فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخطيب الشربيني:

ولما استقصى سبحانه وتعالى في شرح الوعد والوعيد والرغبة والترهيب أتبعه بقوله: {إنّ الله} أي: الملك المستجمع لصفات الكمال {يأمر بالعدل} قال ابن عباس: في بعض الروايات العدل شهادة أن لا إله إلا الله {والإحسان} أداء الفرائض، وقال في رواية أخرى: العدل خلع الأنداد والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك فإن كان مؤمنًا أحببت له أن يزداد إيمانًا وإن كان كافرًا أحببت له أن يكون أخاك في الإسلام، وقال في رواية ثالثة: العدل هو التوحيد والإحسان هو الإخلاص فيه وقال آخرون: يعني بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا تفعل إلا ما هو عدل ولا تقل إلا ما هو إحسان وأصل العدل المساواة في كل شيء من غير زيادة ولا نقصان فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر والإحسان أن تقابل الخير بأكثر منه والشرّ بأن تعفو عنه، وعن الشعبي قال عيسى ابن مريم: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، وقيل: العدل الإنصاف، والإنصاف أعدل من الاعتراف للمنعم بإنعامه، والإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وعن محمد بن كعب القرظي قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: صف لي العدل؟ فقلت: بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنًا وللمثل منهم أخًا وللنساء كذلك. {وإيتاء} أي: ومن الإحسان إيتاء {ذي القربى} أي: القرابة القربى والبعدى فيندب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن وتودّد، وروى أبو سلمة عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، إنّ أهل هذا البيت ليكونون تجارًا فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم».
ولما أمر تعالى بالمكارم نهى عن المساوئ بقوله تعالى: {وينهى عن الفحشاء} قال ابن عباس:، أي: الزنا، فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها، وقال غيره: الفحشاء ما قبح من القول والفعل فيدخل فيه الزنا وغيره من جميع الأقوال والأفعال المذمومة جميعها. {والمنكر} قال ابن عباس: يعني الشرك والكفر، وقال غيره: المنكر ما لا يعرف في شريعة أو سنة. {والبغي} هو الاستيلاء على الناس والتجبر عليهم قيل: إنّ أعجل المعاصي عقابًا البغي، ولو أنّ جبلين بغى أحدهما على الآخر لدك الباغي، ونص تعالى على البغي مع دخوله في المنكر اهتمامًا به، كما بدأ بالفحشاء لذلك، وقال ابن قتيبة في هذه الآية: العدل استواء السرّ والعلانية والإحسان أن تكون سريرته خيرًا من علانيته والفحشاء والمنكر والبغي أن تكون علانيته أحسن من سريرته، وقال بعض العلماء: إنّ الله تعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء، فذكر العدل وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وذكر في مقابلته الفحشاء وهو ما قبح من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان وهو أن يعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، وذكر في مقابلته المنكر وهو أن ينكر إحسان من أحسن إليه، وذكر إيتاء ذي القربى، والمراد به صلة القرابة والتودّد إليهم والشفقة عليهم وذكر في مقابلته البغي وهو أن يتكبر عليهم أو يظلمهم حقوقهم، ولما كان هذا المذكور من أبلغ المواعظ نبه عليه بقوله تعالى: {يعظكم} أي: يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة الثلاثة الأول وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ومجانبة الثلاثة الأخيرة وهي الفحشاء والمنكر والبغي. {لعلكم تذكرون} أي: لكي تتعظوا فتعملوا بما فيه رضا الله تعالى، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد وفيه ادغام التاء في الأصل في الذال، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أنه قال: أعظم آية في كتاب الله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم} [البقرة] وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل: {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان} وأكثر آية في كتاب الله تفويضًا: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2، 3] وأشدّ آية في كتاب الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} [الزمر: 53] الآية، وقال أهل المعاني: لما قال الله تعالى في الآية الأولى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} بيّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى به أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية.
وعن قتادة: ليس من خلق حسن كان من أهل الجاهلية يعملون به ويعظونه ويخشونه إلا أمر الله تعالى به وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه، وعن عكرمة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى آخر الآية. فقال له: يا ابن أخي أعد عليّ فأعادها عليه؟ فقال الوليد: والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، ولما تقرّرت هذه الجمل التي جمعت بجمعها المأمورات والمنهيات ما تضيق عنه الدفاتر والصدور، وشهد لها المعاندون من بلغاء العرب أنها بلغت من البلاغة مبلغًا يحصل به غاية السرور. ذكر بعض تلك الأقسام وبدأ بما هو مع جمعه أهمّ وهو الوفاء بالعهد بقوله تعالى: {وأوفوا} أي: أوقعوا الوفاء الذي لا وفاء في الحقيقة غيره {بعهد الله} أي: الملك الأعلى الذي عاهدكم عليه بأدلة العقل من التوحيد والبيع والإيمان وغيرها من أصول الدين وفروعه {إذا عاهدتم} بتقلبكم له بإذعانكم لامتثاله {ولا تنقضوا الأيمان} واحترز عن لغو اليمين بقوله تعالى: {بعد توكيدها} أي: تشديدها فتحنثوا فيها، وفي ذلك دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين لأنه أعم منه، وقرأ أبو عمرو بادغام الدال في التاء بخلاف عنه. {و} الحال أنكم {قد جعلتم الله} أي: الذي له العظمة كلها {عليكم كفيلًا} أي: شاهدًا ورقيبًا، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالادغام، وعن جابر رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان من أسلم بايع على الإسلام فقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها} فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. {إنّ الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {يعلم ما تفعلون} من وفاء العهد ونقضه. ثم ضرب الله تعالى لنقض العهد مثلًا فقال: {ولا تكونوا} أي: في نقض العهد {كالتي نقضت غزلها} أي: ما غزلته فهو مصدر بمعنى المفعول {من بعد قوّة} أي: إبرام وإحكام، وقوله تعالى: {أنكاثًا} جمع نكث وهو ما ينقض من الغزل والحبل. قال مقاتل: هذه إمرأة من قريش يقال لها: رائطة، وقيل: ريطة وتلقب بجعواء وكان خرقاء حمقاء لها وسوسة اتخذت مغزلًا قدر ذراع وصنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن وكان هذا دأبها، وقال السدّي: كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة تغزل فإذا برمت غزلها نقضته، وقال مجاهد: نقضت حبلها بعد إبرامها إياه، وقال قتادة: لو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم ما أحمق هذه، وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده، وقال في قوله تعالى: {تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم} خيانة وغدرًا انتهى، والدخل ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد، وقيل: الدخل والدغل أن يظهر الرجل الوفاء بالعهد ويبطن نقضه وإنما كانوا يفعلون ذلك {أن} أي: بسبب أن {تكون} أو مخافة أن تكون، وتكون يجوز أن تكون تامّة فتكون {أمّة} أي: جماعة فاعلها وأن تكون ناقصة فتكون أمّة اسمها و{هي} مبتدأ و{أربى} أي: أكثر {من أمّة} خبره، والجملة في محل نصب على الحال على الوجه الأوّل وفي موضع الخبر على الثاني، وأربى مأخوذ من ربا الشيء يربو إذا زاد، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوّة وفي الشرف. قال مجاهد: وكانوا يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأوّلين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز فنهاهم الله تعالى عن ذلك {إنما يبلوكم الله} الذي له الملك كله، أي: يختبركم {به} أي: يعاملكم معاملة المختبر ليظهر للناس تمسككم بالوفاء وانخلاعكم عنه اعتمادًا على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين أو غيرهم مع قدرته سبحانه وتعالى على ما يريد فيوشك أن يعاقب بالمخالفة فيضعف القويّ ويقلل الكثير ويكثر القليل. {وليبينن لكم} أي: إذا تجلى لفصل القضاء {يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} أي: إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب، فاحذروا يوم العرض على مالك السموات والأرض، وأنّ من نوقش الحساب يهلك.
{ولو شاء الله} أي: الملك الأعلى الذي لا أثر لأحد معه أن يجعلكم أمّة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه {لجعلكم أمّة واحدة} أي: متفقة على أمر واحد وهو دين الإسلام {ولكن} لم يشأ ذلك بل شاء اختلافكم فهو تعالى: {يضلّ من يشاء} عدلًا منه تعالى لأنه تامّ الملك، ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات {ويهدي} بفضله {من يشاء} ولو كان على أخس الحالات والأحوال فبذلك تكونون مختلفين لا يسئل عما يفعل سبحانه وتعالى: {ولتسئلنّ عما كنتم تعملون} في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بعدله تعالى، ولما حذر سبحانه وتعالى عن نقض العهد والأيمان مطلقًا قال تعالى: {ولا تتخذوا أيمانكم دخلًا} أي: فسادًا ومكرًا وخديعة {بينكم} وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الأيمان وإلا لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أقدموا عليها فلهذا المعنى قال المفسرون: المراد نهي الذين بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد لأنّ قوله تعالى: {فتزلَّ} أي: فيكون ذلك سببًا لأن تزل {قدم} هي في غاية العظمة {بعد ثبوتها} أي: عن مركزها التي كانت به من دين أو دنيا فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها لا يليق بنقض عهد قبله وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وبشرائعه. تنبيه: فتزل منصوب بإضمار أن على جواب النهي وزلل القدم مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية أو سقط في ورطة بعد سلامة أو محنة بعد نعمة {وتذوقوا السوء} أي: العذاب في الدنيا {بما} أي: بسبب ما {صددتم} أي: أنفسكم ومنعتم بأيمانكم التي قد أردتم بها الإفساد وخفاء الحق. {عن سبيل الله} أي: دينه وذلك أنّ من نقض العهد سهل على غيره طرق نقض العهد فيستن به {ولكم} مع ذلك {عذاب عظيم} أي: ثابت غير منفك إذا متم على ذلك ثم أكد سبحانه وتعالى هذا التحذير بقوله تعالى: {ولا تشتروا} أي: ولا تكلفوا أنفسكم لجاجًا وتركًا للنظر أن تأخذوا وتستبدلوا. {بعهد الله} الذي له الكمال كله {ثمنًا قليلًا} أي: من حطام الدنيا وإن كنتم ترونه كثيرًا ثم علل قلته بقوله تعالى: {إنما عند الله} أي: الذي له الجلال والإكرام من ثواب الدارين {هو خير لكم} ولا يعدل عن الخير إلى غيره إلا لجوج ناقص العقل، ثم شرط علم خيريته لكونهم من ذوي العلم بقوله تعالى: {إن كنتم تعلمون} أي: إن كنتم من أهل العلم والتمييز فتعلمون فضل ما بين العوضين ثم بين ذلك بقوله تعالى: {ما عندكم} أي: من متاع الدنيا ولذاتها {ينفد} أي: يفنى فصاحبه منغص العيش أشدّ ما يكون به اغتباطًا بانقطاعه {وما عند الله} أي: الذي له الأمر كله من ثواب الآخرة ونعيم الجنة {باق} أي: دائم. روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب دنياه أضرّ بآخرته، ومن أحب آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى»، وقرأ ابن كثير باقي في الوقف بالياء، والباقون بغير ياء، وأمّا في الوصل فالجميع بالتنوين. {وليجزينّ الذين صبروا} على الوفاء بما يرضيه من الأوامر والنواهي في السرّاء والضرّاء. {أجرهم} أي: ثواب صبرهم {بأحسن ما كانوا يعملون} أي: بجزاء أحسن من أعمالهم أو يجزيهم على أحسن أعمالهم وذلك لأنّ المؤمن قد يأتي بالمباحات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شكّ أنّ الواجبات والمندوبات مما يثاب على فعلها لا على فعل المباحات.
وقرأ ابن كثير وعاصم بالنون قبل الجيم، أي: ولنجزين نحن والباقون بالياء، أي: وليجزين الله. ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في الإيمان بكل ما كان من شرائع الإسلام بقوله تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} إذ لا اعتداد بأعمال الكفار في استحقاق الثواب وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب. فإن قيل: من عمل صالحًا يفيد العموم فما فائدة من ذكر أو أنثى؟
أجيب: بأنه ذكر دفعًا للتخصيص بأحد الفريقين، واختلف في قوله تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة} فقال سعيد بن جبير وعطاء: هي الررزق الحلال، وقال مقاتل: هي العيش في الطاعة، وقال الحسن: هي القناعة لأنّ عيش المؤمن في الدنيا وإن كان فقيرًا أطيب من عيش الكافر وإن كان غنيًا، لأنّ المؤمن لما علم أنّ رزقه من عند الله تعالى وذلك بتقديره وتدبيره تعالى، وعرف أنّ الله تعالى محسن كريم حكيم يضع الأشياء في محلها فكان المؤمن راضيًا بقضاء الله وبما قدّره له ورزقه إياه، وعرف أنّ مصلحته في ذلك القدر الذي رزقه فاستراحت نفسه من الكدر والحرص فطاب عيشه بذلك، وأمّا الكافر والجاهل بهذه الأصول فدائم الحرص على طلب الرزق فيكون أبدًا في حزن وتعب وعناء وحرص في الدنيا ولا يناله من الرزق إلا ما قدّر له فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره، وقال السدّي: الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر لأنّ المؤمن يستريح بالموت من كدّ الدنيا وتعبها، وقال مجاهد وقتادة: هي الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وملك بلا هلك، وسعادة بلا شقاوة. فأثبت بهذا أنّ الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة، ولا مانع من أنّ المؤمن الكامل يحصل جميع ذلك ثم إنّ الله تعالى ختم الآية بقوله تعالى: {ولنجزينهم أجرهم} أي: في الدنيا والآخرة {بأحسن ما كانوا يعملون} أي: من الطاعة وقد سبق تفسيره، ولما قال تعالى: {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} أرشد به إلى العمل الذي به تخلص أعماله من الوسواس بقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن} أي: أردت قراءته {فاستعذ} أي: إن شئت جهرًا وإن شئت سرًّا. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: والإسرار أولى في الصلاة، وفي قول يجهر كما يفعل خارج الصلاة. {بالله} أي: سل الذي له الكمال كله أن يعيذك {من الشيطان} أي: المحترق باللعنة {الرجيم} أي: المطرود عن الرحمة من أن يصدّك بوساوسه عن اتباعه ويدخل في ذلك جميع المردة من الشياطين لأنّ لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله تعالى على ذلك، وقيل: المراد إبليس خاصة والاستعاذة بالله تعالى هي الاعتصام به، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من أمّته وظاهر الآية وجوب الاستعاذة، وإليه ذهب عطاء سواء كانت القراءة في الصلاة أم في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أنها سنة في الصلاة وغيرها والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة منها القراءة بدون ذكر تعوّذ كحديث البخاري وغيره عن أبي سعيد بن العلاء رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما منعك أن تجيبني؟ قال: كنت أصلي. قال ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} [الأنفال] ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن {الحمد لله رب العالمين}»، وفي رواية الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم نادى أبيًّا وأنه قال له: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: أبيّ: فقرأت {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت إلى آخرها»، وظاهر الآية يدل على أنّ الاستعاذة بعد القراءة وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول أبي هريرة وإليه ذهب مالك وداود الظاهريّ. قالوا: لأنّ قارئ القرآن يستحق ثوابًا عظيمًا وربما حصل الوسواس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أو لا، فإذا استعاذ بعد القرءاة اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصًا والذي ذهب إليه الأكثرون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار أنّ الاستعاذة مقدّمة على القراءة قالوا: ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله وتبعتهم على ذلك فلهذا قدّرت ذلك في الآية الكريمة، ومثل ذلك قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة] ومثله من الكلام إذا أكلت فسمّ،، أي: إذا أردت أن تأكل فقل: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا سافرت فتأهب، أي: إذا أردت السفر فتأهب، وأيضًا الوسوسة إنما تحصل في أثناء القراءة فتقديم الاستعاذة على القراءة لتذهب الوسوسة عنه أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها، ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنّ للشيطان قدرة على التصرّف في إتيان الإنسان أزال الله تعالى ذلك الوهم وبيّن أنه لا قدرة له ألبتة إلا على الوسوسة بقوله تعالى: {إنه ليس له سلطان} أي: بحيث لا يقدر المسلط عليه على الانفكاك عنه. {على الذين آمنوا} أي: بتوفيق ربهم لهم. {وعلى ربهم} وحده {يتوكلون} أي: على أوليائه المؤمنين به والمتوكلين عليه، فإنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته، وعن سفيان الثوريّ قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم، ثم وصل تعالى بذلك ما أفهمه من أنّ له سلطانًا على غيرهم بقوله: {إنما سلطانه} أي: الذي يتمكن به غاية التمكن بإمكان الله تعالى له: {على الذين يتولونه} أي: يجيبونه ويطيعونه {والذين هم به} أي: بالله تعالى: {مشركون} وقيل الضمير راجع إلى الشيطان والمعنى هم بسببه مشركون بالله، ولما كان المشركون إذا نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ناسخة لها يقولون إن محمدًا يستهزئ بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدًا ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه نزل.