَاء وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالُوا: طَلَاقُ الْمُكْرَهِ لَا يَجُوزُ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشُّعَبِيِّ قَالَ: إذَا أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ عَلَى الطَّلَاقِ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ وَتَلَفِ بَعْضِ الْأَعْضَاء عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ وَلَا يَشْرَبَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ فَقَالَ: {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ الْمَيْتَةَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَتَّى مَاتَ جُوعًا كَانَ آثِمًا بِمَنْزِلَةِ تَارِكِ أَكْلِ الْخُبْزِ حَتَّى يَمُوتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ فِي أَنَّ تَرْكَ إعْطَاء التَّقِيَّةِ فِيهِ أَفْضَلُ لِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَشُرْبَ الْخَمْرِ تَحْرِيمُهُ مِنْ طَرِيقِ السَّمْعِ فَمَتَى أَبَاحَهُ السَّمْعُ فَقَدْ زَالَ الْحَظْرُ وَعَادَ إلَى حُكْمِ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، وَإِظْهَارُ الْكُفْرِ مَحْظُورٌ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ لَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ لِلضَّرُورَاتِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ إظْهَارُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَى الْمَعَارِيضِ وَالتَّوْرِيَةِ بِاللَّفْظِ إلَى غَيْر مَعْنَى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ لِمَعْنَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ اللَّفْظُ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ النَّاسِي وَاَلَّذِي يَسْبِقُهُ لِسَانُهُ بِالْكُفْرِ، فَكَانَ تَرْكُ إظْهَارِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ إظْهَارُهُ عِنْدَ الْخَوْفِ.
وَقَالُوا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ رِجْلٍ أَوْ عَلَى الزِّنَا بِامْرَأَةٍ: لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُقُوقِ، فَلَا يَجُوزُ إحْيَاء نَفْسِهِ بِقَتْلِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَتِهَا بِمَعْنَى لَا تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ وَإِلْحَاقُهَا بِالشَّيْنِ وَالْعَارِ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَهُمْ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْقَذْفِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْقَذْفَ الْوَاقِعَ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَقْذُوفِ وَلَا يَلْحَقُهُ بِهِ شَيْءٌ.
فَأَحْكَامُ الْإِكْرَاهِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا، مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ فِيهِ إعْطَاء التَّقِيَّةِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا طَرِيقُ حَظْرِهِ السَّمْعُ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ إعْطَاء التَّقِيَّةِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَنَحْوِ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَظْلَمَةٌ لِآدَمِيٍّ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ جَائِزٌ لَهُ فِعْلُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَالْأَفْضَلُ تَرْكُهُ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ وَشِبْهِهِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضٍ مِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ كَبِيرَةٌ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ، سَوَاء تَقَدَّمَهَا إيمَانٌ أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ، وَالْكَافِرُ أَوْ الْمُرْتَدُّ هُوَ الَّذِي جَرَى بِالْكُفْرِ لِسَانُهُ، مُخْبِرًا عَمَّا انْشَرَحَ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ صَدْرُهُ، فَعَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ الْغَضَبُ، وَلَهُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، إلَّا مَنْ أُكْرِهَ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَذَكَرَ اسْتِثْنَاء مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ عَنْ إكْرَاهٍ، وَلَمْ يَعْقِدْ عَلَى ذَلِكَ قَلْبَهُ، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ، مَعْذُورٌ فِي الدُّنْيَا، مَغْفُورٌ فِي الْأُخْرَى.
وَالْمُكْرَهُ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَلَّ وَتَصْرِيفَ إرَادَتِهِ فِي مُتَعَلِّقَاتِهَا الْمُحْتَمِلَةِ لَهَا، فَهُوَ مُخْتَارٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ بَقِيَ لَهُ فِي مَجَالِ إرَادَتِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ مُكْرَهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ حُذِفَ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِرَادَةِ مَا كَانَ تَصَرُّفُهَا يَجْرِي عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ، وَسَبَبُ حَذْفِهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ؛ فَالْقَوْلُ هُوَ التَّهْدِيدُ، وَالْفِعْلُ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ، أَوْ الضَّرْبُ، أَوْ السَّجْنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّهْدِيدِ، هَلْ هُوَ إكْرَاهٌ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إكْرَاهٌ؛ فَإِنَّ الْقَادِرَ الظَّالِمَ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ: إنْ لَمْ تَفْعَلْ كَذَا وَإِلَّا قَتَلْتُك، أَوْ ضَرَبْتُك، أَوْ أَخَذْت مَالَك، أَوْ سَجَنْتُك، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ إلَّا اللَّهَ، فَلَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَيُسْقِطَ عَنْهُ الْإِثْمَ فِي الْجُمْلَةِ، إلَّا فِي الْقَتْلِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِقَتْلِ غَيْرِهِ؛ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْبَلَاء الَّذِي يَنْزِلُ بِهِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.