فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في إدعائه أن قوله تعالى: {فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} [الواقعة: 91]، وقوله سبحانه: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89]. جواب لأما ولأن هذا وهمًا أداتا شرط تلي إحداهما الأخرى، ويبعد بهذا عندي جعله خبرًا لهما على تقدير الموصولية والاستدراك من الإكراه على ما قيل؛ ووجه بأن قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} يوهم أن المكره مطلقًا مستثنى مما تقدم، وقوله سبحانه: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} لا ينفي ذلك الوهم فاحتيج إلى الاستدراك لدفعه وفيه بحث ظاهر، وقيل: المراد مجرد التأكيد كما في نحو قولك: لو جاء زيد لأكرمتك لكنه لم يجىء.
وأنت تعلم ما في ذلك فتأمل جدًا، وتنوين {غَضَبَ} للتعظيم أي غضب عظيم لا يكتنه كنهه كائن {مِنَ الله} جل جلاله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} لعظم جرمهم فجوزوا من جنس عملهم، وفي اختيار الاسم الجليل من تربية المهابة وتقوية وتعظيم العذاب ما فيه، والجمع في الضميرين المجرورين لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد في المستكن في الصلة لرعاية جانب اللفظ.
روي أن قريشًا أكرهوا عماراف وأبويه ياسرًا وسمية على الارتداد فأبوا فربطوا سمية بين بعيرين ووجىء بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسرًا وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه فقيل يا رسول الله إن عمارًا كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا إن عمارًا ملىء إيمانًا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه» فأتى عمار رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: «مالك إن عادوا فعد لهم بما قلت»، وفي رواية أنهم أخذوه فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «ما وراءك؟» قال: شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئن بالإيمان قال صلى الله عليه وسلم «إن عادوا فعد» فنزلت هذه الآية، وكأن الأمر بالعود في الرواية الأولى للترخيص بناء على ما قال النسفي أنه أدنى مراتبه وكذا الأمر في الرواية الثانية أن اعتبر مقيدًا بما قيد به في الرواية الأولى، وأما إن اعتبر مقيدًا بطمأنينة القلب كما في الهداية أي عد إلى جعلها نصب عينيك وأثبت عليها فالأمر للوجوب، والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازًا للدين ولو تيقن القتل كما فعل ياسر وسمية وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة بل هو كالقتل في الغزو كما صرحوا به.
وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وعبد الرازق في تفسيره عن معمر أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله قال: فما تقول في؟ فقال: أنا أصم فأعاد عليه ثلاثًا فأعاد ذلك في جوابه فقتله فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئًا له.
وفي أحكام الجصاص أنه يجب على المكره على الكفر إخطار أنه لا يريده فإن لم يخطر بباله ذلك كفر.
وفي شرح المنهاج لابن حجر لا توجد ردة مكره على مكفر قلبه مطمئن بالإيمان للآية، وكذا إن تجرد قلبه عنهما فيما يتجه ترجيحه لإطلاقهم أن المكره لا يلزمه التورية فافهم، وقال القاضي: يجب على المكره تعريض النفس للقتل ولا يباح له التلفظ بالكفر لأنه كذب وهو قبيح لذاته فيقبح على كل حال ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله سبحانه الكذب لها وحينئذٍ لا يبقى وثوق بوعده تعالى ووعيده لاحتمال أنه سبحانه فعل الكذب لرعاية المصلحة التي لا يعلمها إلا هو، ورده ظاهر، وهذا الخلاف فيما إذا تعين على المكره إما التزام الكذب وإما تعريض النفس للتلف وإلا فمتى أمكنه نحو التعريض أو إخراج الكلام على نية الاستفهام الإنكاري لم يجب عليه تعريض النفس لذلك إجماعًا.
واستدل بإباحة التلفظ بالكفر عند الإكراه على إباحة سائر المعاصي عنده أيضًا وفيه بحث، فقد ذكر الإمام أن من المعاصي ما يجب فعله عند الإكراه كشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير فإن حفظ النفس عن الفوات واجب فحيث تعين الأكل سبيلًا ولا ضرر فيه لحيوان ولا إهانة لحق الله تعالى وجب لقوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195]، ومنها ما يحرم كقتل إنسان محترم أو قطع عضو من أعضائه وفي وجوب القصاص على المكره قولان للشافعي عليه الرحمة، وذكر أن من الأفعال ما لا يقبل الإكراه ومثل بالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة فحيث دل الزنا في الوجود علمنا أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)}.
{ذلك} إشارة إلى الكفر بعد الإيمان أو الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106]. أو المذكور من الغضب والعذاب {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أن الشارحين صدورهم بالكفر {استحبوا الحياة الدنيا} أي آثروها وقدموها ولتضمن الاستحباب معنى الإيثار قيل {على الآخرة} فعدى بعلى، والمراد على ما في البحر أنهم فعلوا فعل المستحبين ذلك وإلا فهم غير مصدقين بالآخرة.
{وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى} إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثبات عليه، وقيل: إلى الجنة.
ورده الإمام وفسر بعضهم الهداية المنفية بهداية القسر أي لا يهدي هداية قسر وإلجاء ونسب إلى المعتزلة {القوم الكافرين} أي في علمه تعالى المحيط فلا يعصمهم تعالى عن الزيغ وما يؤدي إليه من الغضب والعذاب، ولولا أحد الأمرين إما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدم هداية الله تعالى إياهم بأن آثروا الآخرة على الدنيا أو بأن هداهم الله سبحانه لما كان ذلك لكن كلاهما لا يكون لأنه خلاف ما في العلم بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وقال البعض: لكن الثاني مخالف للحكمة والأول مما لا يدخل تحت الوقوع وإليه الإشارة بقوله سبحانه: {أولئك} أي الموصوفون بما ذكر {الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم} فلم تفتح لإدراك الحق واكتساب ما يوصل إليه، واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب، وقال: إن قوله تعالى: {استحبوا} [النحل: 107]. إشارة إلى الكسب {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} [النحل: 107]. إشارة إلى الاختراع فجمعت الآية الأمرين وذلك عقيدة أهل السنة فافهم، وقد تقدم للكلام على الطبع {وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون} أي الكاملون في الغفلة إذ لا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر العواقب والنظر في المصالح، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: غافلون عما يراد منهم في الآخرة.
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الخاسرون} إذ ضيعوا رؤوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما لا يفضي إلا إلى العذاب المخلد ولله تعالى من قال:
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ** عليه من الإنفاق في غير واجب

ووقع في آية أخرى {الاخسرون} [هود: 22]، وذلك لاقتضاء المقام على ما لا يخفى على الناظر فيه أو لأنه وقع في الفواصل هنا اعتماد الألف كالكافرين والغافلين فعبر به لرعاية ذلك وهو أمر سهل، وتقدم الكلام في {لاَ جَرَمَ} فتذكره فما في العهد من قدم.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا}.
إلى دار الإسلام وهم عمار وأضرابه أي لهم بالولاية والنصر لا عليهم كما يقتضيه ظاهر أعمالهم السابقة فالجار والمجرور في موضع الخبر لإن، وجوز أن يكون خبرها محذوفًا لدلالة خبر إن الثانية عليه، والجار والمجرور متعلق بذلك المحذوف، وقال أبو البقاء: الخبر هو الآتي وإن الثانية واسمها تكرير للتأكيد ولا تطلب خبرًا من حيث الإعراب، والجار والمجرور متعلق بأحد المرفوعين على الأعمال، وقيل: بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل: أعني للذين أي الغفران وليس بشيء، وقيل: لا خبر لأن هذه في اللفظ لأن خبر الثانية أغنى عنه وليس بجيد كما لا يخفى و{ثُمَّ} للدلالة على تباعد رتبة حالهم هذه عن رتبة حالهم التي يفيدها الاستثناء من مجرد الخروج عن حكم الغضب والعذاب لا عن رتبة حال الكفرة {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أي عذبوا على الارتداد، وأصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ثم تجوز به عن البلاء وتعذيب الإنسان.
وقرأ ابن عامر: {فَتَنُواْ} مبنيًا للفاعل، وهو ضمير المشركين عند غير واحد أي عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبرًا حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا أو وقعوا في الفتينة فإن فتن جاء متعديًا ولازمًا وتستعمل الفتنة فيما يحصل عنه العذاب.
وقال أبو حيان: الظاهر أن الضمير عائد على {الذين} والمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار أو كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم عذبوا أنفسهم {فُتِنُواْ ثُمَّ جاهدوا} الكفار {وَصَبَرُواْ} على مشاق الجهاد أو على ما أصابهم من المشاق مطلقًا {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي المذكورات من الفتنة والهجرة والجهاد والصبر، وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة.
وجوز أن يكون الضمير للفتنة المفهومة من الفعل السابق ويكون ما ذكر بيانًا لعدم إخلال ذلك بالحكم، وقال ابن عطية: يجوز أن يكون للتوبة والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح {لَغَفُورٌ} لما فعلوا من قبل {رَّحِيمٌ} ينعم عليهم مجازاة لما صنعوا من بعد، وفي التعرض لعنوان الربوبية في الموضعين إيماء إلى علة الحكم وما في إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام مع ظهور الأثر في الطائفة المذكورة إظهار لكمال اللطف به صلى الله عليه وسلم بأن إفاضة آثار الربوبية عليهم من المغفرة والرحمة بواسطته عليه الصلاة والسلام ولكونهم أتباعًا له.
هذا وكون الآية في عمار واضرابه رضي الله تعالى عنهم مما ذكره غير واحد، وصرح ابن إسحاق بأنها نزلت فيه وفي عياش بن أبي ربيعة والوليد بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد، وتعقبه ابن عطية بأن ذكر عمار في ذلك غير قويم فإنه أرفع طبقة هؤلاء، وهؤلاء ممن شرح بالكفر صدرًا فتح الله تعالى لهم باب التوبة في آخر الآية، وذكر أن الآية مدنية وأنه لا يعلم في ذلك خلافًا، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة إن الله تعالى قد جعل لكم مخرجًا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، وأخرج ذلك ابن مردويه، وفي رواية أنهم خرجوا واتبعوا وقاتلوا فنزلت، وأخرج هذا ابن المنذر وغيره عن قتادة، فالمراد بالجهاد قتالهم لمتبعيهم، وأخرج ابن جرير عن الحسن وعكرمة أنها نزلت في عبد الله ابن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل يوم فتح مكة فاستجار له عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد نزلت فيه وفي أشباهه كما صرح به في بعض الروايات، وفسروا {فَتَنُواْ} على هذا بفتنهم الشيطان وأزلهم حتى ارتدوا باختيارهم، وما ذكره ابن عطية فيمن ذكر مع عمار غير مسلم، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشًا رضي الله تعالى عنه كان أخًا أبي جهل لأمه وكان يضربه سوطًا وراحلته سوطًا ليرتد عن الإسلام.
وفي التفسير الخازني أن عياشًا- وكان أخًا أبي جهل من الرضاعة، وقيل: لأمه- وأبا جندل بن سهل بن عمرو وسلمة بن هشام والوليد بن المغيرة وعبد الله بن سلمة الثقفي فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا والآية نزلت فيهم، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.
لما سبق التّحذير من نقض عهد الله الذي عاهدوه، وأن لا يغرّهم ما لأمّة المشركين من السّعة والرُبُو، والتحذير من زَلل القدم بعد ثبوتها، وبشروا بالوعد بحياة طيبة، وجزاء أعمالهم الصالحة من الإشارة إلى التّمسك بالقرآن والاهتداء به، وأن لا تغرّهم شُبه المشركين وفتونهم في تكذيب القرآن، عقب ذلك بالوعيد على الكفر بعد الإيمان، فالكلام استئناف ابتدائي.
ومناسبة الانتقال أن المشركين كانوا يحاولون فتنة الراغبين في الإسلام والذين أسلموا، فلذلك ردّ عليهم بقوله: {قل نزّله روح القدس} إلى قوله: {ليثبّت الذين آمنوا} [سورة النحل: 102]، وكانوا يقولون: {إنما يعلمه بشر} [سورة النحل: 103]. فردّ عليهم بقوله: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي} [سورة النحل: 103].
وكان الغلام الذي عنوه بقولهم {إنما يعلمه بشر} قد أسلم ثم فتنهُ المشركون فكفر، وهو جَبر مولى عامر بن الحَضرمي.
وكانوا راودوا نفرًا من المسلمين على الارتداد، منهم: بلال، وخَبّاب بن الأرتّ، وياسر، وسُميّةُ أبَوَا عمار بن ياسر، وعمّارٌ ابنهما، فثبتوا على الإسلام.
وفتنوا عمارًا فأظهر لهم الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
وفتنوا نفرًا آخرين فكفروا، وذُكر منهم الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبّه بن الحجّاج، وأحسب أن هؤلاء هم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} في سورة العنكبوت (10)، فكان مِن هذه المناسبة ردّ لعجز الكلام على صدره.
على أن مضمون {من كفر بالله من بعد إيمانه} مقابل لمضمون {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} [سورة النحل: 97]، فحصل الترهيب بعد الترغيب، كما ابتدىء بالتحذير تحفّظًا على الصالح من الفساد، ثم أعيد الكلام بإصلاح الذين اعتراهم الفساد، وفُتح باب الرخصة للمحَافظين على صلاحهم بقدر الإمكان.
واعلم أن الآية إن كانت تشير إلى نفَر كفروا بعد إسلامهم كانت مَن موصولة وهي مبتدأ والخبر {فعليهم غضب من الله}.
وقرن الخبر بالفاء لأن في المبتدإ شبهًا بأداة الشرط.
وقد يعامل الموصول معاملة الشرط، ووقع في القرآن في غير موضع.
ومنه قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم} [سورة البروج: 10]، وقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} إلى قوله: {فبشّرهم بعذاب أليم} في سورة براءة (34).
وقيل إن فريقًا كفروا بعد إسلامهم، كما رُوي في شأن جبر غلام ابن الحَضرمي.
وهذا الوجه أليق بقوله تعالى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} [سورة النحل: 108]. الآية.
وإن كان ذلك لم يقع فالآية مجرّد تحذير للمسلمين من العود إلى الكفر، ولذلك تكون {مَن} شرطية، والشرط غير مراد به معيّن بل هو تحذير، أي مَن يَكْفروا بالله، لأن الماضي في الشرط ينقلب إلى معنى المضارع، ويكون قوله: {فعليهم غضب من الله} جوابًا.