فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذهب مالك إلى أن من أكره على يمين بوعيد أو سجن أو ضرب أنه يحلف ولا حنث عليه؛ وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثَوْر وأكثر العلماء.
الموفية عشرين ومن هذا الباب ما ثبت إن من المعاريض لمندوحةً عن الكذب.
وروى الأعمش عن إبراهيم النَّخَعِيّ أنه قال: لا بأس إذا بلغ الرجلَ عنك شيء أن تقول: والله، إن الله يعلم ما قلتُ فيك من ذلك من شيء.
قال عبد الملك بن حبيب: معناه أن الله يعلم أن الذي قلت، وهو في ظاهره انتفاء من القول، ولا حنث على من قال ذلك في يمينه ولا كذب عليه في كلامه.
وقال النخعِيّ: كان لهم كلام من ألغاز الأيمان يدرءون به عن أنفسهم، لا يرون ذلك من الكذب ولا يخشون فيه الحنث.
قال عبد الملك: وكانوا يسمون ذلك المعاريض من الكلام، إذا كان ذلك في غير مكر ولا خديعة في حق.
وقال الأعمش: كان إبراهيم النخعي إذا أتاه أحد يكره الخروج إليه جلس في مسجد بيته وقال لجاريته: قولي له هو والله في المسجد.
وروى مغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز للرجل من البَعْث إذا عُرضوا على أميرهم أن يقول: والله ما أهتدي إلا ما سدّد لي غيري، ولا أركب إلا ما حملني غيري؛ ونحو هذا من الكلام.
قال عبد الملك: يعني بقوله غيري اللَّهَ تعالى، هو مسدّده وهو يحمله؛ فلم يكونوا يرون على الرجل في هذا حنثا في يمينه، ولا كذبًا في كلامه، وكانوا يكرهون أن يقال هذا في خديعة وظلم وجُحدان حق فمن اجترأ وفعل أثم في خديعته ولم تجب عليه كفارة في يمينه.
الحادية والعشرون قوله تعالى: {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي وسّعه لقبول الكفر، ولا يقدر أحد على ذلك إلا الله؛ فهو يرد على القدرية.
و{صدرا} نصب على المفعول.
{فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذاب جهنم.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)}.
قوله تعالى: {ذلك} أي ذلك الغضب.
{بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا} أي أختاروها على الآخرة.
{وَأَنَّ الله} {أنّ} في موضع خفض عطفا على {بأنهم}.
{لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} ثم وصفهم فقال: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} أي عن فهم المواعظ.
{وَسَمْعِهِمْ} عن كلام الله تعالى.
{وَأَبْصَارِهِمْ} عن النظر في الآيات.
{وأولئك هُمُ الغافلون} عما يراد بهم.
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} تقدّم.
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ}.
هذا كله في عَمّار.
والمعنى وصبروا على الجهاد؛ ذكره النحاس.
وقال قتادة: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين إلى المدينة بعد أن فتنهم المشركون وعذبوهم، وقد تقدّم ذكرهم في هذه السورة.
وقيل: نزلت في ابن أبي سَرْح، وكان قد ارتد ولحق بالمشركين فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة، فاستجار بعثمان فأجاره النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ذكره النسائي عن عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره إلى قوله ولهم عذاب عظيم} فنسخ، واستثنى من ذلك فقال: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فُتِنُوا ثم جاهدوا وصَبَروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي كان على مصر، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به أن يقتل يوم الفتح؛ فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}.
نزلت في عمار بن ياسر وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية وصهيبًا وبلالًا وخبابًا وسالمًا فعذبوهم ليرجعوا عن الإسلام فأما سمية أم عمار فإنها ربطت بين بعيرين ووجىء قلبها بحربة، فقتلت، وقتل زوجها ياسر فهما أول قتيلين قتلا في الإسلام وأما عمار فإنه أعطاهم بعض ما أرادوا بلسانه مكرهًا.
قال قتادة أخذ بنو المغيرة عمار وغطوه في بئر ميمون وقالوا له: اكفر بمحمد فبايعهم على ذلك وقلبه كاره، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمارًا كفر.
فقال «كلا إن عمارًا مليء إيمانًا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك قال: شر يا رسول الله نلت منك وذكرت فقال: كيف وجدت قلبك قال: مطمئنًا بالإيمان فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» فنزلت هذه الآية.
وقال مجاهد: نزلت في أناس من أهل مكة آمنوا فكتب إليهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن هاجروا إلينا فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم عن دينهم فكفروا كارهين، وهذا القول ضعيف لأن الآية مكية وكان هذا في أول الإسلام قبل أن يؤمروا بالهجرة، وقال مقاتل: نزلت في جبر مولى عامر ابن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر، فكفر مكرهًا وقلبه مطمئن بالإيمان ثم أسلم عامر بن الحضرمي مولى جبر، وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة والأولى أن يقال إن الآية عامة في كل من أكره على الكفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، وإن كان السبب خاصًا.
فإن قلت: المكره على الكفر ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر، فما معنى هذا الاستثناء لهذه المشابهة والمشاكلة والله أعلم.

.فصل في حكم الآية:

قال العلماء: يجب أن يكون الإكراه الذي يجوز له أن يتلفظ معه بكلمة الكفر أن يعذب بعذاب لا طاقة له به، مثل التخويف بالقتل والضرب الشديد والإيلامات القوية، مثل التحريق بالنار ونحوه.
قال العلماء: أول من أظهر الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة: أبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وأبوه ياسر وأمه سمية فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله من أذى المشركين بعمه أبي طالب وأما أبو بكر، فمنعه قومه وعشيرته وأخذ الآخرون، وألبسوا أدراع الحديد وأجلسوا في حر الشمس بمكة، فأما بلال فكانوا يعذبونه وهو يقول أحد أحد حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه وقتل ياسر وسمية كما تقدم.
وقال خباب: لقد أوقدوا لي نارًا ما أطفأها إلا ودك ظهري.
وأجمعوا على أن من أكره على الكفر لا يجوز له أن يتلفظ بكلمة تصريحًا بل يأتي بالمعاريض، وبما يوهم أنه كفر، فلو أكره على التصريح يباح له ذلك بشرط طمأنينة القلب على الإيمان غير معتقد، ما يقوله من كلمة الكفر ولو صبر حتى قتل كان أفضل لأن ياسرًا وسمية قتلا ولم يتلفظا بكملة الكفر، ولأن بلالًا صبر على العذاب ولم يلم على ذلك.
قال العلماء: من الأفعال ما يتصور الإكراه عليها كشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، والميتة ونحوها فمن أكره بالسيف أو القتل على أن يشرب الخمر أو يأكل الميتة أو لحم الخنزير أو نحوها، جاز له ذلك لقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وقيل: لا يجوز له ذلك ولو صبر كان أفضل، ومن الأفعال ما لا يتصور الإكراه عليه كالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد، وذلك يمنع انتشار الآلة فلا يتصور فيه الإكراه واختلف العلماء في طلاق المكره، فقال الشافعي رضي الله تعالى عنه واكثر العلماء: لا يقع طلاق المكره.
وقال أبو حنيفة: يقع.
حجة الشافعي ومن وافقه قوله سبحانه وتعالى: {لا إكراه في الدين} ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته، لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره والمعنى أنه لا أثر له ولا عبرة به، وقوله تعالى: {وقلبه مطمئن بالإيمان} فيه دليل على أن محل الإيمان هو القلب {ولكن من شرح بالكفر صدرًا} يعني فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به {فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} يعني في الآخرة {ذلك بأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة} يعني يكون ذلك الإقدام على الارتداد إلى الكفر، لأجل أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة {وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} يعني لا يرشدهم إلى الإيمان ولا يوفقهم للعمل به {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم} تقدم تفسيره {وأولئك هم الغافلون} يعني عما يراد بهم من العذاب في الآخرة وهو قوله سبحانه وتعالى: {لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} يعني أن الإنسان إنما يعمل في الدنيا، ليربح في الآخرة فإذا دخل النار بان خسرانه وظهر غبنه لأنه ضيع رأس ماله، وهو الإيمان ومن ضيع رأس ماله فهو خاسر.
قوله: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} يعني عذبوا ومنعوا من الدخول في الإسلام فتنهم المشركون {ثم جاهدوا وصبروا} على الإيمان والهجرة والجهاد {إن ربك من بعدها} يعني من بعد الفتنة التي فتنوها {لغفور رحيم} نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة وكان أخا أبي جهل من الرضاعة، وقيل كان أخاه لأمه وفي أبي جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام وعبد الله ابن أسد الثقفي فتنهم المشركون، وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا.
وقال الحسن وعكرمة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرح كان قد أسلم، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستنزله الشيطان، فارتد ولحق بدار الحرب فلما كان يوم فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجاره عثمان، وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه وهذا القول إنما يصح إذا قلنا: إن هذه الآية مدنية نزلت بالمدينة فتكون من الآيات المدنيات في السور المكيات، والله أعلم بحقيقة ذلك. اهـ.

.قال أبو حيان:

{مَن كَفَرَ بالله}.
ولما كان الكفر يكون باللفظ وبالاعتقاد، استثنى من الكافرين من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان، ورخص له في النطق بكلمة الكفر إذ كان قلبه مؤمنًا، وذلك مع الإكراه.
والمعنى: إلا من أكره على الكفر، تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعده عليه تقديره: الكافرون بعد الإيمان غير المكرهين، فعليهم غضب.
ويصح أن يكون الاستثناء من ما تضمنه جواب الشرط المحذوف أي: فعليهم غضب، إلا من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب، ولكنْ من شرح وكذا قدره الزمخشري أعني الجواب قبل الاستثناء في قول مَن جعل مَن شرطًا.
وقال ابن عطية: وقالت فرقة مَن في قوله مَن كفر ابتداء، وقوله: {من شرح} تخصيص منه، ودخل الاستثناء لإخراج عمار وشبهه.
ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن وقوله: {فعليهم} خبر عن مَن الأولى والثانية، إذ هو واحد بالمعنى لأن الإخبار في قوله: {من كفر} إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر انتهى.
وهذا وإن كان كما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك، فلابد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لا يشتركان فيه، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب.
وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله: {فسلام لك من أصحاب اليمين} وقوله: {فروح وريحان} جواب لأما، ولأنّ هذا وهما أداتا شرط، إحداهما تلي الأخرى، وعلى كون مَن في موضع رفع على الابتداء، يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا، ويجوز أن تكون موصولة وما بعدها صلتها، والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه، كما ذكرنا في حذف جواب الشرط.
إلا أنْ من الثانية لا يجوز أنْ تكون شرطًا حتى يقدر قبلها مبتدأ لأنّ من وليت لكنْ فيتعين إذ ذاك أن تكون مَن موصولة، فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله:
ولكن متى يسترقد القوم أرفد

أي: ولكن أنا متى يسترقد القوم أرقد.
وكذلك تقدر هنا، ولكن هم من شرح بالكفر صدرًا أي: منهم.
وأجاز الحوفي والزمخشري: أن تكون بدلًا من الذين لا يؤمنون، ومن الكاذبون.
ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلًا من الكاذبون، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام، فعلقه بما قبله.
وأجاز الزمخشري أن يكون بدلًا من أولئك، فإذا كان بدلًا من الذين لا يؤمنون فيكون قوله: {وأولئك هم الكاذبون} جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء.
وإذا كان بدلًا من الكاذبون فالتقدير: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه، وإذا كان بدلًا من أولئك فالتقدير: ومَن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون.
وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة.
لأنّ الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أنّ من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب.
وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك، إذ التقدير: وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون.
وأما الثالث فكذلك.
إذ التقدير: أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون.
وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى.
وهذا أيضًا بعيد، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى.
والمناسبة وفي قوله: {إلا من أكره} دليل على أنّ من فعل المكره لا يترتب عليه شيء، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر أو فعل ما يؤدي إليه، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى.