فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مالك في الصلاة التي يتعوذ فيها وهي قيام رمضان: يتعوذ بعد القراءة واحتج بظاهر الآية، وقد بينّا وجهها، والدليل على أنها قبل القراءة، ماروى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ثمّ يقرأ، وأما الكلام في محل الاستعاذة في الصلاة، فقد قال الشافعي: يقولها في أول الركعة، وقيل: إن قال حيث يفتتح كل ركعة قبل القراءة فحسن ما يقرأ به في شيء من الصلاة كما أمره به في أول ركعة. هذا قول عامة الفقهاء.
وقال ابن سيرين: يتعوذ في كل ركعة قبل القراءة، والصحيح المذهب الأوّل، لأن المروي في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتعوّذ إلاّ في الأولى، وأما صفتها وفي الصلاة فهي أن ينظر فإن كانت صلاة يسرّ فيها بالقراءة أسرّ فيها بالاستعاذة، وإن كانت يجهر فيها بالقراءة:
فقال الشافعي في {الأم}: روي أن أبا هريرة أمّ الناس رافعًا صوته: ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم، وكان ابن عمر يعوذ في نفسه.
قال الشافعي: فإن شاء جهر بها وإن شاء أسرّ بها.
قال الثعلبي: والاختيار الاخفاء ليفرّق بين ما هو قرآن وما هو ليس بقرآن.
فأما لفظة الاستعاذة فالأولى والمستحب أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لنص القرآن والخبر المتصل المتسلسل، وهو أني قرآت على الشيخ أبي الفضل محمّد بن أبي جعفر الخزاعي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في المواضع كلّها فأني قرأت على أبي الحسين عبد الرحمن بن محمّد بالبصرة فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على عبد الله أبي حامد الزنجاني فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على أبي عثمان إسماعيل بن إبراهيم الأهوازي فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على محمّد بن عبد الله بن بسطام فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على روح بن عبد المؤمن فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على يعقوب الحضرمي فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على سلام بن المنذر، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عاصم فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على زر بن حبيش فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عبد الله بن مسعود فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم، فقال لي: «يا ابن أم عبد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرائيل عن القلم عن اللوح المحفوظ».
قال ابن عجلان: وهكذا علمني أخي أحمد، وقال: هكذا علمني أخي، وقال: هكذا علمني وكيع بن الجراح، وقال: هكذا علمني سفيان الثوري.
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} حجة وولاية {على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
قال سفيان: ليس له سلطان أن يحملهم على ذنب لا يغفر.
{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} يطيعونه {والذين هُم بِهِ} أي بالله {مُشْرِكُونَ}.
وقال بعضهم: الكناية راجعة إلى الشيطان، ومجاز الكلام: الذين يسمعون قوله مشركون بالله، وهذا كما يقال: صار فلان بك عالمًا، أي من أجلك وبسببك عالمًا.
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكمًا آخر، {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} فيما يغيّر ويبدل أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما عدّل من أحكامه {قالوا إِنَّمَا أَنتَ} يا محمّد {مُفْتَرٍ} وذلك أن المشركين قالوا: إن محمدًا يسجد بأصحابه يأمرهم اليوم ويأمّرهم غدًا ويأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه.
قال الله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} حقيقة القرآن وبيان الناسخ والمنسوخ من الأحكام {قُلْ نَزَّلَهُ} يعني القرآن {رُوحُ القدس} جبرئيل {مِن رَّبِّكَ بالحق لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ} تثبيتًا للمؤمنين وتقوية لإيمانهم تصديقًا ويقينًا {وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} آدمي وما هو من عند الله، واختلف العلماء في هذا البشر من هو: قال ابن عبّاس: كان قينًا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيًا يسمى اللسان وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج منه فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال عكرمة وقتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرّي غلامًا لبني المغيرة يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب، فقالوا: إنما يعلمه يعيش فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الفراء: قال المشركون إنما يتعلّم محمّد عن مملوك كان لحويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه وكان أعجمي فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرًا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني، يقال له: خير، عبد لبعض بني الحضرمي وكان يقرأ الكتب.
وقال المشركون: والله ما يعلم محمدًا كثيرًا ما يأتي به إلاّ خير النصراني، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال طلحة بن عمر: بلغني أن خديجة رضي الله عنها كانت تختلف إلى خير فكانت قريش تقول: إن عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة، تعلّم محمّدًا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال عبيد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا عبدان من أهل عين التمر. يقال لأحدهما يسار وللآخر خير، وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن بالتوراة والإنجيل، فربما مرَّ بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن فيقف فيسمع.
وقال الضحاك: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آذاه الكفار يقصد إليهما فيستروح بكلامهما، فقال المشركون: إنما يتعلم محمّد منهما، فنزلت هذه الآية.
وقال السدي: كان بمكة رجل نصراني يقال له ابن يسرة يتكلّم بالرومي، فربما يقعد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الكفار: إنما يتعلم محمّد منه، فنزلت هذه الآية.
وروى علي بن الحكم وعبيد بن سليمان عن الضحاك: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} قال: كانوا يقولون: إنما يعلمه سلمان الفارسي، وهذا قول غير مرضي؛ لأن سلمان إنما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهذه الآية مكية.
قال الله تكذيبًا لهم وإلزامًا للحجة عليهم: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} أي يميلون إليه ويشيرون إليه، وخص الكسائي هذا الحرف من بين سائره فقرأ بفتح الياء والحاء؛ لأنه كان يحدّثه عن سفيان عن أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله كذلك.
{أَعْجَمِيٌّ} والفرق بين الأعجمي والعجمي، والعربي والأعرابي: أن الأعجمي لا يفصح وأنه كان نازلًا بالبادية والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحًا، والأعرابي: البدوي، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحًا.
{وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} فصيح، وأراد باللسان القرآن؛ لأن العرب تقول للقصيدة واللغة: لسان، كقول الشاعر:
لسان السوء تهديها إلينا ** وحنت ما حسبتك أن تحينا

يعني باللسان القصيدة والكلمة.
{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثمّ إن الله تعالى بعدما أخبر عن إغراء المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتبين أنهم المفترون دونه، فقال عز من قائل: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وأولئك هُمُ الكاذبون} لا محمدا.
روى يعلي بن الأشدق عن عبد الله بن حماد قال: قلت يارسول الله المؤمن يزني؟ قال: «يكون ذلك قال: قلت: يارسول الله المؤمن يسرق؟ قال: قد يكون ذلك قال: قلت: يارسول الله المؤمن يكذب؟ قال: لا، قال الله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله}».
وروى سهيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر يقول: إيّاكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان. {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ} اختلف النحاة في العامل في {من} في قوله: {من كفر} ومن يؤله ولكن من شرح بالكفر صدرًا.
فقال نحاة الكوفة: جوابهما جميعًا في قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} إنمّا هذان جزءان إن إجتمعا أحدهما منعقد بالآخر فجوابهما واحد، كقول القائل: من يأتنا فمن يحسن نكرمه، بمعنى من يحسن ممن يأتينا نكرمه.
وقال أهل البصرة: بل قوله: {من كفر} مرفوع بالرد على الذي في قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} ومعنى الكلام: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، ثمّ استثنى فقال: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان}.
قال ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في عمار وذلك، أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأُمه سمية وصهيبًا وبلالًا وخبابًا وسالمًا فعذبوهم، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قلبها بحربة، وقيل: لما أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الاسلام رحمة الله ورضوانه عليهما، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهًا.
قال قتادة: أخذ بنو المغيرة عمارًا وغطوه في بئر مصون وقالوا له: أكفر بمحمد ولم يتعمد ذلك وقلبه كان مطمئنًا فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عمارًا كفر. فقال: «كلا إن عمارًا ملىء إيمانًا من قرنه إلى قدمه وإختلط الايمان بلحمه ودمه» فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه، وقال: «مالك إن عادوا لك فعدلهم بما قلت» فأنزل الله هذه الآية.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمّد: إن هاجروا إلينا فإنا لا نرى أنكم منّا حتّى تهاجروا الينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا كارهين.
وروى ابن عون عن محمّد بن سيرين قال: تحدثنا أن هذه الآية نزلت في شأن عياش بن أبي ربيعة، وكان عياش من المهاجرين الأولين وألجأ يضربه أن يكون بلغ مابلغ أصحابه هذه الفعلة، وكان قدم مهاجرًا وكان برًا بأُمه، فحلفت أن لا تأكل خبزًا ولا تستظل بظل حتّى يرجع إليها إبنها قال: فقدم عليه أبو جهل وكان أخاه لأُمه ورجل آخر فأراد أن يرجع معه فقال له أبو جهل: أُمك لو قد جاعت ما أكلت ولو قد شمست. ما أستظلت، فقال ابنها: بلى القاها ثمّ أرجع. فقال: أما إذا أتيت فلا تعطين راحلتك أحدًا، فإنه لا يزال لك من أمرك النصف ما لم تعط راحلتك أحدًا فإنطلق هو وأبو جهل والرجل، فلما كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل: لو تحوّل كل واحد منا على راحلة صاحبه فتحول كل واحد منهم على راحلة صاحبه فساروا، وضربه أبو جهل بالسوط على رأسه وحلّفه باللات والعزى فلم يزل به حتّى أعطاه الذي أراد بلسانه، ثمّ انطلق فرجع، وفيه نزلت هذه الآية {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ}.
وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في جبر مولى عامر بن الحضرمي، أكرهه سيّده على الكفر فكفر مكرهًا وقلبه مطمئن بالايمان، وأسلم مولى جبر وحسُن إسلامه وهاجر خير مع سيده. {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي فتح صدرًا وكفر بالقبول وأتى على اختيار واستحباب {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وفي هذه الآية دليل على أن حقيقة الايمان والكفر تتعلق بالقلب دون اللسان وأن اللسان هو المعبّر والترجمان.
حكم الآية:
إتفق الفقهاء على أن المكره على الكفر، وعلى شتم الرسول صلى الله عليه وسلم والأصحاب وترك الصلاة وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب الشبهات بوعيد متلف أو ضرب شديد لا يحتمله إن له أن يفعل ما أكره عليه، وإن أبى ذلك حتى يغضب في الله فهو أفضل له.
وأما الإكراه على الطلاق فاختلفوا فيه:
فأجاز أهل العراق الطلاق المكره، وكذلك قالوا في الاكراه على النذور والايمان والرجعة ونحوها، رأوا ذلك جائزًا، ورووا في ذلك أحاديثًا واهية الأسانيد.
وأما مالك والأوزاعي والشافعي: فإنهم أبطلوا طلاق المكره وقالوا: لما وجدنا الله سبحانه وتعالى عذر المكره على شيء، ليس وراءه في الشر مذهب وهو الكفر ولم يحكم به مع الإكراه، علمنا أن ما دونه أولى بالبطول وأجرى في العذر.
وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والقاسم بن مخيمرة وعبيد بن عمير، وللشافعي في هذه المقالة مذهب ثالث: وهو أنه أجاز طلاق المكره إذا كان الإكراه من السلطان، ولم يجوّز ذلك إذا كان الاكراه من غير السلطان.
{ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أي طردوا، ومنعوا من الاسلام ففتنهم المشركون {ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ} على الايمان والهجرة والجهاد {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي من بعد تلك الفتنة والفعلة {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخو أبي جهل من الرضاعة، وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثمّ إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وقال الحسن وعكرمة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرخ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فاستزّله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان وكان أخاه لأُمه فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ أسلم وحسن إسلامه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، وأما قوله: {فتنوا} فقرأ عبد الله بن عامر: {فتنوا} بفتح الفاء والتاء، ردّه إلى من أسلم من المشركين الذين فتنوا المسلمين واعتبر بقوله جاهدوا وصبروا فأخبر بالفعل عنهم.
وقرأ الباقون: بضم الفاء وكسر التاء، اعتبارًا بما قبله إلا من أُكره. اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة النحل: آية 90]

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاء ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}.
العدل هو الواجب، لأن اللّه تعالى عدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم واقعًا والحق والسنة أن كل قضاء اللّه عدل، وأن تكليف ما لا يطاق جائز عليه وعدل منه: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} بل التكاليف كلها على خلاف الاستطاعة، على مقتضى توحيد أهل السنة، المعتقدين أن كل موجود بقدرة اللّه تعالى حدث ووجد، لا شريك له في ملكه، وكيف يكون شريكه عبدًا مسخرًا في قبضة ملكه، هذا هو التوحيد المحض.
وإذا كان العبد مكلفا بما هو من فعل اللّه، فهذا عين التكليف بما لا يطاق، ولكن ذلك عدل من اللّه تعالى، وحجته البالغة قائمة على المكلف بما خلقه له من التأتى والتيسر في الأفعال الاختيارية التي هي محال التكاليف، تحت طاقتهم {وَالْإِحْسانِ} الندب، وإنما علق أمره بهما جميعًا، لأنّ الفرض لابد من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب، ولذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- لمن علمه الفرائض فقال: واللّه لا زدت فيها ولا نقصت-: «أفلح إن صدق» فعقد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط وقال صلى اللّه عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا» فما ينبغي أن يترك ما يجبر كسر التفريط ممن النوافل، والفواحش: ما جاوز حدود اللّه وَالْمُنْكَرِ ما تنكره العقول {وَالْبَغْيِ} طلب التطاول بالظلم، وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علي رضي اللّه عنه، أقيمت هذه الآية مقامها، ولعمري إنها كانت فاحشة ومنكرًا وبغيًا، ضاعف اللّه لمن سنها غضبًا ونكالا وخزيا، إجابة لدعوة نبيه: «وعاد من عاداه» وكانت سبب إسلام عثمان بن مظعون.