فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والتّحذير حاصل على كلا المعنيين.
وأما قوله: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} فهو ترخيص ومعذرة لِمَا صدر من عمار بن ياسر وأمثالِه إذا اشتدّ عليهم عذاب من فتنوهم.
وقوله: {إلا من أكره} استثناء من عموم {من كفر} لئلا يقع حكم الشرط عليه، أي إلا مَن أكرهه المشركون على الكفر، أي على إظهاره فأظهره بالقول لكنه لم يتغير اعتقاده.
وهذا فريق رخّص الله لهم ذلك كما سيأتي.
ومصحّح الاستثناء هو أن الذي قال قول الكفّار قد كفر بلفظه.
والاستدراك بقوله: {ولكن من شرح بالكفر صدرًا} استدراك على الاستثناء، وهو احتراس من أن يفهم من الاستثناء أن المكره مرخّص له أن ينسلخ عن الإيمان من قلبه.
و{من شرح} معطوف بـ {لكن} على {من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}، لأنه في معنى المنفي لوقوعه عقب الاستثناء من المثبت، فحرف لكن عاطف ولا عبرة بوجود الواو على التحقيق.
واختير {فعليهم غضب} دون نحو: فقد غضب الله عليهم، لما تدلّ عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات، أي غضب لا مغفرة معه.
وتقديم الخبر المجرور على المبتدإ للاهتمام بأمرهم، فقدّم ما يدلّ عليهم، ولتصحيح الإتيان بالمبتدإ نكرة حين قصد بالتّنكير التعظيم، أي غضب عظيم، فاكتفي بالتنكير عن الصفة.
وأما تقديم {لهم} على {عذاب عظيم} فللاهتمام.
والإكراه: الإلجاء إلى فعل ما يُكْرَه فِعلُه.
وإنما يكون ذلك بفعل شيء تضيق عن تحمّله طاقة الإنسان من إيلام بالغ أو سجن أو قيد أو نحوه.
وقد رخّصت هذه الآية للمكره على إظهار الكفر أن يظهره بشيء من مظاهره التي يطلق عليها أنها كفر في عرف الناس من قول أو فعل.
وقد أجمع علماء الإسلام على الأخذ بذلك في أقوال الكفر، فقالوا: فمن أكره على الكفر غير جارية عليه أحكام الكفر، لأن الإكراه قرينة على أن كفره تقية ومصانعة بعد أن كان مسلمًا.
وقد رخّص الله ذلك رفقًا بعباده واعتبارًا للأشياء بغاياتها ومقاصدها.
وفي الحديث: أن ذلك وقع لعمار بن ياسر، وأنه ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فصوّبه وقال له: «وإن عادوا لك فعُد».
وأجمع على ذلك العلماء.
وشذّ محمد بن الحسن فأجرى على هذا التظاهر بالكفر حكمَ الكفّار في الظاهر كالمرتدّ فيستتاب عن المِكنة منه.
وسوّى جمهور العلماء بين أقوال الكفر وأفعاله كالسجود للصنم.
وقالت طائفة: إن الإكراه على أفعال الكفر لا يبيحها.
ونُسب إلى الأوزاعي وسحنون والحسن البصري، وهي تفرقة غير واضحة.
وقد ناط الله الرخصة باطمئنان القلب بالإيمان وغفر ما سوّل القلب.
وإذا كان الإكراه موجب الرخصة في إظهار الكفر فهو في غير الكفر من المعاصي أولى كشرب الخمر والزنا، وفي رفع أسباب المؤاخذة في غير الاعتداء على الغير كالإكراه على الطلاق أو البيع.
وأما في الاهتداء على الناس من ترتّب الغُرْم فبين مراتب الإكراه ومراتب الاعتداء المكره عليه تفاوت، وأعلاها الإكراه على قتل نفس.
وهذا يظهر أنه لا يبيح الإقدام على القتل لأن التوعّد قد لا يتحقق وتفوت نفس القتيل.
على أن أنواعًا من الاعتداء قد يُجعل الإكراه ذريعة إلى ارتكابها بتواطوء بين المكرِه والمكرَه.
ولهذا كان للمكره بالكسر جانب من النظر في حمل التبعة عليه.
وهذه الآية لم تتعرّض لغير مؤاخذة الله تعالى في حقّه المحض وما دون ذلك فهو مجال الاجتهاد.
والخلاف في طلاق المكره معلوم، والتفاصيل والتفاريع مذكورة في كتب الفروع وبعض التفاسير.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)}.
هذه الجملة واقعة موقع التعليل فلذلك فصلت عن التي قبلها، وإشارة ذلك إلى مضمون قوله: {فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [سورة النحل: 106].
وضمير {بأنهم} عائد إلى {من كفر بالله} [سورة النحل: 106]. سواء كان ماصدق {مَن} معيّنًا أو مفروضًا على أحد الوجهين السابقين.
والباء للسببية، فمدخولها سبب.
و{استحبّوا} مبالغة في {أحبوا} مثل استأخر واستكان.
وضمن {استحبّوا} معنى {فضّلوا} فعدي بحرف {على}، أي لأنهم قدّموا نفع الدنيا على نفع الآخرة، لأنهم قد استقر في قلوبهم أحقّية الإسلام وما رجعوا عنه إلا خوفَ الفتنة أو رغبة في رفاهية العيش، فيكون كفرهم أشدّ من كفر المستصحبين للكفر من قبل البعثة.
{وأن الله لا يهدى القوم الكافرين} سبب ثَان للغضب والعذاب، أي وبأن الله حرمهم الهداية فهم موافونه على الكفر.
وقد تقدم تفسير ذلك عند قوله تعالى: {إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله} [سورة النحل: 104].
وهو تذييل لِما في صيغة {القوم الكافرين} من العموم الشامل للمتحدّث عنهم وغيرهم، فليس ذلك إظهارًا في مقام الإضمار ولكنه عموم بعد خصوص.
وإقحام لفظ {قوم} للدّلالة على أن من كان هذا شأنهم فقد عرفوا به وتمكّن منهم وصار سجيّة حتى كأنهم يجمعهم هذا الوصفُ.
وقد تقدّم أن جريان وصف أو خبر على لفظ {قوم} يؤذن بأنه من مقوّمات قوميتهم كما في قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164)، وقوله تعالى: {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} في سورة يونس (101).
{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}.
جملة مبيّنة لجملة {وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} [سورة النحل: 107]. بأن حرمانهم الهداية بحرمانهم الانتفاع بوسائلها: من النظر الصادق في دلائل الوحدانية، ومن الوعي لدعوة الرسول والقرآن المنزّل عليه، ومن ثبات القلب على حفظ ما داخله من الإيمان، حيث انسلخوا منه بعد أن تلبّسوا به.
وافتتاح الجملة باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز تبيينًا لمعنى الصّلة المتقدمة، وهي اتصافهم بالارتداد إلى الكفر بعد الإيمان بالقول والاعتقاد.
وأخبر عن اسم الإشارة بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الحكم المبين بهذه الجملة.
وهو مضمون جملة {فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل: 106].
والطّبع: مستعار لمنع وصول الإيمان وأدِلّته، على طريقة تشبيه المعقول بالمحسوس.
وقد تقدّم مفصّلًا عند قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} في سورة البقرة (7).
وجملة {وأولئك هم الغافلون} تكملة للبيان، أي الغافلون الأكملون في الغفلة، لأن الغافل البالغ الغاية ينافي حالة الاهتداء.
والقصر قصر موصوف على صفة، وهو حقيقي ادعائي يقصد به المبالغة، لعدم الاعتداد بالغافلين غيرهم، لأنهم بلغوا الغاية في الغفلة حتى عُدّ كل غافلٍ غيرهم كمن ليس بغافل.
ومن هنا جاء معنى الكَمال في الغفلة لا من لام التّعريف.
وجملة {لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} واقعة موقع النتيجة لما قبلها، لأن ما قبلها صار كالدليل على مضمونها، ولذلك افتتحت بكلمة نفي الشكّ.
فإن {لا جَرم} بمعنى {لا محالة} أو {لابُد}.
وقد تقدّم آنفًا في هذه السورة عند قوله تعالى: {لا جرم أن الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون} وتقدم بسط تفسيرها عند قوله تعالى: {لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون} في سورة هود (22).
والمعنى: أن خسارتهم هي الخسارة، لأنهم أضاعوا النعيم إضاعة أبدية.
ويجري هذا المعنى على كلا الوجهين المتقدّمين في ما صْدق {من} من قوله: {من كفر بالله} [سورة النحل: 106]. الآية.
ووقع في سورة هود (22) {هم الأخسرون} ووقع هنا {هم الخاسرون} لأن آية سورة هود (21) تقدّمها {أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}، فكان المقصود بيان أن خسارتهم في الآخرة أشدّ من خسارتهم في الدنيا.
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}.
عطف على جملة من كفر بالله من بعد إيمانه إلى قوله: {هم الخاسرون} [سورة النحل: 106- 109].
و{ثمّ} للترتيب الرتبي، كما هو شأنها في عطفها الجمل.
وذلك أن مضمون هذه الجلة المعطوفة أعظمُ رُتبة من المعطوف عليها، إذ لا أعظم من رضى الله تعالى كما قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [سورة آل عمران: 15].
والمراد {بالذين هاجروا} المهاجرون إلى الحبشة الذين أذِن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة للتخلّص من أذى المشركين.
ولا يستقيم معنى الهجرة هنا إلا لهذه الهجرة إلى أرض الحبشة.
قال ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمّه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملِكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مَخافة الفتنة وفرارًا بدينهم.اهـ.
فإن الله لما ذكر الذين آمنوا وصبروا على الأذى وعذر الذين اتّقوا عذاب الفتنة بأن قالوا كلام الكفر بأفواههم ولكن قلوبهم مطمئنة بالإيمان ذكر فريقًا آخر فازوا بفرار من الفتنة، لئلا يتوهّم متوهّم أن بعدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الشدّة يوهن جامعة المسلمين فاستُوفِيَ ذكر فرق المسلمين كلها.
وقد أومَأ إلى حظّهم من الفضل بقوله: {هاجروا من بعد ما فتنوا}، فسمّى عملهم هِجرة.
وهذا الاسم في مصطلح القرآن يدل على مفارقة الوطن لأجل المحافظة على الدين، كما حكي عن إبراهيم عليه السلام {وقال إني مهاجر إلى ربي} [سورة العنكبوت: 26].
وقال في الأنصار يحبّون من هاجر إليهم، أي المؤمنين الذين فارقوا مكّة.
وسمّى ما لقوه من المشركين فتنة.
والفتنة: العذاب والأذى الشديد المتكرّر الذي لا يترك لمن يقع به صبرًا ولا رأيًا، قال تعالى: {يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم} [سورة الذاريات: 14]، وقال: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} [سورة البروج: 10].
وتقدم بيانها عند قوله تعالى: {والفتنة أشدّ من القتل} في سورة البقرة (191).
أي فقد نالهم الأذى في الله.
والمجاهدة: المقاومة بالجُهد، أي الطاقة.
والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردّوهم إلى الكفر.
وهاتان الآيتان مكّيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين.
والصبر: الثبات على تحمّل المكروه والمشاق، وتقدم في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} في سورة البقرة (45).
وأكّد الخبر بحرف التوكيد وبالتوكيد اللفظي لتحقيق الوعد، والاهتمام يدفع النقيصة عنهم في الفضل.
ويدلّ على ذلك ما في صحيح البخاري: أن أسماء بنت عُميس، وهي ممّن قدم من أرض الحبشة، دخلت على حفصة فدخل عمر عليهما فقال لها: سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول الله منكم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله، كنتم مع النبي يُطعم جائعَكم ويعظ جاهلكم، وكنّا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة ونحن كنا نؤذى ونُخاف، وذلك في الله ورسوله، وأيم الله لا أطعَم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلتَ لرسول الله، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بيتَ حفصة قالت أسماء: يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا، قال: فما قلتتِ له؟ قالت: قلت له كذا وكذا، قال:«ليست بأحقّ بي منكم وله ولأصحابه هِجرة واحدة ولكم أنتم أهلَ السفينة هجرتان».
واللام في قوله: {للذين هاجروا} متعلّق ب{غفور} مقدّم عليه للاهتمام.
وأعيد {إن ربك} ثانيًا لطول الفصل بين اسم {إن} وخبرها المقترن بلام الابتداء مع إفادة التأكيد اللّفظي.
وتعريف المسند إليه الذي هو اسم {إن} بطريق الإضافة دون العلمية لما يُومىء إليه إضافة لفظ {ربّ} إلى ضمير النبي من كون المغفرة والرحمة لأصحابه كانت لأنهم أوذوا لأجل الله ولأجل النبي صلى الله عليه وسلم فكان إسناد المغفرة إلى الله بعنوان كونه ربّ محمد صلى الله عليه وسلم حاصلًا بأسلوب يدلّ على الذّات العليّة وعلى الذّات المحمدية.
وهذا من أدقّ لطائف القرآن في قرن اسم النبي باسم الله بمناسبة هذا الإسناد بخصوصه.
وضمير {من بعدها} عائد إلى الهجرة المستفادة من {هاجروا}، أو إلى المذكورات: من هجرة وفتنة وجهاد وصبر، أو إلى الفتنة المأخوذة من {فتنوا}.
وكل تلك الاحتمالات تشير إلى أن المغفرة والرحمة لهم جزاء على بعض تلك الأفعال أو كلّها.
وقرأ ابن عامر: {فَتَنوا} بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل، وهي لغة في افتتن، بمعنى وقع في الفتنة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.
الحق سبحانه وتعالى سبق وأنْ تحدث عن حكم المؤمنين وحكم الكافرين، ثم تحدّث عن الذين يخلفون العهد ولا يُوفون به، ثم تحدث عن الذين افترَوْا على رسول الله والذين كذَّبوا بآيات الله، وهذه كلها قضايا إيمانية كان لابد أنْ تُثار.
وفي هذه الآية الكريمة يوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن الإيمان ليس مجرد أن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فالقول وحده لا يكفي ولابد وأنْ تشهدَ بذلك، ومعنى تشهد أنْ يُواطِيء القلب واللسان كل منهما الآخر في هذه المقولة.