فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَاخْتُلِفَ فِي الزِّنَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ، فَإِنَّهُ أَلْزَمَهُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا شَهْوَةٌ خُلُقِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهَا إكْرَاهٌ، وَلَكِنَّهُ غَفَلَ عَنْ السَّبَبِ فِي بَاعِثِ الشَّهْوَةِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ.
وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى شَهْوَةٍ بَعَثَ عَلَيْهَا سَبَبٌ اخْتِيَارِيٌّ، فَقَاسَ الشَّيْءَ عَلَى ضِدِّهِ، فَلَمْ يَحِلَّ بِصَوَابٍ مِنْ عِنْدِهِ.
وَأَمَّا الْكُفْرُ بِاَللَّهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَلْفِظَ بِلِسَانِهِ، وَقَلْبُهُ مُنْشَرِحٌ بِالْإِيمَانِ، فَإِنْ سَاعَدَ قَلْبُهُ فِي الْكُفْرِ لِسَانَهُ كَانَ آثِمًا كَافِرًا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا سُلْطَانَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا سُلْطَتُهُ عَلَى الظَّاهِرِ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا: إنَّهُ إذَا تَلَفَّظَ بِالْكُفْرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ إلَّا جَرَيَانَ الْمَعَارِيضِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ كَافِرًا أَيْضًا.
وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ أَيْضًا لَا سُلْطَانَ لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا، مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: اُكْفُرْ بِاَللَّهِ، فَيَقُولُ: أَنَا كَافِرٌ بِاَللَّهِ، يُرِيدُ بِاللَّاهِي، وَيَحْذِفُ الْيَاء كَمَا تُحْذَفُ مِنْ الْغَازِي وَالْقَاضِي وَالرَّامِي، فَيُقَالُ: الْغَازِ وَالْقَاضِ ذَرَّةً.
وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَهُ: اُكْفُرْ بِالنَّبِيِّ، فَيَقُولُ: هُوَ كَافِرٌ بِالنَّبِيِّ، وَهُوَ يُرِيدُ بِالنَّبِيِّ الْمَكَانَ الْمُرْتَفِعَ مِنْ الْأَرْضِ.
فَإِنْ قِيلَ لَهُ: اُكْفُرْ بِالنَّبِيءِ مَهْمُوزًا، يَقُولُ: أَنَا كَافِرٌ بِالنَّبِيءِ بِالْهَمْزِ، وَيُرِيدُ بِهِ الْمُخَبِّرَ أَيَّ مُخَبِّرٍ كَانَ، أَوْ يُرِيدُ بِهِ النَّبِيءَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ:
فَأَصْبَحَ رَتْمًا دُقَاقَ الْحَصَى ** مَكَانَ النَّبِيءِ مِنْ الْكَاثِبِ

وَلِذَلِكَ يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاء مِنْ زَمَنِ فِتْنَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ دُعِيَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: الْقُرْآنُ وَالتَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ يُعَدِّدُهُنَّ بِيَدِهِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مَخْلُوقَةٌ، يَقْصِدُ هُوَ بِقَلْبِهِ أَصَابِعَهُ الَّتِي عَدَّدَ بِهَا، وَفَهِمَ الَّذِي أَكْرَهَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْكُتُبَ الْأَرْبَعَةَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْ اللَّهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، فَخَلَصَ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَضُرَّهُ فَهْمُ الَّذِي أَكْرَهَهُ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا أَمْرًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، مَشْهُورًا عِنْدَ الْعُلَمَاء أَلَّفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ اللُّغَةِ وَرَئِيسُهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ كِتَابَ الْمَلَاحِنِ لِلْمُكْرَهِينَ، فَجَاء بِبِدَعٍ فِي الْعَالَمِينَ، ثُمَّ رَكَّبَ عَلَيْهِ الْمُفْجِعَ الْكَابِتَ، فَجَمَعَ فِي ذَلِكَ مَجْمُوعًا وَافِرًا حَسَنًا، اسْتَوْلَى فِيهِ عَلَى الْأَمَدِ، وَقَرْطَسَ الْغَرَضَ.
المسألة الثالثة:
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِقَبِيحٍ لِعَيْنِهِ وَذَاتِهِ؛ إذْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَسَّنَهُ الْإِكْرَاهُ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤنَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْأَشْيَاء لَا تَقْبُحُ لِذَوَاتِهَا وَلَا تَحْسُنُ لِذَوَاتِهَا؛ وَإِنَّمَا تَقْبُحُ وَتَحْسُنُ بِالشَّرْعِ؛ فَالْقَبِيحُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ مَا أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ الْقَتْلَ الْوَاقِعَ اعْتِدَاء يُمَاثِلُ الْقَتْلَ الْمُسْتَوْفَى قِصَاصًا فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْغَافِلَ عَنْ سَبَبِهِمَا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الْإِيلَاجُ فِي الْفَرْجِ عَنْ نِكَاحٍ، يُمَاثِلُ الْإِيلَاجَ عَنْ سِفَاحٍ فِي اللَّذَّاتِ وَالْحَرَكَاتِ، إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْإِذْنُ؛ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْ الْإِكْرَاهِ يُمَاثِلُ الصَّادِرَ عَنْ الِاخْتِيَارِ؛ وَلَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إذْنُ الشَّرْعِ فِي أَحَدِهِمَا وَحَجْرُهُ فِي الْآخَرِ، وَقَدْ أَحْكَمْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
المسألة الرابعة:
إنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ بِالْإِكْرَاهِ جَائِزًا عِنْدَ الْعُلَمَاء فَإِنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلَاء وَلَمْ يُفْتَتَنْ حَتَّى قُتِلَ فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ آثَارُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يَطُولُ سَرْدُهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِذْنُ وَخَصَّهُ مِنْ اللَّهِ رِفْقًا بِالْخَلْقِ، وَإِبْقَاء عَلَيْهِمْ، وَلِمَا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ السَّمَاحَةِ، وَنَفْيِ الْحَرَجِ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ.
المسألة الخامسة:
قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَذْكُرَ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَكِّيَّةِ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: الْأُولَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَأُمِّهِ سُمَيَّةَ، وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَقَوْمٍ أَسْلَمُوا، فَفَتَنَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَنْ دِينِهِمْ، فَثَبَتَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَافْتُتِنَ بَعْضُهُمْ، وَصَبَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَلَاء وَلَمْ يَصْبِرْ بَعْضٌ، فَقُتِلَتْ سُمَيَّةُ، وَافْتُتِنَ عَمَّارٌ فِي ظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ، وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
الثَّانِيَةُ: قَالَ عِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ، وَلَمْ يُمْكِنُهُمْ الْخُرُوجُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَخْرَجَهُمْ الْمُشْرِكُونَ مَعَهُمْ كُرْهًا فَقُتِلُوا.
قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}.
الثَّالِثَةُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ وَخَبَّابٌ وَعَمَّارٌ، وَصُهَيْبٌ، وَسُمَيَّةُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَأَوْقَفُوكُمْ فِي الشَّمْسِ، فَبَلَغَ مِنْهُمْ الْجَهْدُ مَا شَاء اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ، مِنْ حَرِّ الْحَدِيدِ وَالشَّمْسِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْعِشَاء أَتَاهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَمَعَهُ حَرْبَةٌ فَجَعَلَ يَشْتُمُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ، ثُمَّ أَتَى سُمَيَّةَ فَطَعَنَ بِالْحَرْبَةِ فِي قُبُلِهَا حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ فَمِهَا، فَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ اُسْتُشْهِدَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: مَا سَأَلُوهُمْ إلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، فَجَعَلُوا يُعَذِّبُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: ارْجِعْ إلَى رَبِّك، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، حَتَّى مَلُّوهُ، ثُمَّ كَتَّفُوهُ، وَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ حَبْلًا مِنْ لِيفٍ، وَدَفَعُوهُ إلَى صِبْيَانِهِمْ يَلْعَبُونَ بِهِ بَيْنَ أَخْشَبَيْ مَكَّةَ، حَتَّى مَلُّوهُ وَتَرَكُوهُ، فَقَالَ عَمَّارٌ: كُلُّنَا قَدْ تَكَلَّمَ بِاَلَّذِي قَالُوا لَهُ، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَدَارَكَنَا، غَيْرَ بِلَالٍ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، فَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، حَتَّى تَرَكُوهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَؤُلَاء.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ.
المسألة السادسة:
لَمَّا سَمَحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُفْرِ بِهِ، وَهُوَ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ، عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَلَمْ يُؤَاخِذْ بِهِ، حَمَلَ الْعُلَمَاء عَلَيْهِ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ حُكْمٌ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ جَاء الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاء: {رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ}.
وَالْخَبَرُ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْعُلَمَاء، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلَ: مِنْهَا: قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَمِنْهَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدَمْ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّضَا، وَلَيْسَ وُجُودُهُ بِشَرْطٍ فِي الطَّلَاقِ كَالْهَازِلِ.
وَهَذَا قِيَاسٌ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ إلَى إيقَاعِ الطَّلَاقِ، رَاضٍ بِهِ وَالْمُكْرَهُ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فِي الطَّلَاقِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ إذَا قَتَلَ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ ظُلْمًا اسْتِبْقَاء لِنَفْسِهِ، فَقُتِلَ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ الْجَمَاعَةُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَحْنُونٌ: لَا يُقْتَلُ، وَهِيَ عَثْرَةٌ مِنْ سَحْنُونٍ وَقَعَ فِيهَا بِأَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ الَّذِي تَلَقَّفَهَا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِالْعِرَاقِ، وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ، وَمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَثْلَمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ».
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَكُفَّهُ عَنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ».
المسألة السابعة:
مِنْ غَرِيبِ الْأَمْرِ أَنَّ عُلَمَاءنَا اخْتَلَفُوا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، هَلْ يَقَعُ بِهِ أَمْ لَا؟ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عِرَاقِيَّةٌ سَرَتْ لَنَا مِنْهُمْ، لَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَلَا كَانُوا هُمْ، وَأَيُّ فَرْقٍ يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْيَمِينِ فِي أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ وَبَيْنَ الْحِنْثِ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَرَاجِعُوا بَصَائِرَكُمْ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِذِكْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهَا وَصْمَةٌ فِي الدِّرَايَةِ.
المسألة الثامنة:
إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى إسْلَامِ أَهْلِهِ لِمَا لَا يَحِلُّ أَسْلَمَهَا، وَلَمْ يَقْتُلْ نَفْسَهُ دُونَهَا، وَلَا احْتَمَلَ إذَايَةً فِي تَخْلِيصِهَا.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَيُّوبَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ حَاجِبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبُ أَبُو الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَاجَرَ إبْرَاهِيمُ بِسَارَةَ، وَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنْ الْجَبَابِرَةِ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إلَيَّ بِهَا، فَقَامَ إلَيْهَا، فَقَامَتْ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إنْ كُنْت آمَنْت بِك وَبِرَسُولِك فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ».
المسألة التاسعة:
فَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ عِنْدَ الْإِبَايَةِ مِنْ الِانْقِيَادِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ شَرْعًا تَنْفُذُ مَعَهُ الْأَحْكَامُ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي رَدِّ شَيْءٍ مِنْهَا.
وَلَا خِلَافَ فِيهِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ دَلِيلَ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «انْطَلِقُوا إلَى يَهُودَ فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمَدَارِسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا فَقَالُوا لَهُ: قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ: ذَلِكَ أُرِيدُ ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ، وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّمَا الْأَرْضُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» وَلِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ، وَمِنْ حُكْمِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَمَلِهِ نَظَائِرُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى بَيْعِ الْمُضْطَرِّ أَحْكَامٌ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، واَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {مَن كفر بالله من بعد إيمانه}.
ذكر الكلبي أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وعبد الله بن خطل وقيس بن الوليد بن المغيرة، كفروا بعد إيمانهم ثم قال تعالى: {إلا من أُكره وقلبُه مطمئن بالإيمان} قال الكلبي: نزل ذلك في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسُمية وبلال وصهيب وخبّاب، أظهروا الكفر بالإكراه وقلوبهم مطمئنة بالإيمان.
ثم قال تعالى: {ولكن من شرح بالكُفْر صدرًا} وهم من تقدم ذكرهم، فإذا أكره على الكفر فأظهره بلسانه وهو معتقد الإيمان بقلبه ليدفع عن نفسه بما أظهر، ويحفظ دينه بما أضمر فهو على إيمانه، ولو لم يضمره لكان كافرًا.
وقال بعض المتكلمين: إنما يجوز للمكرَه إظهارُ الكفر عل وجه التعريض دون التصريح الباتّ. لقبح التصريح بالتكذيب وخطره في العرف والشرع، كقوله إن محمدًا كاذب في اعتقادكم، أو يشير لغيره ممن يوافق اسمه لاسمه إذا عرف منه الكذب، وهذا لعمري أولى الأمرين، ولم يَصِرِ المكرَه بالتصريح كافر. اهـ.

.قال ابن عطية:

{مَن كَفَرَ بالله}.
و{من} في قوله: {من كفر} بدل من قوله: {هم الكاذبون} ولم يجز الزجاج غير هذا الوجه لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله، والذي أبى الزجاج سائغ على ما أورده الآن إن شاء الله.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يتأكد بما روي من أن قوله: {وأولئك هم الكاذبون} يراد به عبد الله بن أبي سرح ومقيس بن صبابة وأشباههما ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد، فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنون المعذبون بمكة، وهم بلال وعمار وسمية أمه وخباب وصهيب وأشباههم، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة، يعذبونهم ليرتدوا، فربما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول، يروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده، ثم ابتدأ الإخبار: أن من شرح صدرًا بالكفر فعليهم، وهذا الضمير على معنى من لا على لفظها.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا من الاعتراض أن أمر ابن أبي سرح وأولئك إنما كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والظاهر من هذه الآية أنها مكية وقالت فرقة {من} في قوله: {من كفر} ابتداء، وقوله: {من شرح} تخصيص منه، ودخل الاستثناء لما ذكرنا من إخراج عمار وشبهه، وردنا من الاستثناء إلى المعنى الأول الاستدراك ب {ولكن}، وقوله: {فعليهم} خبر {من} الأولى والثانية، إذ هو واحد بالمعنى، لأن الإخبار في قوله: {من كفر} إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر، و{صدرًا} نصب على التمييز، وقوله: {شرح بالكفر صدرًا} معناه انبسط إلى الكفر باختباره، ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب، وما سامع به من القول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف تجد قلبك؟ قال: أجده مطمئنًا بالإيمان، قال فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وإن عادوا فعد.
قال القاضي أبو محمد: ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه؛ أما من عذبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه، وكان العذاب يؤدي إلى قتله فله الإجابة باللسان، قوْلًا واحدًا فيما أحفظ، فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك ففي هذا اختلاف، فقالت فرقة هي الجمهور: يجيب بحسب التقية، وقالت فرقة: لا يجيب ويسلم نفسه، وقالت فرقة: إن كان السجود نحو القبلة أجاب، واعتقد السجود لله.
قال القاضي أبو محمد: وما أحراه أن يسجد لله حينئذ حيثما توجه، وهذا مباح في السفر لتعب النزول عن الدابة في التنفل، فكيف لهذا، وإذا احتجت فرقة المنع بقول ابن مسعود: ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلمًا به، فقصر الرحمة على القول، ولم يذكر الفعل.
قال القاضي أبو محمد: وليس هذا بحجة لأنه يحتمل أن جعل الكلام مثالًا وهو يريد أن الفعل في حكمه، فأما الإكراه على البيع والإيمان والطلاق والعتق والفطر في رمضان وشرب الخمر ونحو هذا من المعاصي التي بين العبد والله عز وجل، فلا يلزم المكره شيء من ذلك، قاله مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ، وروياه عن ابن القاسم عن مالك، وفرق ابن عباس بين ما هنا قول كالعتق والطلاق فجعل فيها التقية، وقال: لا تقية فيما كان فعلًا كشرب الخمر والفطر في رمضان، ولا يحل فعلها لمكره، فأما المظلوم يضغط حتى يبيع متاعه فذلك بيع لا يجوز عليه، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم، فإن أفات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه، قال مطرف: ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وأما من لا يعلم فلا يضمن العروض والحيوان وإنما يضمن ما كان تلفه بسببه مثل طعام أكله أو ثوب لبسه، والغلة إذا علم أو لم يعلم ليست له بحال، هو لها ضامن كالغاصب، وقاله أصبغ وابن عبد الحكم، قال مطرف: وكل ما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه، وأما الإكراه على قتل مسلم أو جلده أو أخذ ماله أو بيع متاعه فلا عذر فيه، ولا استكراه في ركوب معصية تنتهك مثل حد كالزنا والقتل أو نحوه، قال مطرف وأصبغ وابن عبد الحكم: لا يفعل أحد ذلك وإن قتل إن لم يفعله، فإن فعل فهو آثم، ويلزمه الحد والقود، قال مالك: والقيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإِنقاذه لما يتوعد.